نالين سلمان عبدو حقوقية وكاتبة من قامشلو
التاريخ ليس بغافل ريادة سوريا مطلع القرن العشرين في نثر الفكر النسوي، والتوطئة له في سائر العالم العربي.
اليوم ماهو واقع النسوية كفكر وحراك، مالها من مكنات وما تجابهه من عثرات، ومامدى معالجاتها للإنسان الأنثى في سوريا المهشمة بعد صراع دموي طال أمده.
الثورة السورية ممالاشك فيه ألقت بظلالها سلبًا وإيجابًاعلى الحالة النسوية التي كانت رغمًا عنها في سبات لأكثر من أربعة عقود، وعلى الأثر تكاثرت التنظيمات النسائية والنسوية، مستفيدًة من هشاشة النظام وضعف القبضة الأمنية،فهي في الداخل غير مرخصة غالبًا، و ممولة من الخارج سواء من حكومات بعينها أو من مؤسسات أوربية تشجع المجتمع المدني.
وفق أدنى أرقام الإحصائيات فأن أكثر من عشرة ملايين سوري وسورية نزحوا وهجروا وهاجروا ثلثهم نساء منشغلات بتأمين قوتهن اليومي، لا تسعفهن الظروف للمشاركة بفعالية نسوية مع رغبتهن المستترة بإلغاء التمييز الجندري السلبي بحقهم لا سيما في قوانين الأحوال الشخصية.
لعل النزوح كان أشد وطأة على السوريين من الهجرة،حيث طال الصراع في سوريا، وطالت بالتالي حالة عدم الاستقرار السكني والمعاشي، مما قلل من مستوى مشاركة النساء النازحات في الحراك النسوي بالمقارنة مع السوريات المهاجرات إلى أوروبا، حيث كان نشاطهن النسوي منتعش بالتوازي مع ظروفهن الحياتية الأفضل.
الثورات عادة تدمر الإرهاصات المعاشية، وتتماهى مع المزاجية الشعبية، وتهيأ لمناخ مجتمعي أكثر انفتاح، لكن مع طول أمد النزاع في سوريا حتمًا يطول الطريق إلى تكاتف النسويات السوريات، وينعكس ذلك على قلة الإلمام بالعمل النسوي، وكما في كل العالم العربي فالعامة في سوريا يستهلكون مصطلح النسوية دون إحاطة دقيقة بمفهومه، وما يفرق بين التنظيم النسائي والتنظيم النسوي، فالأول تجمع عدد من النساء للقيام بمشاريع معينة إغاثية ربما أو فتح ورشات تدريبية، غالبًا توجهها منصب على تمكين المرأة اقتصاديًا، بينما يدعو النسويون والنسويات لإقحام المرأة في الشأن العام والحياة السياسية، والحض على تغيير القوانين المهدرة لحيوات المرأة في الأسرة والمجتمع، بالإضافة لمطلب إحقاق تشريعات حساسة للجندر في كل القطاعات وحتى في مناهج الدراسة.
عشوائية التعاطي بالعمل النسوي والعمل النسائي دون التمييز بينهما لا تنتقص من منتجات النضالين، وتواتر زخمهما، وبالنهاية لا يلغي أحدهم الآخر ولا غنى لأحدهم عن الآخر.
تجد النسويات السوريات ذات ميول متأرجحة أمام تنازعٍ بين خطاب سياسي حداثوي مستعد لإعطاء النساء كوتة معينة، ودعاته من النخبة ومن السياسيين الذين ينادون بالنسوية كمغازلة عصرية للدول العظمى اللاعبة والمستحكمة بالأرض السورية، والتي تولي أهمية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حقوق المرأة، وخطاب آخر نسوي تقليدي يدعو للعدالة الجندرية في المجال السياسي والقانوني والمهني،مؤداه التمييز الإيجابي بين الجنسين أو لنقُلْ المساواة الإيجابية، وبعد تصاعد حدة الصراع في سوريا عام 2013، وتدخل الأطراف الدولية لحل النزاع فيها تم إطلاق مباحثات جنيف، ولم توفر كل من المعارضة والنظام جهدًا لإشراك أسماء نسوية(حزبية أو مستقلة أو مدنية) في صفوف الوفود المفاوضة، لكن سرعان ما تبين أن دورهن كان مخططًا له أن يكون شكليًا لا فاعلًا ومحركًا، عن ذلك تقول الباحثة لمى قنوت في كتابها المشاركة السياسية للمرأة السورية بين المتن والهامش: ((هناك فرق بين النساء في مراكز صنع القرار وصانعات التغيير، والهوة بينهما كبيرة بين من تدافع وتتماهى مع سلطات إقصائية ذكورية وتتحول أداة بيد الهيمنة الذكورية، ومن تسعى وتدافع عن حق الأخريات، وتخوض المعارك من أجلهن كجزء أصيل من معركة التحرر من الطغيان والاستبداد…)).
