على مر تاريخها، عانت البشرية من ويلات مرض شلل الأطفال الذي تراوحت أعراضه بالأساس بين آلام الحلق والصداع وارتفاع درجة حرارة الجسم وآلام الظهر والرقبة ولدى البعض امتد هذا المرض ليصيب المخ والحبل الشوكي متسبباً في عواقب وخيمة تؤدي لإعاقات وتشوهات، وأحياناً توقف عضلات التنفس والموت.
وطيلة القرون الماضية، حصد مرض شلل الأطفال أرواح الكثيرين قبل أن تعرف حالات الإصابة به تراجعاً هائلاً بفضل أبحاث عدد من العلماء، كان أبرزهم النمساوي كارل لاندشتاينر ومواطنه إروين بوبر اللذان تمكنا عن عزل الفيروس عام 1909، والأميركي جوناس سولك الذي ابتكر أول لقاح لهذا المرض ومواطنه ألبرت بروس سابين الذي تعمّم بفضله اللقاح فأصبح متاحاً للجميع.
ولد ألبرت بروس سابين (Albert Bruce Sabin) يوم 26 آب/أغسطس 1906 بمدينة بياويستوك (Białystok) بالإمبراطورية الروسية، وهاجر برفقة عائلته سنة 1921 للولايات المتحدة الأميركية تجنباً لأعمال العنف التي طالت اليهود بالمنطقة حينها، حيث حصل على الجنسية الأميركية بعد تسع سنوات.
تخصص سابين في مجال الطب بجامعة نيويورك وتخرج منها عام 1931 فالتحق بمستشفى بلفيو (Bellevue) بنفس المدينة، كما قاد أبحاثاً بداية من العام 1934 بمعهد ليستر بإنجلترا. سنة 1935، انضم الطبيب سابين لفريق معهد روكفلر (Rockefeller) بنيويورك وانتقل بعدها بأربع سنوات لمؤسسة الأبحاث بمستشفى الأطفال بمدينة سينسيناتي (Cincinnati) بولاية أوهايو حيث أثبت عقب جملة من الأبحاث قدرة فيروس شلل الأطفال على العيش والتطور بالأمعاء الدقيقة للإنسان، وتحدّث عن إمكانية اعتماد لقاح فموي للقضاء على هذا المرض.
مطلع الأربعينيات، تعطّلت أبحاث سابين حول شلل الأطفال بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية حيث استُدعي الأخير للخدمة العسكرية وعمل لصالح إحدى الفرق الطبية، فساهم في تطوير لقاحات مضادة لالتهاب الدماغ وحمى الضنك منقذاً بذلك أرواح العديد من الجنود الأميركيين على ساحة المحيط الهادئ. ومع نهاية النزاع العالمي وانتصار الحلفاء، عاد هذا العالم الأميركي لأبحاثه حول مرض شلل الأطفال الذي شكّل تحدياً كبيرا للأميركيين بسبب تفشيه وتسببه في وفاة العديد من الأشخاص سنويا.
في سياق متوازي، وخلال الخمسينيات، اعتمد جوناس سولك من جهته على فيروس شلل أطفال ميت لإعداد تلقيحه الذي حقق نتائج جيدة. لكن هذا التلقيح لم يكن قادراً على التصدي للعلامات الأولى للمرض التي تميزت بظهور عدوى الفيروس بالأمعاء. ولهذا السبب فضّل العالم ألبرت بروس سابين الاعتماد على نوعية فيروس مضعّف وغير مسبب للمرض لصناعة لقاح يُقدم عن طريق الفم ويساهم في منع فيروس شلل الأطفال من الانتشار بالأمعاء ودخول مجاري الدم.
بتمويل أميركي، أجرى سابين أبحاثاً حول هذا اللقاح الفموي برفقة عدد من زملائه الروس. وما بين 1955 و1961، قُدّمت جرعات تجريبية من هذا اللقاح لأكثر من 100 مليون شخص بكل من أوروبا الشرقية وهولندا والمكسيك والولايات المتحدة الأميركية. وبفضل نجاح هذه التجارب وسهولة استخدامه وفاعليته على المدى الطويل مقارنةً بتلقيح جوناس سولك، حقق التلقيح الفموي ضد شلل الأطفال الذي جاء به سابين انتشاراً كبيراً بالعالم وساهم في تراجع أعداد المصابين بهذا المرض بشكل كبير بمختلف الدول.
وكمواطنه جوناس سولك، رفض ألبرت بروس سابين الحصول على براءة اختراع التلقيح الفموي ضد شلل الأطفال مفضلاً التخلي عن كل الأرباح التي كان سيجنيها من تسويقه، ليخسر بذلك ملايين الدولارات ويساهم في توفير اللقاح للجميع. وعن هذه الحادثة قال ألبرت بروس سابين: “أصر كثيرون على أن أحصل على براءة اختراع اللقاح، لكنني رفضت. إنه هديتي لكل أطفال العالم”.