أَقعدتُ الوقتَ إلى جواري على كرسيِّ «المُضمَر» المحذوف، والمبني على «التقدير»، و«مايصلح بتكلُّفٍ»، و«النادر المُعْتَمَد»، و«الشاذِّ المُرَاعى»، مطِيلاً النظرَ، على قدْر طاقتي المتواضعة، إلى استفاضاتٍ في «جهاد» المَخَارج تأخذ من القاعدةِ نصيبَ جوازِ الخروج عليها، حتى كأنَّ كلَّ كتابة لها محمولٌ من ذلك سَنَداً. وهو مايمنحني، ببعض الحذر، حَمْلَ البشرى التالية: التساهلُ اللغوي تركيباً، وإخلالُ الإعراب بسَنَنه، مُجازانِ بالحقِّ ذاته، الذي استكمل به فقهاءُ «المَخَارج» نجاةَ الشاذِّ، والغريب، والغَلِقِ، من مقاصد التدوين. فهل زعمٌ لا يُلْفِتُ القولُ أنْ لا ينبغي النظرُ إلى الأخطاء على كونها عَسْفاً في حقِّ القاعدة؟ زعمٌ غُلواءُ في ظاهره. لكنْ ماذا عن صورة الخطأ كنقصانٍ طافٍ على ممكن الخفاءِ المُسْتَكمِلِ صوابَه، أيْ أنَّ الخطأَ صحيحٌ بإضافة ماخفيَ من سَنَدِ الصوابِ فيه؟.
قد نُشرِّعُ قاعدةً ضد القاعدة، باجتهادٍ يأخذنا إلى غَنَاءٍ لغويٍّ، إن قلنا: كلُّ خطأٍ في ظاهره صوابٌ في خَفْيِهِ إنْ أُحْكِمَ سَندُ المنطق في تبريره قياساً إلى نادرٍ، أو إلى لا شيء، بجعل الخطأ نفسِه محلاًّ لتبريرِ «نادرٍ» يَلحقُه ويليه، كأنْ نَعْمدَ، أجمعين، إلى جمع «الرأس» على «راساتٍ»، وجمع «عشٍّ» على «أعشَّة» كما فعل الجاحظ، وهو إمامٌ يُقتدى في علوم الحروف. وكوصفه الأرض المثلجة بـ «الثلجاء» على لا قياسٍ؛ وكأنْ نجمع «الكلب» على «أكلبة» كفعل الشاعر بشر بن خازم؛ وكأن نتصرَّف، منذ اليوم، بالسؤال: «مَنُونَ أنتم؟»، بدلاً من «مَنْ أنتم؟.»
قَدَرُ المرأة، مثلاً، أن لا يكون للفظ جنسها جمعٌ إلاَّ بتغليب المعنى. فهي ليست في الجمع «امرآتٍ»، بل «نساء». ولفظ «النساء» جمعٌ لا واحد له إلاَّ بتغليب مفرده، الذي لا يتَّفق بحرف معه سوى الهمزة حرفاً أخيراً في الجمع، وثالثاً في المفرد. وقَدَرُ «حتى» أن تنجو بجلدها من التخصيصِ الوقْفِ على صورةٍ واحدة في اشتغالها إعراباً. إنها كل شيء، ولا شيء، كالجملة ذاتها من مسكوكات التاريخ على ألسنة الأقوياء. وقَدَرُ «الجهات» أن يحتكر الشمالُ، والجنوب، أسانيدَ القِسْمة الكبرى في تحديد الفروع. فيقال: شمال شرق، وشمال غرب، وجنوب شرق، وجنوب غرب. أي أنَّ «الغرب» و«الشرق»، إضافتان من مِنَنِ الشمال والجنوب في حاصل المعرفة بمسالك التعيين الأرضيِّ، والفلكيِّ. ولم يُقَلْ: شرقُ شمال، أو غربُ شمال، ولا شرق جنوب، أو غرب جنوب. لقد استأثرَ حاصلُ العقل الأول في توليد الصَّوغ بإرث القياس، ورضي «الشرق» و«الغرب»، بالإكراه في تأثيث التاريخ اللغوي.
