بعدما تحرر الفن من سطوة الدين والسياسة أصبح الفنان أكثر حرية في الموضوع والمضمون، بما يتناسب مع أفكاره الشخصية أو الأحداث المحيطة به اجتماعيا وثقافيا، واتسعت فكرة الفن وظهرت أماكن جديدة لممارسة الفن بعيدا عن قاعات العرض أو قصور الأثرياء. من الفنون التي ظهرت مع تطور فكرة الفن ما يسمى فنون الشارع، وهي عبارة عن لوحات ورسوم على الجدران في الأماكن العامة، مثل جدران المباني الخارجية، والجسور والأرصفة. وتميل فنون الشارع إلى التواجد في المناطق الحضرية والمدن الكبرى لأنها غالبا مرتبطة بفكرة اجتماعية أو اعتراض أو رأي يرغب الفنان في توصيله. وتستخدم خامات مختلفة في فنون الشارع مثل الألوان والطلاءات التقليدية، أو الطباعة عن طريق الستانسل، حيث يكرر الفنان الصورة الخاصة به في أكثر من مكان لتأكيد رسالته.
يعود تاريخ هذا الفن إلى آلاف السنين بالرغم من اعتباره فنا حديثا، لكنه يرتبط برغبة الناس في ترك بصماتهم على الجدران، وبدايته المعاصرة نشأت في ستينيات القرن الماضي بنيويورك، حين بدأ الفنانون في محاولات التمرد على قواعد المجتمع بأساليب فنية جديدة، أكثر قربا من الجماهير، خاصة بعد أن أصبحت اللوحات الجدارية وفن الكتابة على الجدران ظاهرة عالمية، خصصت لها الدوريات كشكل فني مستقل، متمرد ضد الأوضاع الراهنة والنخبة الاجتماعية والسياسية وحتى التشكيلية.
كيث هارينغ وفنون الشارع
يعتبر الفنان الأميركي كيث هارينغ، الذي تمر اليوم 16 فبراير/شباط ذكرى وفاته، واحدا من أهم الفنانين والناشطين الاجتماعيين، وكان جزءا من المشهد الفني في نيويورك خلال فترة الثمانينيات. كان هارينغ معروفا بأعماله الملونة، مثل الطفل الملون والكلب الذي ينبح، وكانت أغلب أعماله استجابة للأحداث الاجتماعية والسياسية المعاصرة، وشمل ذلك معركة إنهاء الفصل العنصري، وانتشار وباء الإيدز، وتعاطي المخدرات.
اختار هارينغ كفنان مثلي الجنس أن يعبر عن صعوبة تقبل المجتمع له، فبدأ الرسم في محطات المترو بنيويورك، وملأ المساحات الفارغة برسومات طباشيرية يشاهدها الناس يوميا، بهدف توصيل أفكاره للناس، ما سمح بالفعل بفتح نقاش مجتمعي حول أفكاره ورسومه.
كتب هارينغ في مذكراته يحكي عن الموقف الذي قرر فيه الرسم في محطات المترو قائلاً: “ذات يوم أثناء ركوب المترو رأيت اللوحة السوداء الفارغة التي تعلق عليها الإعلانات. أدركت على الفور أن هذا هو المكان المثالي للرسم. عدت إلى متجر الأدوات المكتبية واشتريت صندوقا من الطباشير البيضاء، وعدت مجددا لأسفل محطة المترو وقمت بالرسم على المساحة السوداء الفارغة”.
أصبحت رسوم هارينغ عن الحياة والحب والجنس والمشكلات الاجتماعية والسياسية محط محادثات ركاب مترو الأنفاق في نيويورك، وكانت الرسوم كبيرة مما سمح للجماهير بالتوقف والنظر عن قرب للعمل الفني، والتعبير عن مشاعرها تجاهها بالسلب أو الإيجاب، بالإضافة إلى اتساع جماهير الفن بعيدا عن جماهير المتاحف وصالات العرض، بل كانوا قطاعا جديدا تماما من الجماهير. أثارت رسوم هارينغ نظر الجماهير، لكنها بالإضافة إلى ذلك أثارت غضب رجال الشرطة، فألقي القبض عليه عدة مرات بتهمة التخريب، وعند نقله إلى قسم الشرطة كان رجال الشرطة يتعرفون عليه، ويبدون إعجابهم بأعماله ويظهرون حرصهم على مقابلته ومصافحته، في مفارقة غريبة قلما تحدث.
طور هارينغ أسلوبه الفني الممتليء بالشخصيات والرموز التي تشبه الرسوم المتحركة، وقام مع فنانين وموسيقيين وشعراء بتنظيم معارض وعروض فنية في النوادي، والمطاعم والمباني. في سن العشرين كانت لدى هارينغ آراء قوية ومحددة حول الفن وعالم الفن. وبين عامي 1978 و1982 أسس هارينغ نفسه كفنان متمرد له وجهة نظر شخصية، وبدأ يعرض أعماله في مساحات فنية بديلة للقاعات النخبوية التي كان يكرهها.