ثمة انفراج تحقق في سوريا بعد عام 2011 على صعيد ممارسة العمل التنظيمي، وتم ترخيص العديد من الجمعيات النسوية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام كمحافظات دمشق وحمص واللاذقية، لكنها لم تمتلك الجرأة على الخوض في الشأن العام على إطلاقه، وهندسة خط سياسي يمثلها.
عن ذلك تتحدث الدكتورة منى سلوم*2 وهي ناشطة مدنية قائلة:(( بعد عام 2011وجدت هوامش ومساحة لظهور منظمات مدنية نسوية، لكنها تبقى مكبلة لحين تغيير القوانين المجحفة بحق النساء، وورشات العمل التي تقام تحت مظلة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل نظرية أكثر منها فعلية )).
مؤخرًا وفي شهر آذار من عام 2020 صدر المرسوم رقم \2 \عن الحكومة السورية، ويقضي بإلغاء العذر المخفف في جرائم القتل بدافع الشرف، ومع أهمية هذا المرسوم لكنه صدر عن نظام فاقد للشرعية يحتجز في معتقلاته الآلاف من السوريات، لذا فهكذا مرسوم لا يعني تجاوبًا جديًا مع مطالب الناشطات السوريات، وهكذا نظام لن يكون مانحًا لفضاء رحب حتى للنسويات في مناطق سيطرته إلا حين يخدم الأمر مصالحه، أولا يكون مشروعهن ذو صبغة تنويرية كغضه النظرعن نشاط القبيسيات، حيث موالدهن و حلقاتهن الإرشادية في دمشق تحت مرأى النظام، يشجعن تعليم الإناث، لكن التعاليم والتوجهات التي يدعون لها دينية إسلامية بحتة لا تتقاطع مع كنه الحركات النسوية بالنظر لكونهن تجمع نسوي و نواة كتلتهن من النساء الأكاديميات، كمالا يرحبن بالتعاطي الفكري وحتى التنظيمي مع غيرهن من النسويات،مع ذلك يقبلن انضمام العضوات الجديدات لتقوى شوكتهن.
أما في الشمال الغربي من سوريا فتتقاسم السيطرة على إدلب وأجزاء من ريف حلب فصائل متشددة متعددة، تهاجم النسوية كفكر يتبنى بنظرهم سلوكيات غربية تخلخل بنيان المجتمع، وهي طعن في أحكام الشريعة وفق رؤياهم، ويغرمون النساء والفتيات لمجرد ظهور أكفهن أو أسفل أقدامهن، بالتأكيدلا صوت مؤثر للمرأة هناك، وإن كان يتم الاستفادة منها كيد عاملة، وفي أحسن الاحوال كقائمة بدور مرشدة لأحكام الشريعة.
خواء نسوي في الرقة ودير الزور وهما محافظتان عانتا من الحكم الداعشي الأسود حوالي ثلاث سنين، تجد النساء بعد خلاصهن من جهنم داعش يقبلن بأي شروط حياتية، فأي حياة هي أفضل بالتأكيد مما عانينه من قمع بأساليب وحشية كالرجم لأسباب تافهة.
ثمة حراك نسوي في شمال وشرق سوريا، وهو بالنظر لقدم عهده لايزال مرتبك مشتت لديه الكم ويفتقد للكيف ..تمتعض النسوية عمشة قادرو*3من ذلك وتردف قائلة: ((لا يزال أمامنا الكثير، ونضالنا الطويل لغرس الوعي في أذهان النساء لنيل حقوقهن أسوة بالرجل تحقق على ما يبدو فقط في مستويات التعليم العالي التي حققتها الكرديات، واستاء من مستوى الوعي الحقوقي لدى الفتيات الكرديات حين أتصفح كتاباتهن على وسائل التواصل الاجتماعي )).
الإدارة الذاتية للمنطقة آنفة الذكر أسست معهداً يقوم بتدريس علوم المرأة وفق اللغة الكردية يصطلح بـ jinologya، وجذبت هذه الإدارة آلاف الفتيات والنساء للعمل في صفوفها العسكرية، وفي قوى الأمن الداخلي (الآسايش)التابعة لها.