ثمَّت رسوٌّ آخر على القبول بالمخارج في عِلمٍ من اللفظ اسمُه «الكلمات الأضداد»، أي المحتَمِلة في جرومها متضادَّيْنِ من منطق الإشارات. إنها مسلَّمةٌ من المعجم تحصَّلت ثابتةً في قانون العاديِّ يؤخذُ بتسليمٍ. لكنَّ المُستدرِكَ، من المتأخرين، سينشدِه لجبروت النظام، الذي أجرى غرائبَ تلاخيصه في اللسان نَهْجاً من أحكام العقل كـ«ضرورة» يستوي بها ميزان الأصل. فالكلمة «ضدُّ» نفْسُها تعني، في المعجم، «المُخَالِفَ والنَّظير» معاً. وكلمة «أخفى»، مثلاً، هي عيانُ «الإخفاء»، وعيانُ «الإظهار»، بحسب سياق المعنى. ففي الآية «إنَّ الساعة آتية أكاد أخفيها»، تكون «أُخفيها» شكلَ «أُظهِرُها» وجوهرَها. أمَّا في الكناية فيتفرَّع نسقٌ آخر، لا على التضادِّ متساوقاً في لفظٍ، أو سَبْكٍ لغةٍ، بل على «إرغامٍ»، جرى في وقتٍ من مكابَدات الصوغِ اللسانيِّ، كي يَدُوْلَ الصوغُ قياساً، ويثْبِت في غَلَبة «منطقه»، ويُعتمدَ أصلاً. فالغرابُ طائرٌ. «والغرابان» طرفا الورْكيْنِ الأسفلين. أمَّا كيف أُدْرجتِ المطابقةُ بين طير وبين جارحتين في الإنسان وَصْفاً، فالأمر معلَّل بـ «الإرغام»، وثبوته حاصلاً بالتسليم، كحاصل التسليم أن الزرازيرَ اسمها «السودانيات»، وهو بناءٌ على اللون لنوعٍ طيرٍ، وجنسٍ من إناث أقاليم عِرْقِ «حام» بن نوح. وعلى شبرٍ من المقايَسَات هَذي كمينٌ من أجناد «التغليب» ـ المسكوكِ صفَّفتْهُ مطارحاتُ العقل تجريباً عشواءَ على الأرجح، بالرغم من تمادي الفقهاء في التسويغ بتماثُلاتٍ مفقودة بين العناصر المُدْمجة من مَصَاغ «التغليب». فما أدرجوه مَراجعَ من الصوغ يجيزُ منطقُهُ تفرُّعاً بلا حدود. فـ«الأحمران»، مثلاً، هما الذهبُ والزعفران. و«الأسودانِ»، هما الماءُ والتمر. و«الأبيضان» هما الماء واللَّبن. و«الكاتبان» هما السيف والقلم (!!). و«الفَتِيَّان» هما الليل والنهار. و«البردان» هما الغداةُ والعشيُّ. و«اللَّحمان» هما اللبن واللحم. و«القمران» هما الشمس والقمر، على مافي هذا من عسفٍ غلواء أَوْكلَ الشمسَ بالخادميَّةِ للقمر الذي لا قُمْرَةَ فيه إلاَّ من فُضلة الشمس، ولا يَعْدِلُ جِرمُه ذبابةً من ذباب النجم اللهب.
شيء مَّا من «ترويض المجادلة» استظهرَ نفسَه في السياق هنا، بإنتاج الأَحكامِ ظنِّيَّةً على قياس الأغراض عن أيدي المشرِّعين لمصطلح «التغليب»، من جَمْعِ شيئين على خاصِّيَّةٍ. وهو مايبدو واضحاً في الكثير من «المُنْجَز، المؤكَّد» صَرْفاً في الكتابة، وفي اللسان، بلا قاسمٍ للجمع، والتلازم، والسِّيِّ، والتوأمة. فما الذي يجمع اللحمَ أحمرَ أليافاً باللبن أبيضَ سائلاً؟ وماذا يجمع الماءَ سائلاً بلا لون، أو طعم، بالتمر أسود، أو أصفر، حلواً؟ لماذا السيفُ كاتباً في مجاورته القلمَ الكاتبَ؟ أيكتبُ الموتَ؟ أيكتب السؤددَ للغالب تاريخاً بالدم؟ السمُّ، والخنق باليدين يكتبان الموتَ أيضاً.
