حين يكون البلد رهيباً، واقعاً بين ترهيبَين قد يفوق كل منهما على حدة مجموع الترهيب الواقع على معظم الشعوب العربية، أولهما هو نظام آل الأسد بما ارتكبه في فترة حكمه ما قبل الثورة ثم ما ارتكبه منذ اندلاع ثورة السوريين حتى اليوم، وثانيهما هو تنظيم داعش بما استطاع ارتكابه في فترة وجيزة، وبما يمكن تخيّله من ارتكابات لاحقة. حين يكون بلد كسوريا رهيباً بهذه الشدة والفظاعة، فمن الطبيعي أن تفوق أعداد اللاجئين إلى خارج البلد الثلاثة ملايين. يصوّر «بلدنا الرهيب» قصّة واحد منهم، خرج بعدما صار البلد رهينة الإرهابَين، وبعدما «لم يعد في البلد غير الموت»، كما نسمع في الفيلم.
نال «بلدنا الرهيب» (80 دقيقة) مؤخراً الجائزة الكبرى في مهرجان مارسيليا الدولي، وهو فيلم وثائقي من إخراج محمد علي الأتاسي وزياد حمصي وإنتاج مؤسسة «بدايات» السورية المستقلة التي تُعنى بإنتاج أفلام ووثائقيات وفنون بصريّة.
يصوّر الفيلم رحلة الكاتب السوري ياسين الحاج صالح إلى المنفى، من مدينة دوما في الغوطة الشرقية مروراً بالقريتين متخلّلاً الطريق الصحراوي إلى الرقّة، ومنها إلى خارج البلد، وصولاً إلى اسطنبول.
رافق زياد حمصي الحاج صالح كمرافق له بعدما أصرّت زوجته سميرة الخليل على ذلك، اطمئناناً عليه، ثم كانت برفقة حمصي كاميرا لتوثيق الرحلة الصحراوية. اعتقل لاحقاً تنظيم داعش حمصي لشهرَين أثناء رجوعه من الرقة إلى الغوطة كمرافق لصحافيين أجانب، قبل ذلك لحقهم الأتاسي من بيروت إلى الرقة لاستكمال الفيلم في بيت شقيقة الحاج صالح. أضاف الاعتقال بعداً درامياً/ مأساوياً على حياة شخوص الفيلم، يُضاف إلى أبعاد أخرى نشاهدها أثناء الرحلة الممتدة لعشرين يوماً، منها اعتقال والد حمصي وشقيق الحاج صالح، وهذه الاعتقالات المتخلّلة لرحلة المنفى التي لا يعرف أصحابها أين وكيف سيكون حالهم في اليوم التالي، تصوّر الحال اليوميّة للسوريين حيث تستمر الاعتقالات بشكل مواز مع الخطف والقتل والقصف والتهجير، فمن لا يناله نصيب من هذه يناله من تلك، وإن لم تكن لا هذه ولا تلك يجدها في أهله.
وما يزيد هذا البلد وهذه الرحلة ترهيباً هي حقيقة أن الحاج صالح المعتقل السياسي السابق وأحد أبرز المثقفين السوريين الممثلين للثورة، أنه في إقامته في دمشق كان متخفيّاً كونه مطلوباً لنظام الأسد، كذلك في دوما التي تركها متوجهاً إلى الرقة المحرّرة تفادياً للاعتقال، ثم علم بسيطرة داعش على الرقة أثناء طريقه إليها فاضطرّ للتخفي هناك، إلى أن ترك المدينة إلى اسطنبول. فالفيلم الذي بدأ في حالة مقاومة لنظام الأسد وهي مرحلته الأولى، نجده يصوّر حالة مقاومة لتنظيم داعش في مرحلته اللاحقة، أمر لم يكن محسوباً، لينتهي المطاف بالفيلم والحاج صالح إلى استكمال المشروع/ المشوار من اسطنبول.
هذا تماماً ما مرّت وتمر به الثورة السورية، بمعناها الوطني التحرري الديمقراطي العلماني المواجه لفاشيتَين، الأسدية والداعشية، والذي تمثّله كتابات الحاج صالح وآخرين. فلا يكون الفيلم «فيلم طريق» بالمعنى الذي نراه في الكثير من الأفلام ضمن هذا التصنيف السينمائي، بل «فيلم طريق» لمسار الثورة السورية عبر هذه الرحلة، الثورة في مواجهاتها الأولى، في تخفّى ناشطيها ومثقفيها ثم في ظهورهم في الشوارع بين الناس كلّما لزم الأمر، في المظاهرات وفي حمل بعضهم للسلاح للقتال مع الجيش الحر كما فعل حمصي قبل أن يستبدل بندقية القنص بكاميرا. ثم في المواجهات اللاحقة للثورة، في بلد صار رهيباً مرّتَين.
الحاج صالح المعتقل لـ 16 عاماً في سجون النظام ومن بينها سجن تُدمر الأسوأ صيتاً، يقول أثناء تجواله في الغوطة بين الركام والدمار العمراني والبشري، حيث خلا المكان من أهله، بأن ما نراه هو «تعميم تُدمر على المجتمع السوري»، ولعلّها المقاربة الأكثر أمانة في تصوير حال البلد ما قبل الثورة وما بعدها، كأن يكون البلد قبلها سجناً أهله أسرى لدى النظام، متحكّم في أهوائهم ومصائرهم، لجدران بيوتهم آذان. ومع اندلاع الثورة وشن النظام حربه الترهيبية على البلد وأهله، صار البلد سجن تدمر دوناً عن غيره، لما يُعرف عن السجن تاريخياً من مجازر جماعية وتعذيب سادي وإباحة مفتوحة للقتل المزاجي والانتقامي. ويقول مازحاً في مكان آخر من الفيلم «أريد إسقاط النظام كي أحصل على جواز سفر.. أريد جواز سفر كي أشعر أني حر». فالبلد/ السجن الرهيب صار اليوم نقيضاً قاتلاً، للحرية، وهي المتمثلة بجواز سفر كرمز لحرية الحركة لدى صاحبه دون جدران ولا قضبان، فتكون حريّة تستلزم إسقاط النظام لالتقاطها، وإسقاط النظام كتدمير رمزي للسجن الذي يعمّ البلد، يودي إلى تدمير السجون التي قام عليها النظام وعمّمها على البلد، ثمّ عمّم أبشعها وهو تُدمر ليصير البلد رهيباً، معبأً بالموت.
خلال الفيلم، خلال رحلته يهجس الحاج صالح بالأماكن التي يتركها، بدوما أثناء طريقه خارجاً منها إلى الرقة، وبدوما والرقة وكل سوريا بعد وصوله إلى اسطنبول، ودائماً بزوجته سميرة الخليل الباقية في الغوطة والتي اختُطفت لاحقاً هي والناشطة رزان زيتونة وآخرون من قبل متطرفين إسلاميين.
كما أن الفيلم توثيق درامي لرحلة المنفى، هو كذلك توثيق مأساوي لرحلة الحرية التي لا بد ستمرّ بمنفى ولجوء وفقدان وحسرات، ثم عودة البلد إلى أهله وعودتهم إليه، هذا ما ينتظره الحاج صالح في منفاه الذي يصر على وسمه بالمؤقّت. ينتهي الفيلم به يمشي في غابة لا نعرف إن كان خارجاً منها أو داخلاً إليها، نسمعه يقول: «لا أعرف ما سأفعل لكني جزء من هذا الخروج السوري الكبير ومن العودة السورية المأمولة.. أعرف أنه ليس ثمة بلد أرأف بنا من هذا البلد الرهيب».
عن القدس العربي