تعلل الكاتبة ميديا محمود في كتابها “العنف ضد المرأة الكردية نموذجا” *سبب إقدام الكرديات على حمل السلاح أكثر من باقي شعوب المنطقة قائلًة: (( بأنه إضافًة إلى مشاعر حب الوطن النبيلة ووطأة الاحساس بالقهر يرجع الزخم في إقبال الكرديات على التضحية بأنفسهم، والاستشهاد في سبيل الوطن إلى نوع من الاخفاق في التعبير عن الاضطهاد والقمع اللذين تعاني منهما، وذلك بسبب انعدام الديمقراطية وحرية التعبير))
إذاً” كسرت هذه الإدارة القواعد السائدة عن نمطية عمل المرأة في الذهنية المجتمعية، وأقرت (21) مادة لحفظ حقوق المرأة، لكن يبقى المأخذ عليها إنها لم تحظى بعد بإعتراف رسمي لا من النظام في دمشق ولا من أي دولة أخرى.
أوصال البلاد المقطعة لا تساعد في توحيد المنابر النسوية، وتضعف من خطى التنسيق النسوي من حيث الدعوية والممارسة، وبالمحصلة كما هو النشاط النسوي متفاوت الذروة من دولة لأخرى فهو متفاوت من منطقة لأخرى في ذات الدولة، وتحديداً هذا ماهو عليه الحال في سوريا التي تحتاج مناطق كثيرة فيها إلى زمن طويل حتى ينتعش الواقع النسوي فيها كمحافظات ريف دمشق وحلب ودرعا وإن خمدت نيران الحرب فيها نسبيًا.
في خضم كل هذه التحديات فأن المغالاة الجوفاء في المطالب المسندة للنسويات يخلق نوع من الرهاب المجتمعي منهن، والمجتمعات الشرقية لطالما تمسكت بسقف من الخصوصية والأخلاقيات الرافضة لسلوكيات معينة لازالت في قوقعة السجال حتى في الغرب، كالقبول بزواج الشواذ جنسيًا، لعل أدبيات الحراك النسوي السوري لهذه المرحلة من تاريخ سوريا أبعد ما تكون عن الخرق الحاد لقدسية المنظومة العرفية والدينية السائدة في سوريا.
النسوية feministتطور طبيعي لحركة تحرر المرأة، واحدى نتاجات الفكر الإنساني، وقد يراها البعض تطرفًا لما تدعو إليه من احقاق المساواة بين الجنسين، بالرغم من أن مطلب المساواة هذا تختلف حدة الأخذ به بين مجتمع وآخر، فبالتأكيد سوريا لا تشبه دولة مثل السويد من حيث المناخ المجتمعي، وإن تحدت السوريات قوالب النمطية الموكلة للنساء في العمل بأوجه باعثة أكثر على الاعتراف لها بمساواتها مع الرجل، كالعمل في ورش لصيانة الموبايل والحاسوب و…الخ، لكن يبدو أن النسويات في سوريا أحوج قبل أي شيء لتحقق السلم الأهلي والبدء بشكل جدي بمرحلة انتقالية سياسية حتى يمكنهن طرح أجنداتهن، وإحراز تقدم في مشروعهن النسوي .
دعا القرار الأممي 1325 الصادر عام 2000 عن الأمم المتحدة إلى مشاركة سياسية أوسع للمرأة في الحياة السياسية، لكنه بقي مجرد ورقة هامشية في حقائب النسويات اللواتي شاركن في المحافل الدولية حول القضية السورية، ويستهين البعض بجدوى ورشات العمل التمكينية، و يشككن بمن ينال استحقاق المشاركة فيها والإفادة منها، لكن البعض الآخر يراها قد لا تبدو ناجعة في البداية، وجهودًا مبعثرة لا تؤتي أكلها، لكن تواترها وتضافرها مع باقي تحركات المنظومة النسوية، ومع الاعتصامات والتظاهرات الهاتفة بسن قوانين معينة، قد تنتج بعد حين طائلاً للقضية النسوية، وبعد مخاض عسير استحقاقات للمرأة عمومًا.
اذاً “ثمة سلم يرسم مستويات عدة للطموح المنشود للناشطات النسويات السوريات، فإذا ناضلن سابقًا للحصول على حق التعليم والتصويت والترشح، الآن لهن مطالب أكثر جرأة أكثر خرق لتابويات مجتمعاتهن، فدومًا ثمة مرحلية قطعت بها كافة التيارات الفكرية الإنسانية، وسوريا بعد أكثر من تسع سنين من الصراع الدموي لا شك متأخرة عن ركب الدراسات النسوية، ومفتقرة لمناخ وطني وحدوي يستطيع تحقيق قفزة قانونية تستوعب الطاقات النسوية، وتعززها في هرم السلطة وصولًا إلى القواعدالشعبية.