طوال فترة الثمانينيات أنتج العشرات من الجداريات والأعمال العامة في أنحاء متعددة من العالم، منها أستراليا وأوروبا وأميركا الجنوبية، وخلال رحلاته تفاعل مع فنون الثقافات القديمة عن قرب، مثل فنون شعوب المايا، والسكان الأصليين في أستراليا، تلك الأعمال التي كان لها أثر كبير على ما أنتجه فيما بعد.
الفن والمجتمع
بالرغم من أن أعمال هارينغ كانت دائما ملونة ومفعمة بالحيوية، إلا أنه اختار التعبير عن قضايا شائكة وصعبة متعلقة بحياة الناس، ليس فقط في أميركا ولكن في جميع أنحاء العالم. استخدم هارينغ شعارات جذابة لتوصيل وجهة نظره بسرعة وفعالية، ويظهر ذلك بوضوح في عمله الذي يشير إلى آثار انتشار الكوكايين في المدينة. كان العمل كبيرا بدرجة كافية حتى تتمكن السيارات المارة على الطريق من رؤيته.
في عام 1986 تمت دعوة هارينغ للطلاء على جزء من جدار برلين في محاولة للفت النظر لقضية الجدار العنصري. رسم هارينغ لوحة جدارية زاهية باستخدام ألوان العلم الألماني (الأسود، الأحمر، الأصفر) ليرمز إلى الأمل في إعادة توحيد ألمانيا الشرقية والغربية. رسم هارينغ الجدارية بمسافة 300 متر على طول جدار برلين، بشخصياته المميزة في شكل سلسلة بشرية، تتشابك أياديهم وأقدامهم، لتمثيل وحدة البشر ضد الجدار العنصري، لكن دمرت اللوحة بالكامل مع هدم الجدار عام 1989.
أعطى التزام هارينغ بالخطوط النظيفة والصور البسيطة حياة جديدة للرسم، عكس المقاربات الأكثر تجريدية التي لا يمكن للجمهور العادي التواصل معها، وأثبت أن تصوير المشكلات المجتمعية الخطيرة والمهمة يمكن أن يؤثر بالفعل في الجماهير، وأن استخدام المواقع العامة غير المخصصة للفن، يقدم مصداقية وشرعية للموضوعات الاجتماعية والسسياسية أكثر من أخذها إلى قاعات العرض والمتاحف، وألهم جيلا جديدا من فناني الشارع.
الحرية والمرح
أحب هارينغ العمل مع الأطفال وأعجب بخيالهم الواسع وروح الفكاهة في أعمالهم، وشجع الشباب على إنشاء جماعات فنية، وتعاون مع الجمعيات الخيرية التي تستهدف الشباب، وقام برسم العديد من الجداريات في مستشفيات الأطفال. تأثرت أفكاره وأعماله الفنية بشدة بفنون الأطفال وفطرتهم حتى أنه كتب في مذكراته عام 1987: “إذا لم تعتبر اللوحة مقدسة، يمكنني العمل عليها دون قلق، يمكنني أن أرسم من تلقاء نفسي، دون الاهتمام إذا كان الرسم جيدا أم لا، أستطيع أن أترك نفسي للاستجابة الفورية أمام اللوحة، إذا كان هناك أي سيطرة مني على الإطلاق، فهي سيطرة وقتية استمرارها غير مهم”.
إصابة هارينغ بالإيدز
في عام 1988 تم تشخيص هارينغ بأنه مصاب بمرض الإيدز، مما تسبب في موجة نشاط، حفزته على إنتاج أكبر قدر ممكن من الأعمال الفنية التوعوية ضد المرض، فاستخدم أعماله الفنية لرفع مستوى الوعي بالمرض، عن طريق اللوحات والملصقات، ليعرف المجتمع بالتحديات التي تواجه المرضى، دون أن يجدوا من يعبر عنهم وعن آلامهم.
بعد عام من إصابته بالمرض، أنشـأ مؤسسة هارينغ لتمويل ودعم الأبحاث المتعلقة بمرض الإيدز، بالإضافة إلى جمعية خيرية تستقبل المرضى.
توفي كيث هارينغ في 16 فبراير/شباط 1990 بمضاعفات مرض الإيدز، واستخدمت أعماله الفنية لمحاربة الإيدز في جميع أنحاء العالم، وأدرجت في طوابع للأمم المتحدة للتوعية ضد المرض، وما زالت جمعيته تواصل السعي لتحقيق أحلامه المتعلقة بالتعريف بمرض الإيدز ودعم المرضى حتى وقتنا الحالي.