إنها اعتبارات ستجد منطقها في التأويل، خارج أي برهان يَعتمدُ الموازنةَ في خصائص المُشْترَكات المغلوبة على أمرها. وهنا، لنا أيضاً إجازةُ رفدٍ من المطابقات على سَنَنِ المعطى، كأن نقولَ «الأخضران» هما العشب واللسان، و«الزبدتان» هما الزُّبدة والعقل، و«المُران» هما الحياة والموت، و«العجولان» هما الآدميُّ والريح. وليس في ماأجزناه جنوحٌ كمجريات «التغليب» القَسْرِ، الجامع بلا سندٍ حسٍّ، أو حدْسٍ، بفرض الحُكْم مسكوكاً، ومن ثم إدراج المسكوك في فرائض الشرع الغالب.
«العنفُ» في صوغِ «التغليبِ» و«الإكراهُ» في إطلاقه جارياً، سِمَتان لسيادة المصطلح المسكوك نَحْواً، ومن ثم تصريفاً لغويًّا في الخطابة. بل خارج النحو، وخارج الإيلاف اللغوي، تتنزَّل معارفُ التوكيل بالمقاصد، أي المعارف المبنية على تأويلٍ «معلَّقٍ» يجد حظَّه القويَّ من الصمود في مراجع اللغة الأمهاتِ، ومَظَانِّها، فيأخذها هبةً من إرث المشترعين الأُوَل. فـ«العندم»، وهو خشبٌ يُصبَغُ به، تُجازُ كنايتُه بـ «دم الأخوين»، وتُجاز كنايةُ «الأرنب البحري» لنوع حجرٍ من جنس الصَّدف، و«أسد الأرض» للمازريون، و«البقلة اليهودية» للهندباء، و«جنون البقر» للماليخوليا، و«حجر الشياطين» للماس، و«رماد الحية» للطباشير، و«بخور مريم» لشجر العَرْطَنيثا، و«سيف الغراب» للسوسن البري. ولنا، إنْ تتبَّعنا السجلَّ الهائل من الأسماءِ الكِنى، التساؤلُ في الزعم الأصل لصوغها في أبوَّة الجواز على هذا النحو لا على نحوٍ آخر. تبدو الكِنى، أحياناً، وَصْفاً، وأحياناً مصادفاتٍ في الصوغ، بل تغريباً من خيال الشعريِّ، كإطلاق صفة «إبنِ النَّعامة» على كلِّ ظلٍّ، وجَعْلِ لفظِ «المظلومة» كنايةً عن الأرض اليباب بلا حرث أو حَفْر، وإطلاق مسكوك «سرِّ الليل» على التخصيص في التنادي لحربٍ، أو غزوٍ. لكنها أُجيزت هكذا، بالكثير من المنطق الذي يحتمل المخالَفةَ، والإنتقاض. فقد ظلَّت أسماءٌ مختبلةً في التخصيص لم يهتدِ الأئمة إلى انتشالها من عماء البُهَم، وهي لمَّا تزل جاريةً من أوائل الأعمار إلى نهايات الأعمار في دروس بكوريَّة الشِّعر الأبِ ـ المعلَّقات، مثل «أُم قَشْعم» عند أبي سلمى. فهي «المنيَّةُ» في زعمٍ، والحربُ، والضبعُ، والعنكبوت، والذلَّةُ، في زعمٍ. وتحيَّر المفسرون في الآية: «كأنه رؤوس الشياطين» ـ قال بعضهم إنه نباتٌ في اليمن (بحسب الجاحظ)، وتأوَّلها آخرون على معنى الإستهوال لا غير. واختلف سلفٌ في كلمة «يهود»، فقالوا هي من «الهودة»، أي المودة، ومن «التهوُّد»، أيْ التوبة. وسَكُّوا من فعل «يتهوَّدون» معنى التحرك عند تلاوة التوراة. فيما اللفظ بجملته غير عربي، ككلمة «سَقَر» ذاتها، و«فاسق» التي لم يأت بها أحدٌ، في العربية، قبل القرآن. ويذهب الجاحظ إلى أنْ ليس في اسم «الأعشى» عربيًّا مايدلُّ عليه، فاستحدثتِ العربُ مَناباً فارسيًّا في معناه، وهو «شَبْ كُوْر» (أعمى ليلٍ). وتفرَّقت الأفهامُ على معنى «الصلاة» فسَّرتْها جمهرةٌ نَسَباً إلى تحرُّك «الصَّلْوَيْنِ» في الركوع والسجود، وهما عِرْقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عَجْبَ الذَّنب. وقالوا في «المُصلي» إنه التالي للسابق في حلبة الخيل، وإن «الصلاة» من الصلى، وهو الملازمةُ للشيء. ثم لم يقطع أحدٌ في الأصل، فَرُفعَ اللفظُ قائماً معنىً بذاته (ارتفاع العقل إلى الله)، تماماً كتقدير الحروف في مفتتح بعض السِّورِ، مثل «ألم»، و «حم»، و«ص»، و«المص»، أجازوها من أسماء القرآن بلا وقوعٍ على تَدبير. وكذا تشجَّرتِ المذاهبُ في إعراب «أن يضرب مثلاً بعوضةً» في إحدى الآيات ـ هل «بعوضة» منصوبة على البدل، أو «ربما» موصولةٍ، أو نكرة موصولة؟ بل قدَّروا الصلةَ بالتعريف مرة، وبالتنكير مرة. وتخالطت التآويل في الآية «ويلٌ للمطفِّفين»، فقيل «ويلٌ» وادٍ في جهنم. «ثم قعدوا يصِفون الوادي» بحسب الجاحظ في «كتاب الحيوان». وكذا كلمة «فَلَق» في «قلْ أعوذ بربِّ الفَلَق» فأجازوها وادياً من أودية الجحيم، أيضاً. وزعمَ المقريزي على الظنِّ أن «الجواء» في معلقة امرئ القيس «قد تكون جمعاً واحدُه جو»، بتكلُّفٍ ظاهر في المَخْرج مُرْفَقاً بـ «قد» ظنِّيَّة. وفي المعلَّقة أيضاً كلمة «نضت»، تبلبلت فيها القراءة على وجهيِّ التخفيف والتشديد. أمَّا «أَرُبَّ يومٍ» فأُجيزتْ ثلاثاً حركاتٍ معاً حتى أُشْكِلَ الصوابُ. ولم يَثْبت لناظرٍ في لفظة «فومها»، الواردة في القرآن، تحصيلٌ: أهي اسم للثوم، أم للحنطة، أمْ من مصدرٍ قوامُه «فوموا لنا، بمعنى اختبِزوا لنا؟» وحاول البعضُ مَخْرجاً بمنطق الحروف المبدَّلة، أيْ القَلب في اللفظ عن معنىً واحدٍ، مثل الجَبْذ والنَّبْذ، والأثافي والأثاثي. فيما يؤكد ابن كثير أن عديداً من العلماء اختلفوا على «بسم الله»، أهي بعضُ آية، أمْ آية بنفسها في مَطَالع السور. أمَّا لفظ الجلالة ذاته (الله) فشَقَّ على المَصادر تقييدُها، فأناطوها بفعل «وَلَه» (تحيَّر)، و«والهٍ»، و«ولهى»، و«مولوهة»، إنْ تاه بشريٌّ في صحراء. وقُلبت الحروفُ فأُبدِلت الواو همزةً، حتى باتت الكلمة على صورة «ألهت»، أيْ سكنت إليه العقول. وقيلَ «اللهُ» من «لاه»، يلوه، «اذا احتجب» ـ ثم سكن العلماء إلى «المعنى»، لااللفظ: «أيْ العبادُ مألوهون، مولعون بالتضرُّع إليه»، كتأكيد ابن كثير في تفسير القرآن، الذي «أُنزل على أربعة أحرف حلالٍ وحرام لا يُعذر أحد بالجهالة به، وتفسيرٍ تفسِّره العرب، وتفسير تفسِّره العلماء، ومتشابهٍ لا يعلمه إلاَّ الله» ، كما في الحديث. فهل مانقرأ اليوم من علوم الثَّبْتِ جَزْماً في المعاني، وتدويل المسكوكاتِ الأمثالِ، تحصَّل بإكراهٍ فتحصَّلتِ السيادةُ للغةِ الأُحْكومة؟.
