جاءت المحاكمات الشهر الحالي استثنائية في دولة قاومت بشدة استعادة المشتبه بهم في قضايا الإرهاب من العائدين من ساحات القتال في العراق وسوريا.
فقد نظر قاض في باريس في قضايا مقامة ضد 24 رجلاً وامرأة متهمين بصلات مع تنظيم داعش الإرهابي، وجرى استدعاء الشهود، وأدلى المدعون العامون ومحامو الدفاع بتصريحاتهم قبل إصدار الأحكام.
الغريب أن 19 من المتهمين قد لقوا حتفهم، وحوكموا جميعاً غيابياً، ولذلك وصفتها وسائل الإعلام الفرنسية بـ«محاكمة أشباح».
واعترف أنطوان أوري، أحد محامي الدفاع، بذلك، وقال للمحكمة: «في فرنسا عام 2020، نرفض إعادة الأحياء، ونحاكم الموتى».
وأبرزت المحاكمة التي انتهت الأسبوع الماضي بإدانات للجميع إحدى مفارقات الوضع الفرنسي فيما يتعلق بقضايا من هذا النوع. وتتطلع الحكومة إلى مقاضاة المشتبه في ضلوعهم في الإرهاب، على أمل منعهم من استغلال ثغرات قانونية، ومحاولة جمع بيانات عن كيفية عمل تلك الشبكات للحصول على أدلة في المحاكمات المقبلة للأحياء، لكنها لا تريد إجراء المحاكمات على أراضيها.
ومنذ عام 2018، كانت فرنسا في طليعة المفاوضات الأوروبية مع الحكومة العراقية لمحاكمة المتطرفين الأوروبيين، لكنها لم تحقق فيها سوى نجاح متواضع».
ورضوخاً للرأي العام المطالب بحزم بعدم استعادة أولئك الذين غادروا للقتال مع «داعش»، لم توافق فرنسا سوى على استعادة بعض جهادييها، حيث كانت البلاد رافدا مهماً لمقاتلي التنظيم الإرهابي، إذ قدر عدد من غادروا فرنسا للانضمام إلى التنظيم المسلح بنحو ألف شخص من عام 2012 حتى 2015.
وقال جان تشارلز بريسارد، مدير «مركز تحليل الإرهاب»، وهو منظمة بحثية مقرها باريس، إن نحو 80 من مقاتلي «داعش» ما زالوا محتجزين في العراق وسوريا.
وأضاف أن «الموقف الفرنسي سياسي، يستند إلى رفض الرأي العام لرؤية الإعادة إلى الوطن. لكن فيما يتعلق بنظامنا القضائي، كل شيء جاهز لاستعادتهم، بما في ذلك السجون».
وعلى مدار العامين الماضيين، كانت المحاكم الفرنسية تحاكم عشرات المتشددين الذين يُفترض أنهم ماتوا. ولم يكن أمام المحاكم خيار يذكر لأن أجهزة الاستخبارات لم تتمكن من الوصول إلى مناطق القتال في سوريا والعراق للتحقق من الوفيات.
وعرضت محاكمة الشهر لمحة لما أصبح منهجاً معقداً لمكافحة الإرهاب، حتى في الوقت الذي تستعد فيه فرنسا للمحاكمات التي طال انتظارها للمتهمين بالاعتداء على صحيفة «تشارلي إيبدو»، وللمشتبه بهم في هجمات نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 على قاعة حفلات «باتاكلان» ومواقع أخرى في باريس.
واستثمرت فرنسا كثيراً في تكييف نظام العدالة الجنائية مع تهديد المتطرفين، وبات لديها الآن بعض من أكثر قوانين مكافحة الإرهاب شمولية في أوروبا.
وبحسب أنطوان ميغي، الخبير في قوانين مكافحة الإرهاب بجامعة روان في شمال فرنسا، فإنه «قضاء يترك مجالاً للتفسير»، مضيفاً أن المنطق يقول: «يكفي أن تحاكم لأنك على صلة بأنشطة متشددة».
لكن تجربة الشهر الحالي أظهرت أن العملية برمتها سخيفة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك المتهم كوينتين روي الذي كان يسكن في ضواحي باريس، وغادر للقتال مع تنظيم داعش في سوريا عام 2014. وحسب أوري، الموكل للدفاع، فقد أشارت ملفات المحكمة أن روي فجر نفسه في العراق في يناير (كانون الثاني) 2016، وأنه مرتبط بـ«أنشطة عسكرية أدت به في نهاية المطاف لأن يصبح مفجراً انتحارياً». وأمام المحكمة، قال أوري: «أنت تحاكم رجلاً انتحر! هل شاهدت مثل هذا التناقض؟!».
وكان روي جزءاً من شبكة «سفران» المزعومة، وهي شبكة تجنيد جهادية مقرها منطقة في ضواحي باريس تحمل الاسم ذاته، وتعمل من داخل قاعة صلاة غير رسمية عرفت فيما بعد باسم «مسجد داعش».
ومن بين المتهمين البالغ عددهم 24 في المحاكمة، كان 13 منهم يترددون على المسجد. وروى والدي روي، فيرونيك وتيري، أمام القضاة كيف تحول ابنهما إلى اعتناق آيديولوجية متطرفة في غضون أشهر معدودة.
ووصفت والدة روي ما حدث بأنه «تجربة تطرف طائفي»، قالتها وهي تصف كيف أن ابنها اعتنق الإسلام عام 2012، ثم تخلى عن دراسته ووظيفته، وانفصل عن حبيبته.
وفي سبتمبر (أيلول) 2014، أخبر روي والديه أنه يتعين عليه الذهاب إلى فرانكفورت ليعمل سائقاً لدى «أوبر». وبعد بضعة أيام، عبر الحدود من تركيا إلى سوريا. وكما فعلوا مع عائلة روي، استمع القضاة إلى أقارب المتهمين الذي بلغ عددهم 19، لرسم خط سير رحلة المتهمين الذين يُعتقد أنهم ماتوا. وكان من بين هؤلاء المدعى عليهم الأخوان محمد ومهدي بلحسين اللذان ارتبطا بهجوم على سوبر ماركت «كوشير»، نفذه أميدي كوليبالي في يناير (كانون الثاني) 2015.
المصدر: الشرق الأوسط