عالم ما بعد «كورونا»

الكثير من الكوارث أخطر من «كورونا»، فالحروب الحديثة بأسلحتها الفتاكة أخطر من «كورونا»، حتى من دون استحضار الأسلحة الكيماوية والنووية. وصراعات النفوذ السياسية والاقتصادية أخطر من «كورونا»، ويكفي تذكر الحربين العالميتين وغيرهما من الحروب، ومعاصراً ما صنعه النظام الإيراني عبر عقودٍ من قتلٍ وفتك وتخريب وتدمير بالبشر الموالين له والمعادين على حدٍّ سواء.

ولكن هل هذا يحدّ أو يخفّف من خطر «كورونا»؟ بالتأكيد لا، ففي النهاية كل ما يقتل الناس أو يهدد صحتهم خطيرٌ، والمقارنة هنا بين السيئ والأسوأ من حيث النتائج والأثر وبالإحصائيات والأرقام، فلا يقلّل خطرٌ من خطرٍ آخر، وإنما هي المعرفة التي تعيد ترتيب الأولويات.

حسب الخبرة البشرية، فأزمنة الأوبئة على قبحها الشديد لا تستمر طويلاً، بل تحصد ما تحصده في أشهرٍ معدودة أو سنيات قليلة ثم تنتهي وقد يحدث غيرها من الأوبئة في فتراتٍ متباعدة، ومع قلة المعلومات عن فيروس «كورونا المستجد»، إلا أن المؤشرات تؤكد ضعفه عن بدايته الشرسة والبعض يتحدث عن موجة ثانية له ستأتي مستقبلاً، وعلى كلا الحالين فنحن لم نقترب بعد من نهاية كاملة له ولا اختراع دواء شافٍ ولا لقاحٍ فاعلٍ، وقد تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الجمعة الماضي، عن أن «جائحة (كورونا) ستنتهي دون إيجاد لقاح للفيروس».

اضطراب المعلومات عن الفيروس الخطير له عدة أسباب مختلفة وتدخل فيه عدة معطيات متباينة، فعلى سبيل المثال، الفيروس نفسه له مستويات متغيرة ويمرّ بتحولاتٍ لم تتوقف بعد وليس على درجة واحدة من الخطورة، ودرجة مناعة البشر المصابين به مختلفة، وطبيعة البيئة التي ينتشر فيها تؤثر في قوته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فانتشار أجهزة الفحص وقدرة الدول على توفيرها يؤثران بشكل واضح في قياس التفشي والانتشار، وبالتالي فالاستنتاجات السريعة غالباً ما تكون خاطئة.

تحوّل وباء «كورونا» المحلي في الصين إلى جائحة عالمية أثرت فيه الحضارة الحديثة التي كان أحد تجلياتها الكبرى انتشار وسائل النقل بشكلٍ غير مسبوقٍ في التاريخ البشري، كما أثرت الحضارة الحديثة بالمقابل في نشر الوعي بالفيروس عالمياً، وأدخلت طرق البحث عن علاجٍ إلى تعاونٍ دولي على المستوى الصحي، على مستوى الدول كما على مستوى الأفراد كانت المعلومات التي تبني الوعي السليم في أفضل طرق التعامل مع الفيروس، تأتي عبر منتجات الحضارة الحديثة، وتدخل في جيب كل فردٍ حول العالم.

ثمة سباق دولي محمومٌ على إيجاد الدواء واللقاح لهذا الفيروس من دولٍ وشركاتٍ عملاقة، تسعى جميعها لحيازة قصب السبق في العثور على الترياق الشافي الذي ينهي هذا الكابوس الجاثم على صدر البشرية، لأسبابٍ يختلف بعضها عن بعض، ويقف على رأسها السبب التجاري البحت الذي يُسيل لعاب كل الشركات العاملة في هذا المجال، ومن هنا تأتي أهمية دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لجعل الدواء مجانياً عند اكتشافه حول العالم، ويمكن لهذه الدعوة أن ترفع حجم التعاون الدولي لمستوى غير مسبوقٍ، وتسرّع في إيجاد الحلّ.