يزعم الطبري في «تاريخه» أنْ أُنزلت حروفُ المعجم على آدم في إحدى وعشرين ورقة. وهو زعمٌ ضيِّق على رمزانيَّتهِ إذا عَدَدْنا في الأرقام أُمهاتٍ هُنَّ الورقات «المحتجبة»من علوم العقلِ السندِ المحتجب، الذي ألزمَه العلماءُ مَسْكناً من العبارة اسمه «المسكوتُ عنه»، أيْ مالم يوضحه النصُّ، وعلَّقه الإبهامُ في مجراه، مثل عصى موسى من أيِّ شجرة هي، وماجنس كلب «أهل الكهف»، وما «الروح»، وأشياء كُثُر على نَوْلها، حتى بعض الآيات حادَ المفسرون عنها أسوة بالنبي قالت زوجُه عائشة فيه «ماكان يفسِّر لنا من القرآن إلاَّ آياً تُعدُّ». وأوجبوا الإغضاء فيها إذْ هي «آياتٌ لاتُعلم إلاَّ بالتوقيف عن الله».
الإجتهادُ صوْغاً، أو تفسيراً، أو تأويلاً، هو من براعات «الإكراه» الهادئة لبسط الصوغ اللغوي مسوَّراً بقانون الغالب ـ قانون اللغويين، والنحاة، والأئمة النظَّار للمصطلحِ المسكوكِ، الذين أوجدوا من علوم المنطق «هاءَ السَّكْت» الغريبة («انْجهْ»، من فعل الأمر «أُنْجُ»، مثلاً)، و«تاءَ المبالغة» (النَّجابة. العلاَّمة. الفهَّامة. الضرَّابة). وماذا كان ليتغيَّر لو أقاموا الجَمْعَ من هؤلاء الموصولين بتاء المبالغة على «نجائبيْنَ»، و«علائمين»، و«فهائمين»، و«ضرائبين»؟ لكُنَّا اليوم، قطْعاً، في مهبِّ صوابها، كما نحن قائمون في مهبِّ صواب الأوزان بتسكين حروفٍ لا تُسكَّن قط (مثل قول امرئ القيس: فاليوم أَشْرَبْ. وصوابُه: أشربُ). وانتقال أبي العتاهية بين بحورٍ قال الصولي فيها إنها لا تدخل العروض. ولربما كان أفدحَ «الإكراه» أنَّ أوزاناً لا يُحْسَن استعمالها إلاَّ بعد حذف شيء منها، مثل أول «المنسرح».
أمَّا اعتماد المخْرج الكبير من مأزق اللسان فابتكارُ «مايَصْلُح بتكلُّفٍ»، أيْ أنَّ كل شاذ، غريبٍ، مارقٍ في اللغة، خارجٍ عليها، يغدو مقبولاً بالتواطؤ «المرحِّب»، والتساهل السَّمْح. فكم بين أيدي ألسنتنا لغةً من تصاريفَ «متكلَّفة» احلولت وساغت؟ يقول أسلافٌ في أمهاتِ العربية: «خطأ مشهور خيرٌ من صوابٍ مهجور». وهو ـ لَعَمْرُ المحدثين ـ بشارةٌ في التشيُّع للخلل يعْبرُ مَطْهَرَ الذيوع والشيوع. فالمعرِّي، السابح بين أغاريب الأصول وتفاريعها، في «رسالة الصاهل والشاحج»، و«رسالة الغفران»، متحيِّر في كلمة «حوم» استنزلها علقمةُ بن عبدة الفحل بيتاً له: فهي إما سواد، أو كثيرٌ، أو قلبٌ للحروف، أو ماشاءت مصادفاتُ التغليب في المقاصد عن «قَسْر» الكلمة على اعتناق معنىً لها. وقرَّاءٌ من المقتدرين الأصولِ سلكوا بكلمة الناس في الآية: «ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسُ» على الكسر، لأنها في الأصل «أناسي» فحُذِفت الياء. ورَكَنَ قُرَّاءٌ على جمع «الأناسي» على «أناسين» تثبيتاً للكسر في «أفاضَ الناسِ»، حتى أن المعري استبانَ في «معراجه» مؤرخين «قد» يحسمون هذا الشَّطَنَ في تصاريف الغريب من اللغة بردِّ الأمر إلى لسان آدم ذاته: «لقد تكلم بالعربية في الفردوس، وبالسريانية على الأرض».
عن القدس العربي