المنطقة الكردية بين رحى أردوغان والدول الكبرى

د. محمود عباس

 لا نستبعد أن تعقد روسيا صفقة مع تركيا، مقايضة ناكورنيا كرباغ على جزء من شرق الفرات، مثل التي تمت على عفرين والباب وجرابلس وسري كانييه وكري سبي، فيما إذا لم تتم الموافقة على جنوب إدلب، وترفض إعادة بنود اتفاقية سوتشي الأخيرة، والتي تم فيها السماح لتركيا باحتلال شرق الفرات، نستشف هذا الاحتمال من التردد الروسي المريب، والصمت الأمريكي غير العادي أمام القضايا الدولية الساخنة، التي يتلاعب بها تركيا دون رادع يذكر، كقضية شرق البحر الأبيض المتوسط، وخلافاتها مع اليونان ومساعدتها المباشرة لأذربيجان في حربها مع أرمينيا.

 كثيرة هي المقايضات والصفقات التجارية على جغرافية كردستان والقضية الكردية، وخاصة جنوب غرب كردستان، والتي أصبحت في العقد الأخير من بين أحد أهم قضايا الشرق الأوسط حضوراً، وكثيرا ما تتصدر الإعلام، على مستوى المنطقة أو على المستويات الدولية، وللسلطات المحتلة لكردستان دور كبير فيها؛ إلى جانب تضحيات الشعب الكردي، فالحالة الأولى هي نتيجة لمحاولات هدمهم للمكتسبات التي يحصل عليها الشعب الكردي، أو لتحركاتهم الدبلوماسية للتغطية على إنكارهم للقضية الكردستانية، في مرحلة لم تعد هناك حدود تقيد الإعلام.

وأردوغان هو أكثر من يتصدر الحديث عن الكرد، مقارنة برؤساء إيران وسوريا والعراق، سلطات محتلي كردستان، في الأروقة الدبلوماسية، والعلاقات السياسية التركية والدولية؛ وعلى الإعلام، وكما يعلم الجميع، جلها تتركز على أن كرد روچآڤا بحراكه يمثلون نوع من الإرهاب المهدد لأمن الدولة التركية، ففي عرفه كل حركة أو معارضة ضد سلطته مدرجة في خانة الإرهاب، وربما فيها نوع من الحقيقة لأنها ترهبه شخصيا، ويكاد أن يسمم الشعب التركي بهذا المفهوم الخبيث.

 فالبارحة وبمناسبة افتتاح سد ريحانلي في ولاية هاتاي (اسكندرونه) أعاد نفس الديباجة الكلامية المعروفة، الحديث عن الإرهاب دون تحديد الاسم، وأمن تركيا، والوعود الدولية، والنفاق المعروف حول وقوفه إلى جانب الشعب السوري، ففي الحالة الأولى أصبح معروفا للعالم أنه لا إرهاب في عرف أردوغان إلا الإرهاب الكردي، والدول المعنية هما أمريكا وروسيا، ويقصد بأمن تركيا أمنه كشخص، كرئيس، وكسلطة، أما عن الشعب السوري فالحديث عن الدور التركي، شجونها تملء كتب مثلها مثل بشائع سلطة بشار الإجرامية وادعاءاته في حماية الشعوب السورية، وفي الواقع وتحت هذه الكلمات المخادعة بدأ يحول المجتمع السوري إلى منبع للمرتزقين من جهة، وتخريج شريحة سياسية لا تأنبها ضميرها في بيع الوطن وخيانة الأمة.

 خلفيات عدة وراء هذا التصريح، وهي نسخة للعشرات من سابقاتها، والتي كررها مشدداً عليها متحدثة الرسمي إبراهيم كالن في تصريحات لـ “قناة 7” التركية، ففيما لو تم تحليله من:

1-  بعده الجغرافي-الاقتصادي، لوجدناه تغطية على قضية المياه مع سوريا، من خلال تحريك المشاكل السياسية الساخنة، والتي أراد بها إلهاء الرأي العام السوري، فكما نعرف أن أغلب المنظمات العالمية أصبحت تعلم أن تركيا تحتجز معظم مصادر المياه المتجهة إلى الأراضي السورية، وقد قطعت حتى الآن قرابة 90% من حصة سوريا من الموارد المائية التي تغذي شمال سوريا، إما عن طريق السدود المحلية أو الكبرى، أو تغيير اتجاه مجريات الأنهار، وحصة سوريا والعراق من نهر الفرات ودجلة بعد سد أتاتورك شبه كارثي، فرؤية المجريين على حواف مدينة بغداد تقشعر لها الأبدان، والسد الذي تم افتتاحه، وأطلق بمناسبته تهديده الأخير، يعد من السدود المتوسطة والذي كان يجب أن يتم الحوار على حصة سوريا من مياهها؟ إلى جانب غيرها من القضايا المائية؟

2- أما من حيث البعد السياسي، فيحاول أن يستغل فرصة خلافات الأمريكيين على الانتخابات، ومرض دونالد ترمب المفاجئ، أملاً في إقناع روسيا السماح له التمدد في المنطقة الكردية، كبديل عن جنوب إدلب، والمتوقع أنه سيرضخ المعارضة المسلحة للتنازل عنها لسلطة بشار الأسد، قبل أن يتوصل الطرفان الكرديان إلى اتفاق ويتم تشكيل هيئات: دبلوماسية أو إدارية يمثلون الشعب الكردي وليس طرف حزبي، وبها قد ينقطع الطريق على حججه الحالية، وبالتالي سيضطر إلى البحث عن بديلها لمهاجمة طموحات الشعب الكردي، وهنا قد تكون الحجج غير مقنعة لأمريكا وأوروبا وروسيا.

