حربٌ عالقة في رأس المكان / شيرو هِندى

شيرو هندى

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاص بالنسخة الورقيَّة / العدد الرابع/

 

**
بدأ الأمر يعنيني وكأني المسؤول عن إضراب السماء عن المطر، (في الحلم حشدٌ من الناس يبدو عليهم الإذهال، بأيدٍ متسائلة وأفواهٍ تُصْدِرُ لَغواً واسعاً، كلٌّ منهم يحمل عصا طويلة يلمس بها بطناً كبيرة تحجب السماء.
**
لديَّ غرفة من طين، و بناءات من الإسمَنتِ رزينة وحصينة تحيط بمملكتي الهشَّة، أرانب عديدة تواظب الحفر في الليل تحت غرفتي، فترات قصيرة من الهدوء تُدرَك حين تتبادل مهامَ الحفر فيما بينها، يستغلُّ أبي غيابي المتكرر ليحيط المكان في كل مرة بمساحات من الإسمنت زاعمَاً أنها تحولُ دونَ غزو الأرانب والحشرات، إسمنتٌ فضّي يحمله أبي من الفائض عن جَبلة العمارة المقابلة لبيتنا، تَشتُمُني أمي مُمازِحَةً حين أُبدي استيائي في كل مرّة من توسع فكرة أبي، إنه يستغلُّ حبي له، وأمي تُذكِّرني بأفضالهِ الكبيرة عليّْ.
**
ماتَ مدرّس الرياضيات بعد حوارٍ صامت مع سرطان الدم، بطريقةٍ غريبة كنتُ حاضراً أمام منزلهِ حينَ وصولهِ من دمشق، وسط نواحٍ صاخب تتبعت مرثية تتساءل ما إذا كان الميت سيأتي حاملاً الباذنجان لتصنع له صاحبة الصوت (مكدوساً)، منهية جملتها الطويلة بمواءٍ قاتل، بعد أن استقرَّ جسده في قعر الحفرة المُعدَّةِ مُسبقاً ،بدا الترابُ يَنهمر بفعل الرفوش تغرف من هشاشة المحيط تراباً وحجراً وهواء، انتهزت بدوري فرصة لبذل جهدِ يبعث شيئاً من الحرارة في جوفي، نادى صوتٌ عبر كثافة الأجساد الذكور بأن لا شيء يدوم وثمَّة موتٌ فانبعاثٌ فموتٌ فانبعاث…قالها بحصافة الدعاء ومهارة المحترف، ذاكراً في كل مرَّة اسم المتوفى واسم أُمّه..
**
يردد المؤدي الكردي للمرَّة العشرين بإيعازٍ مني وانصياع مطلق من الحاسوب أغنيةً تقول: فليكُن القلبُ الشقيُّ مُتيَّماً… حينها، ليكن المرء حاملاً صُرَّة الشحَّاذ على ظهره، يتسوَّل بعيداً في الغربة، بين اثني عشر بلد أجنبي روسي، قاصداً منازل يملكها أناسٌ قُساة، وبصُرَّةٍ بالية حيث تتبعثرُ الغَلَّة، و ليكن الملجأ حائط منازل العبيد، والفراش جلد القنافذ، والغطاءُ نباتاً شائكاً، والوسادةُ من حجر، في تلك القرى الروسيَّة البعيدة,فقط ليكُن القلبُ الشَقيُّ مُتَيَّماً،

أيا أيُّها القلب … أيُّها القلب ..
**
خالي ينام في غرفتي، في صباحٍ باكر لمحتهُ يبتسم في نومه، نظَّارته تترك أثراً أحمرَ على بَشرته الدهنيَّة البيضاء عند أعلى انفه حيث يتوضَّعُ المسندان المطاطيَّان، يُنهي كتاباً كاملاً قبلَ أن ينام، لقد سَقَطَ مؤخَّراً من حربٍ عالقة في رأس المكان، في الجهة المقابلة لغيوم قامشلو الافتراضية، يعتني بمدفأة الحطب في غرفتي، ويُجري مكالمَاتٍ صامتة عبر الهاتف اللاسلكي، يَنصُتُ فيها الى صوت فتياتٍ يافعات، أخبرتهُ بأنَّني لم أكُ أعلمُ في البداية أنَّ مدرّس الرياضيات المتوفى هو نفسه الذي اقتلعَ بِضع شعيراتٍ من صدغي لأنّي سهوتُ عن ترقيم سؤالٍ كنتُ الوحيدَ الذي أجادَ حلَّهْ من بين تلاميذ الصف السادس قبل سنينٍ خَلَت .
**
في فراشين متقاربين، المدفأةُ الكهربائية عند أقدامنا، خلفنا مِصْطَبَةٌ من الكتب المبعثرة بلغاتٍ عديدة ماعدا العربية، يبدأ هو بترجمةٍ فوريَّة من الإنكليزية الى العربية لإحدى كتب (هنري ميلر) “وسطَ مدينةٍ كبيرة وعبرَ أنفاقٍ عديدة وجسور مرتفعة يسرد ميلر مستويات عديدة من الرؤية المتخيلة والحقيقية مانحاً كلماته روحاً واهنة تتبدَّدُ رويداً رويداً لتُفضي بالنهاية الى حزنهِ الغامِضْ”, لم أتجرَّأ على طلب التدخين، ولا حتى أن يتوقف عن سخائهِ في الترجمة، بينما الثلج يتكدَّسُ في الخارج، وعليَّ أن أمضي يوماً جميلاً آخرَ مُجبَرَاً، برفقة أحاديثه المفصَّلةِ عن السينما، يتوقَّفُ فجأةً طالباً مني أن أتوقف عن مناداته بلقبه اعتباراً من الغد، تظاهرتُ بالنوم، لم تفلح خدعتي، اقترحت عليه رغبتي برفقته لزيارة قبر والدته، شهقَ بفزع، نعتني بالوحش، شَدَّ اللحاف وأدارَ ظَهرهُ مُمْتَعِضَاً، مُتَمْتِمَاً أسماءَ حيواناتٍ عِدَّة.