بعد ظهر أحد الأيام من الشهر الماضي، دخل رجل يعمل في المخابرات التركية إلى مركز للشرطة في فيينا معلناً تسليم نفسه وطلب الحماية.. كان اعترافه صادماً، حيث كشف الرجل أنه تلقى أوامر بإطلاق النار على سياسي نمساوي كردي، وهو ما لا يريده. وأضاف أنه أُجبر في السابق على الإدلاء بشهادة زور لإدانة موظف في القنصلية الأميركية في اسطنبول، حسب ما روته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية.
واعتبرت الصحيفة أن ادعاءات هذا الرجل الذي عرّف عن نفسه باسم فياز أوزتورك، إن صحَّت، “توفر نظرة ثاقبة جديدة على المدى الذي يكون فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مستعداً للذهاب لملاحقة أعدائه”. وقد يؤدي اعتراف أوزتورك، المفصَّل في تقرير الشرطة الذي اطلعت عليه صحيفة “نيويورك تايمز”، إلى الشك في صحة إدانة متين توبوز الذي عمل في وزارة الخارجية الأميركية وإدارة مكافحة المخدرات في اسطنبول، والذي حكمت عليه في يونيو الماضي بالسجن لأكثر من ثماني سنوات بتهمة مساعدة جماعة إرهابية مسلحة.
وتعتبر قضية توبوز واحدة من عدة قضايا ضد أميركيين وموظفين حكوميين أميركيين في تركيا، يؤكد المسؤولون الأميركيون أن لا أساس لها وأنهم يرون أنها محاولة من قبل أردوغان لممارسة نفوذه في علاقاته العدائية المتزايدة مع الولايات المتحدة.
وأضاف تقرير “نيويورك تايمز”: “لقد ترافق استبداد أردوغان المتنامي خلال العقد الماضي مع حملة عدوانية ضد خصومه في الداخل والخارج، والتي بدأت عندما اختلف مع الاتحاد الأوروبي واشتدت بعد الانقلاب الفاشل في عام 2016 الذي ألقى الرئيس باللوم فيه على الولايات المتحدة وعلى رجل الدين المقيم فيها فتح الله غولن”.
وأوضح التقرير أن حملة القمع في تركيا أدت إلى سجن عشرات الآلاف من خصوم أردوغان السياسيين، في الغالب بناءً على أدلة واهية أو ملفقة. وفي الخارج تورطت تركيا في عمليات استرجاع قسرية لأكثر من 100 من أنصار غولن. كما أكد محققون فرنسيون أن تركيا وصلت لحد اغتيال ثلاثة مقاتلين أكراد في باريس في عام 2013. وقد تلقى أتراك معارضون لأردوغان يعيشون في الخارج إخطارات عبر الإنتربول بصدور مذكرات اعتقال بحقهم، كما اشتكوا من مضايقات ومراقبة عملاء أتراك لهم.
ولطالما كانت الحكومة النمساوية قلقة بشأن نفوذ المخابرات التركية في النمسا، ودقّت قضية فياز أوزتورك ناقوس الخطر في هذا السياق. وقال كارل نهامر، وزير الداخلية النمساوي لصحيفة “نيويورك تايمز” أمس الثلاثاء: “إننا نأخذ هذا الأمر على محمل الجد”، رافضاً التعليق على تفاصيل القضية، حيث إن التحقيق فيها مستمر.
بدوره، رفض مكتب المدعي العام في فيينا التعليق، قائلاً في بيان أرسل بالبريد الإلكتروني، إن القضية حساسة للغاية لدرجة أنها “سرية”. من جهته، قال مسؤول حكومي كبير مطلع على القضية، وتحدث مع الصحيفة شريطة عدم الكشف عن هويته، إنه إذا تم تأكيد وجود مؤامرة للهجوم على سياسي نمساوي كردي، “فسيكون ذلك إشارة إلى مستوى جديد من التدخل التركي في النمسا”.