3-  وكخطوات تمهيدية، تقوم تركيا في الفترة الأخيرة، باستخدام أساليب خبيثة، منها ضرب مكونات المجتمع السوري ببعضه، العرب بالكرد، والتركمان بالعرب وبالكرد، إلى جانب التحريض الطائفي، على خلفية محاولات تبنيه القيادة السنية، ففي السنة الأخيرة صعدت من تحريض المعارضة السورية على الحراك الكردي، بل وأدرجت معهم مجموعات صغيرة من الكرد، وعلى أثرها تتكرر: تهديدات الائتلاف السوري للمجلس الوطني الكردي، والتهجم على المفاوضات الكردية الكردية، وعلى الإدارة الذاتية، وذلك من خلال إعلامها وتصريحات قياداتها ومن على صفحات نشرتها اليومية، إلى أن بلغ بهم درجة عزل ممثلهم عن هيئة التفاوض، مع ذلك ظل المجلس الوطني محافظا على الرابط الوطني ولم يندرج إلى المهاترات الضحلة، ولا يهم هنا الأسباب بل المهم رد الفعل الذي لم تتوقعه تركيا، رغم أن البعض يدرجونه كتبعية وضعف، أو مصالح شخصية للبعض من قيادات المجلس الوطني الكردي، أو إملاءات كردستانية. 

4-  ومن حيث البعد الإعلامي، حاول التغطية على مناسبة مرور سنة على احتلال ما بين سري كانيه وكري سبي، من شرق المنطقة الكردية، وليقلل من التركيز الإعلامي عليه وعلى تجاوزات المرتزقة المدرجون تحت اسم الجيش الوطني السوري، وهنا يريد الضغط على روسيا لتجديد الصفقة التي تمت في مؤتمر سوتشي، أملا بتوسيع الرقعة التي سمح له احتلالها، وقد وضح هذه النزعة التوسعية في كلمته التي نشرها على صفحته في التويتر قائلا:  إن ” بعض الدول في منطقتنا لم تكن موجودة بالأمس، وربما لن تكون موجودة في المستقبل” ولا شك المعنية بها هي سوريا، حالما بزوالها، أمام صمت المعارضة السورية المخزي، للاحتفاظ بما يحتله وما يحاول التوسع فيه، بتسميات عصرية، وهو ما حدى ببشار الأسد، في مقابلته مع قناة (زفيزدا) الروسية، التهجم من جديد عليه، من باب الحرص على سلطته وليس بعدا وطنيا، بل أنه أحط من أتفه قيادات المعارضة في كل أبعاده، ذاكرا أن تركيا تعمل على تجزئة سوريا وتقسيمها واحتلال أجزاء منها.

5- أما عن الواقع الميداني وفي الأروقة الدبلوماسية، فأن صفقة جنوب إدلب بمناطق حول كري سبي وسري كانيه قد تكون مدار حوارات دبلوماسية، ومقولته إن البعض لا ينفذون وعودهم دلالة على أن هناك رفض روسي أمريكي حوله المسألة، إلى جانب أن روسيا تطالبه بوعده التخلص من المعارضة السورية العسكرية في إدلب، وهو ما حدا به تحويل بعض من تلك المنظمات إلى مرتزقة. وتظل هذه مثار شكوكنا، لأن احتمالية أن تتنازل روسيا ثانية لتركيا غير مقنعة، إلا إذا قامت تركيا بعقد صفقة على ناكورنيا كارباغ والمنطقة الكردية، وهي مثار جدل يمكن توقعها، فتركيا بإمكانها أن تضحي بمصالح أذربيجان مقابل الكرد.

 وهنا نستبعد حصول تركيا على وعود من جيمس جيفري باحتلال مناطق أخرى من المنطقة الكردية، رغم أن مطالب الأحزاب الكردية منه كانت هزيلة، بل وبائسة، ففي الوقت الذي كان عليهم عرض مشروع المنطقة الفيدرالية الكردستانية بكل مكونات المنطقة، والطلب منه حماية أمريكية، قدموا طلبات لا تتجاوز جغرافية الأحزاب، وهو ما يقلل من أهميتهم في العلاقات الدبلوماسية الدولية، الأمريكية والروسية، ولهذا لا بد من طرفي التفاوض الكردي، الإسراع في بلوغ توافق، مثلما طلبها منهم كل ممثلي الخارجية الأمريكية، فكثيرا ما تلمح روسيا وأمريكا إلى ما تتطلبه مصالحهما ولا يفرضونها لكنهما لا يتغاضوه في حال الرفض أو عدم التنفيذ، لذا عليهم تنفيذ ما طلب منهم، وتشكيل هيئات دبلوماسية وإدارية وعسكرية تمثل الشعب الكردي وبمشاركة مكونات المنطقة، ويكون بيدهم مشروع منطقة فيدرالية متكاملة ضمن سوريا لا مركزية، يعرضونها على روسيا وأمريكا وعلى لجان الدستور، والتي تحدث عنها بشار الأسد في مقابلته، مهاجما تركيا على أنها تعمل على صياغتها بحيث يكون لها هيمنة على أجزاء من الجغرافية السورية، أي بما معناه تجزئتها، وعلى أثرها يرفض مسيرة الدستور الجارية، أي عمليا على الدستور المتوقع كتابته وعلى لجانها في جنيف الرحمة السلام، يكفيهم حصلوا على رواتب مغرية لشهور طويلة. وهنا فما سيصوغه الحراك الكردي على البعد الوطني، وبنظام فيدرالي، سيكون موضع اهتمام دولي، ولا نستبعد أن تكون المسودة الأكثر تداولا، فيما لو تم تكليف لجان مختصة بصياغتها.