“يتحدر شَعري من إحدى جواري سبتموس سيفيروس التي كانت تهيء له الإفطار، وأنجبت منه أربعة أبناء”. ليس هذا، بالطبع، شَعر رأسي أنا الذي تحدّر إلي من أبوين بدويين، وشمتهما الصحراء بحدوة الهاجرة، بل شَعر رأس خالد المطاوع. أو شَعر الليبي في قصيدة لخالد المطاوع عن “تاريخ وجهه”. وتاريخ وجه خالد هو، لأمرٍ ما، تاريخ وجه ليبيا التي تعاقبت على ساحلها شعوبٌ جاءت من الشرق والغرب، مثل سائر بلاد شرقي المتوسط التي لم تكفّ عن إغواء القادمين من أمكنةٍ تسوطها الشمس، وأخرى بالكاد تشرق عليها. تذكرت قصيدة الشاعر الليبي خالد المطاوع، “المنفي” باللغة الإنكليزية، لكنه يحفظ “زي الهوا” عن ظهر قلب، عندما سمعت تقريراً إذاعياً بريطانياً عن فترة حكم الإمبراطور الليبي، سبتموس سيفيروس، لعالم زمانه وأوانه.
في موقع قريب من مدينة “يورك”، وجد علماء الآثار بقايا بيوتٍ تعود إلى الحقبة التي كانت فيها بريطانيا مجرد ولاية رومانية. كانت البيوت لضباطٍ في الجيش الروماني الذي أعاد سيفيروس، الجنرال القادم من “لبدة” الليبية، بناءها بنفسه، ورفع رواتب جنوده إلى مرة ونصف، وسمح لهم، لأول مرة في تاريخ الإمبراطورية، بالزواج في أثناء أداء الخدمة العسكرية.
العثور على آثار من الحقبة الرومانية في بريطانيا ليس خبراً. فهناك عشرات المواقع في الجزر البريطانية التي تحمل اسم روما ونقشها الإمبراطوري، لكن “الخبر” هو الوقوف على “نمط” حياة الجيش الإمبراطوري الروماني في هذه الولاية الخلفية المعتمة.
من بين الآثار التي عثر عليها المنقبون في تلك البيوت أحذية جلدية للأطفال. كانت هذه “اللقيا” أكثر أهمية لمكتشف الموقع من العملات الذهبية والفضية التي وجدت في بيوت ضباط روما وجنودها في جزيرةٍ، نصفها روماني “متحضِّر” ونصفها الآخر يقطنه “البرابرة”. ففي المتاحف البريطانية، هناك آلآف القطع النقدية التي تعود إلى الحقبة الرومانية، لكن، ليس ثمة أحذية جلدية للأطفال!
قال مكتشف الموقع بحماسة، ليست من طبع الإنجليز، في البرنامج الإذاعي “إنه اكتشاف اجتماعي مهم. مهم للغاية. فهو يؤكد أن جيش روما لم يكن مجرد جيش غاز يقيم في ثكناته، بل كانت له حياة اجتماعية، خارج أسوار القلاع واختلاط بالسكان المحليين. وهذا، بالطبع، لم يكن ممكناً لو لم يسمح الإمبراطور سيفروس لجيشه بالزواج في أثناء الخدمة العسكرية. ثم إن هذه الأحذية لا تشبه ما كان يلبسه أطفال السكان. إنها من الجلد. دقيقة الصنع وذات سيور وأبازيم. أحذية تعكس الرفاهية التي كان يتمتع بها جنود سبتموس سيفروس. كأنهم في أرقى أحياء روما، وليس في مستعمرة شبه مظلمة”!
لم يكن غريباً أن يهتم سيفروس بالجيش. فهو أول إمبراطور روماني يأتي من الجيش مباشرة إلى حكم عاصمة العالم. وربما لم يكن غريباً أن يسمح لجنوده بالزواج، فهو لم يأت لإخضاع تمرد القبائل “البربرية” في الجزر البريطانية وحيداً. فقد كانت معه زوجته الأوغستا جوليا دومنا، وولداه المتنازعان على عرش والدهما وهو على قيد الحياة، كراكلا، وجيته.
***
هناك من قال، بنبرة ذكورية ممجوجة، إنَّ وراء كل عظيم امرأة. وهناك من اعتبر أن هذا المثل لا ينطبق على أحد قدر انطباقه على سفيروس الذي لم يكن ممكناً له أن يلمع نجمه، ويتحوَّل من قائد إقليمي في مدينة حمص، مسقط رأس جوليا دومنا، إلى شخصية عالمية، لولا ابنة الكاهن الحمصي الأكبر: جوليا. إنها هي التي نفخت في كير طموحات قائد إقليمي، لم يخطر في باله، يوماً، أن يحكم روما. جوليا دومنا فعلت ذلك، حتى أوصلت الضابط الليبي إلى عاصمة العالم يومذاك: روما. وهي التي رهَّفت طبعه القاسي، وعندما توفي زوجها في بريطانيا، محاولاً قهر “البرابرة”، أدارت جوليا دومنا حكم الإمبراطورية من خلال ابنها المعتوه الإمبراطور كراكلا. ويُذكِّرنا كراكلا، ووالده إلى حد ما، بالقذافي، من حيث الغرور وجنون العظمة وتصفية الخصوم بلا رحمة، وأحلام التوسّع واستخدام المال سلاحاً لشراء الذمم. وليس غريباً أن القذافي، الذي لم يسمح له غروره بأن يشتهر لاعب كرة قدم في جماهيريته الفريدة، أبقى على تمثال سيفيروس منتصباً في مدخل بلدته “لبدة”..ولكن، طبعاً، بعدما نقله من طرابلس، إذ لم يطق أن يكون هناك شخص آخر تشخص إليه العيون سواه.
ويبدو أن القذافي كان يفكر، في فترة من حياته، بأن سبتموس سفيروس ليس أفضل منه، فبوسعه، هو أيضاً، أن يكون إمبراطوراً عالمياً، وهذا يفسر غرامه بالوحدات مع دول أكبر حجماً من ليبيا، وليس بالضرورة أن تكون مجاورة لها.. فلما لم يستطع الحصول على لقب إمبراطور اكتفى بلقب: ملك ملوك أفريقيا!
عن العربي الجديد