خاص بالنسخة الورقيَّة / العدد الرابع/
التسامح قيمةٌ اجتماعيّة عُليا, وحاجةٌ ضروريّة لإعادةِ التوازُن النفسي لمجتمعاتنا التي تنامت فيها أطروحات الكراهيّة والتعصُّب، والعنف، وإقصاء الآخر, فبتنا اليوم بحاجة ماسة لشحن نفسيات شبابنا وأبناء مجتمعنا بقيم قبول الآخر، والابتعاد عن التطرُّف والتعصُّب والتمييز العنصري, فكلّ الشعوب تسعى اليوم لإزالة الحواجز السياسيّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة بينها, بهدف التقارب والتواصل وتحقيق المصالح المشتركة عبرَ ثقافة التسامح وتبني أساليب الحوار والتفاهم, وصياغة فلسفة الحياة الآمنة الكريمة التي تقوم على مبدأ” أنا وأنت” بدلاً من منهج العنف المدمّر, وقانون الحرب الذي يقوم على مبدأ ” إمّا أنا وإمّا أنت”, بمعنى أنا أنهي وجودك وإمّا أن تنهي وجود, حيثُ تستيقظُ معه كافة الأحاسيس والمشاعر والغرائز المدمّرة في نفس الإنسان, ويشعر المواطن أن حياته وأمنه في خطر شديد, وبذلك ينتج لدينا مجتمع الندرة وفقدان الأمن والسلام الاجتماعي.
وإذا كان القادة السياسيون معنيين بالتقارب لتحقيق مصالح شعوبهم فإنّ أهل الفكر والثقافة ورموز الأديان ومفكريها, هم الأجدر بغرس قيم التسامُح وقبول الآخر في نفوس أتباعهم, بما يحقّق إمكانية التعايش وحسن الجوار والتآخي والتعاون في نشر الفضائل والقيم الرفيعة, ونبذ ثقافة إلغاء الآخر والتعتيم على وجوده وخصوصيته, كانت هذه مقدمة ضروريّة لأقول إنّنا في هذه الأيام أكثر احتياجاً من أيّ وقت مضى – ولاسيما ما يجري هنا وهناك من دعوات مشبوهة- إلى تكريس “ثقافة التسامح” في مجتمعاتنا وتعاملاتنا وسلوكياتنا. إنّ البداية الحقيقيّة – في تصوُّري- لتعزيز القيم النبيلة تبدأ من الوسط الصغير, ومن ثمّ تمتدُّ تلك الثقافة إلى المؤسّسات التعليميّة كالمدارس والمعاهد والجامعات.
ولكي تنمو ثقافة التسامح ونحوّلها إلى قناعات ثابتة لا شعارات تقليدية, علينا أن نشجّع التعليم المنفتح على كلّ الثقافات الإنسانية, والتثقيف المعزَّز لكرامة الإنسان. وكذلك يجب أن يتكاتف الجميع لإشاعة قيَمِهِ عبْر الخطب والمواعظ والتغنّي بالأمجاد التاريخيّة, وبالأقوال المأثورة لعظمائنا.
الذين أكّدوا مراراً على ترسيخ قيم التسامح والإخاء الإنساني, هذا لا يجدي نفعاً إذا كانت البيئة المجتمعيّة المحيطة غير متسامحة, وكذلك علينا أن نَعْلَمَ أنّ عقول الناس ونفوسهم ومن ثمّ سلوكيّاتهم لن تتغيّر بقرارات فوقيّة, لذا لا بُدّ من تغيير البيئة المحيطة عبْرَ المفاصل الحاكمة للثقافة المجتمعيَّة, وهي مفاصل ستّة: (المنبر التربوي- التعليمي- الديني- الإعلامي- التشريعي- والسياسي), فالله سبحانه وتعالى “لا يُغيّرَ ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم”, علينا أن نُدرك أنّ قيم التسامح والقبول بالآخر هي في النهاية (محّصلة ونتيجة) لتفاعل المنابر الستّة في إحداث التغيير المجتمعي, ليست سبباً, فهي محصلة أو إفراز أو ثمرة لتركيبة مجتمعيَّة متسامحة يحصل فيها الأفراد على حقوقهم المشروعة على حدّ سواء, ولا معنى للتسامح إذا كانت تركيبة المجتمعيّة السياسيّة، والاقتصاديّة، والفكريّة غير متسامحة يسودها التعصُّب، والتكفير، والتخوين، ولا قيمة للتسامح في مجتمع تعاني فيه قطَّاعات عدّة هضماً في حقوقها، وكذلك ستبقى قيم التسامح والحوار واحترام الآخر معلَّقة في الفضاء المجتمعي لا تُترجم على أرض. في الواقع, إذا كان المجتمع يتقبّل (العنف) أسلوباً في حلّ مشكلاته, وإذا كانت المرأة محكومة بعلوية الرجل ونزواته, وكذلك فمنظومة التعليم في مجتمعاتنا بوضعها الراهن والقائم على مبدأ ” اللون الواحد الأحادي الجانب أعجز من أن يقوم بهذه المهمّة”, إذ لا بُدّ من تفكيك بنية التفكير الأحادي الجانب لإفساح المجال أمام ثقافة التسامح.
إذاً, التسامح ضرورة اجتماعيّة وسياسيّة وقانونيّة وليس تنازُلاً أو تفضُّلاً من طائفة لأخرى, فثقافة التسامُح منظومة حقوقيّة متكاملة, وهي حاجة حيويّة لمجتمعاتنا المنكوبة بأمراض التعصُّب، والتطرُّف، والإقصاء، والتمييز…. وليست مجرَّد شعار نتغنّى به, وضرورة لاستعادة مجتمعاتنا توازنها النفسي والفكري.
أمّا عالميا فقد أصبحت “التسامُح” صفة شاملة تُعرف بها ثقافة سياسيّة متحضّرة وسلوك اجتماعي مميّز ومضاد لكلِّ صفات الاستعلاء والتفرقة مثلما هو معادٍ للضغط والقهر وفرض الآراء بالقوّة والضغط لتغيير العقيدة إنقاذاً من الجوع أو الفقر. حيث تنتعش كتابات مفكري الغرب الأحرار بآراء في هذا المجال مثل جان جاك روسو و فولتير” استعداده لأن يعطي حياته ثمناً لأن يقولَ خصمُه رأيَه” .
أخيراً, التسامُح وسيلة للوصول إلى عالَم جديد, عَالَم خالٍ من الحروب وانتهاكات حقوق الإنسان أينما كان, وهو أسلوب للتسامح بين الدول والأفراد من أجل تبادُل المصالح واستغلال الموارد الطبيعيّة, وفي مُناخ التسامُح تزدهر العلوم والآداب والفنون, ويشعر الجميع بالانتماء للجماعة الإنسانيّة، ويتعاونون لدرء الأخطار عن كوكب الأرض, وعلينا أن نعرف أنّه “لن تتحقّق للفرد حياة كريمة, ولن ينعم المجتمع بالأمن والأمان, ما لم تطغَ ثقافة التسامُح بين كلّ أفراد فسيفسائه”.