لقد غيّر هذا الفيروس الخطير العالم بالفعل، وسيستمر في تغييره بشكل أعمق في المستقبل، وسيعيد ترتيب أولويات العالم من جديد، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وغيرها من المجالات، وهو أمرٌ لا يمكن إنكاره وسيكون السباق مستقبلاً وفق الأولويات الجديدة للعالم الجديد، عالم ما بعد «كورونا».

في مثل هذه الأجواء المضطربة دولياً تتخبط الآراء وتتصادم الرؤى، ويكون المستقبل أفضل لمن يستطيع التوازن في لحظة شديدة الارتباك من التاريخ، حيث يسيطر على غالبية الناس الخوف الشديد الذي قد يصل لمرحلة الرعب المرضي لدى البعض في مقابل المستهترين الذين لا يفرقون بين الخطر الحقيقي، مثل فيروس «كورونا»، والأخطار المتوهَّمة فيلقون بأنفسهم، ومن يحبون إلى التهلكة.

الواجب في مثل هذه اللحظات المرتبكة من التاريخ تقدير الأمور بقدرها، بحيث يلتزم الجميع بتوجيهات المؤسسات الرسمية المعنية في كل مكانٍ حتى في المنازل الخاصة، وبين أفراد العائلات والأقارب بخوفٍ طبيعي يناسب حجم الخطر، ولا يتجاوزه إلى رعبٍ عامٍ يخلق الفوضى والمشكلات الاجتماعية والأمنية.

الحروب وصراعات الهيمنة والنفوذ وصراعات الاقتصاد وأسواق الطاقة وغيرها الكثير لم تتوقف، منتظرة الخلاص من فيروس «كورونا»، لم تزل إيران تعمل جهدها لنشر الفوضى والإرهاب في المنطقة، في سوريا ولبنان كما في العراق واليمن، والجماعات الإرهابية لم تزل تخطط لنشر الفوضى والإرهاب في كل مكانٍ، وتسعى لاستغلال انشغال العالم بـ«كورونا» لتطوير عملياتها وقتل مزيدٍ من البشر، وتركيا لم تزل تدعم الإرهابيين والمرتزقة بكل قوتها في سوريا وليبيا وفي الطريق بينهما، لنقل القتلة السفاحين المجرمين حسب حاجتها.

المقصود أن العالم لم ولن يتوقف عن الصراعات السياسية وغيرها، وأن من يتوقف هو من يخسر بعد انقضاء الجائحة وانحسار الوباء، لم يزل الخصوم يكيد بعضهم لبعض، ولم تزل الدول ترعى استراتيجياتها وتضمن الحفاظ على مصالحها.

أخطر من «كورونا» انتشار المجاعات والفقر الذي سينتج عن استمرار إغلاق الاقتصاد ومنع التجول حول العالم، أخطر من «كورونا» انتشار الفوضى وفقدان الأمن والأمان، أخطر من «كورونا» أشياءُ كثيرة ستتضخم وتكبر إن استمر العالم مغلقاً لفترة طويلة.

يسعى العالم إلى التخلص من الفيروس، فإن لم ينجح فهو يبحث عن أفضل السبل لتقليل خسائره والحدّ من تأثيراته على الدول والمجتمعات والأفراد، وسينجح في الوصول إلى هذا الهدف قريباً، فالحياة ستستمر على الرغم من كل شيء.

لو وقف التاريخ شاهداً، فإنه سيكون أصدق الشهود حين يؤكد أن البشرية تجاوزت كل التحديات التي واجهتها من قبل واستمرت، وفي موضوع الأوبئة والجوائح تحديداً فمنذ بدء البشرية وإلى اليوم لم يوجد فيروس واحدٌ لم تستطع البشرية تجاوزه، ويكفي استحضار أوبئة القرن المنصرم فقط، فمع تطورها وانتشارها وآثارها المهلكة، فإن البشرية تجاوزتها بطرقٍ مختلفة واستمرت وأخذت في مزيدٍ من التطور والترقي، وهو ما سيحدث مع فيروس «كورونا المستجد» دون شكٍ.

أخيراً، فالقضاء على «كورونا» ليست له علاقة من قريب أو بعيد بالتفاؤل والتشاؤم، بل علاقته الكاملة هي مع العلم والعلماء، مع الإنسان القادر دائماً على خلق الحلول، وبناء عالم ما بعد «كورونا».

 

نقلا عن الشرق الأوسط