وفي الشهر الماضي، كانت لجنة خاصة للشرطة النمساوية قد خلصت إلى أن المخابرات التركية جندت محرضين للمساعدة على إثارة اشتباكات عنيفة خلال احتجاج كردي في شارع في منطقة فافوريتين في فيينا في يونيو الماضي وجمع معلومات عن المتظاهرين. وفي ذلك الوقت، قال نهامر: “التجسس والتدخل التركي في ممارسة الحقوق الديمقراطية لا مكان لهما في النمسا”. كما قالت وزارة الداخلية إن هناك حوالي 270 ألف شخص من أصول تركية في النمسا، وحوالي ثلثهم من الأكراد. وكانت سوزان راب، وزيرة الاندماج النمساوية، أكثر صراحة حيث قالت: “النمسا أصبحت هدفا للتجسس التركي.. ذراع أردوغان الطويلة تصل إلى مدينة فيينا فافوريتين”.
وعندما سلم أوزتورك نفسه في 15 سبتمبر الماضي، أخبر الشرطة أنه تقاعد من وظيفة امتدت لفترة طويلة في وكالة المخابرات التركية المعروفة باسم MIT، ولكن تم تكليفه مؤخراً بتنفيذ هجوم على أيغول بيريفان أصلان وهي نائبة سابقة عن “حزب الخضر” النمساوي من أصل كردي وناقدة بارزة لأردوغان. ومنذ ذلك الحين تم اعتقاله من قبل المدعين النمساويين، الذين يحققون معه الآن بتهمة العمل في جهاز استخبارات عسكري أجنبي.
وقال أوزتورك إنه في أوائل سبتمبر 2017، طُلب منه التوقيع على إفادة شاهدة ضد توبوز، حيث تم تهديده بالذهاب للسجن إن لم يفعل ذلك. وأضاف أوزتورك: “لقد وضعوني بالقوة كشاهد، ووضعوا أمامي ورقة فارغة، ووقعت عليها.. وإلا كنت سأذهب إلى السجن مع متين توبوز”. وأضاف: “في تركيا، يفعلون ذلك دائماً بهذه الطريقة”.
كما قال أوزتورك إنه تلقى أوامر بإطلاق النار على أصلان حيث تم الاتصال به لأول مرة للحصول على هذه المهمة من قبل المدعي العام التركي في اسطنبول في عام 2018. وكان من المفترض أن ينفذ الهجوم في مارس الماضي، لكن الإغلاق أعاق سفره إلى فيينا، كما أخبر الشرطة. وقال أوزتورك، الذي يحمل جواز سفر إيطالياً، إنه علق في ريميني بإيطاليا حيث انتهى به الأمر بكسر في إحدى ساقيه في حادث. ثم قال إنه في أغسطس الماضي، اتصل به رجل عبر تطبيق “واتساب” وطلب منه السفر إلى بلغراد في صربيا، ومقابلة أحد معارفه في مقهى تركي.
ولدى سؤاله من قبل الشرطة عن سبب تسليمه لنفسه، قال أوزتورك فعل ذلك لإنقاذ نفسه. وتابع: “أنا لا أحب هذا النوع من الأشياء، أنا لست قاتلا مأجورا”. كما حدد أوزتورك أهدافًا أخرى كانت قد أعطيت له بالإضافة إلى الهجوم على أصلان. وفي هذا السياق، قال بيتر بيلز، ناشر المجلة الإلكترونية ZackZack التي كانت أول من نشر أخبار عن أوزتورك، إن الشرطة أخبرته أنه أحد هؤلاء المستهدفين وعرضت عليه الحماية.
وكان بيلز، وهو أيضاً نائب سابق عن “حزب الخضر”، عضواً في لجنة الرقابة على المخابرات وهو ناقد قديم وبارز لأردوغان، خاصة في ما يتعلق بمعاملته للأكراد.