توما ديلوجي: الشعر ليس تنظيماً سرياً

 

 

 

 

 

 

 

حجر ثقيل في بركة الشعر الفرنسي الراكدة رماه الشاعر الفرنسي الشاب توما ديلوجي الذي دعا، في مقال مثير للجدل نشرته صحيفة “ليبراسيون”، الشعراء في فرنسا إلى النزول من الأبراج العاجية أو الصعود من الأقبية المعتمة، والعودة بقوة إلى الساحة العامة لاستعادة ماضٍ كان فيه الشاعر فاعلاً أساسياً في المجتمع يُسمع ويُقرأ ضمن عملية تفاعلية مع محيطه القريب والبعيد.

 

تتمثل مشكلة الشعر الفرنسي الراهن بالنسبة لديلوجي في عدم استيعابه التحوّلات الجوهرية التي ألمّت بالمجتمع: سيطرة الليبرالية المتوحشة وشيوع الثقافة الاستهلاكية وهيمنة الرواية كسلعة ثقافية مربحة. أيضاً عجزُ الشعر عن تحديد تعريف دقيق لماهيته وأهدافه، تاركاً المجال مفتوحاً لهيمنة رؤية مكرورة ومبتذلة لا ترى في الشعر سوى جنس أدبي هامشي انتهت صلاحيته منذ عقود طويلة وتعتبر الشعراء فصيلة في طور الانقراض.

 

أما بالنسبة لأسباب هذه الأزمة الوجودية التي يتخبّط فيها الشعر فهي متعددة حسب ديلوجي: وسطٌ شعري مشتتٌ في جزر متباعدة بقدر ما هو متقوقع على نفسه؛ تاريخ شعري ثقيل ومنجز مثير للفزع (ماذا تكتب وكيف بعد كل أولئك العباقرة؟)؛ ثم وشائج هشة وتكاد تكون شبه منعدمة مع الجمهور العريض ووسائل الاعلام، ما يزيد عزلة الشعر والشعراء استفحالاً. هذا إجمالاً التشخيص الذي قام به ديجولي. لكن ما هي الوصفة التي يقترحها لتجاوز الأزمة وفك العزلة؟

 

شعرية الجمهور العريض

 

إن اراد الشعر استعادة مكانته في المنظومة المجتمعية والثقافية، عليه إذن أن يعرف نفسه من جديد وأن يحسم في العلاقة المرتبكة والمستعصية مع تاريخه وتراثه. ثم، وهنا بيت القصيد، عليه أن يخرج إلى الهواء الطلق ويتغلغل في المجتمع منصتاً إلى صخب الحياة. ويرى ديلوجي أن تحقيق الفكرة الأخيرة يمرّ عبر اختراق مدروس لوسائل الإعلام الجماهيرية، المكتوبة والمسموعة والمرئية، واستمالتها للشعر والشعراء وتوظيفها لضمان الانتشار والمقروئية.

على الشعر أن يعيد حساباته ويتخلى عن اعتبار الجمهور العريض مجرد كتلة غبية لا تستحق أن يتواصل معها

 

طبعاً لا حظوظ لهذا الاختراق إن لم يغيّر الشعر منطقه ويعيد حساباته ويتخلى عن اعتبار الجمهور العريض مجرد كتلة غبية لا تستحق أن يتواصل معها. فطبيعة الشعر الجديد، إن رغب في فتح عوالم جديدة، لا يمكن أن تُبنى على تأويل شخصي مهما كانت قوته وصدقيته، بل بالعكس عليها أن تُبنى على فكرة الشمولية في زمن تحوّل فيه العالم بفضل الإنترنت وتكنولوجيا الميديا المتطورة إلى قرية كونية…

 

ويركّز ديلوجي على ضرورة مخاطبة أكبر عدد ممكن من القرّاء والمستمعين والمشاهدين وملامسة قضاياهم وهواجسهم للفت الانتباه والحث على التفاعل، بدلاً من الانغماس النرجسي في ممارسة شعرية وتمارين لغوية تبدو وكأنها موجهة بالأساس للشعراء أنفسهم، وفي أحسن الأحوال، لنخبة عالِمة من الأساتذة العارفين بطلاسم الشعرية المتعالية.

 

الكتابة للشعب مع الشعب واستمالة آذان وعيون الجمهور الواسع وإدهاشه بالقدرة السحرية للقصيدة، تلك إذن هي المهمة الشائكة والمعقدة التي تقع على كاهل شعراء اليوم للخروج بالشعر من نفق العزلة والموت البطيء. ويرى ديلوجي أن غالبية الثورات الشعرية تحققت في ظروف صعبة امتحن فيها الشعر نفسه وتكيّف مع محيطه، مثلما حدث مع التيارات الشعرية الكبرى كالسوريالية وقبلها الرمزية والرومنطيقية. فهذه التيارات فرضت نفسها بدرجات متفاوتة في محيط شرس يرفض الجديد ويعادي الابتكار، بفضل تأقلمها مع هذا المحيط وتوظيفها الذكي للقدرة الخارقة التي تسكن القول الشعري.

 

باختصار، يرى ديلوجي أن الشعر في منعطف وجودي حاسم: إما أن يبقى تنظيماً سرّياً منغلقاً سجين نظرة نخبوية بما يحمل ذلك في طياته من تهميش واقصاء ذاتي، أو يتفاعل مع قاعدة جماهيرية واسعة لكي يصير له وزن وكلمة مسموعة في المجتمع.

 

قصاصات الأخبار في قصيدة

 

قد نتفق أو لا مع الطرح الذي يقدّمه ديلوجي، وقد نعتبر طرحه مجرد مقاربة سطحية. لكن الرجل على الأقل يجازف باقتراح بعض الحلول، مهما كانت درجة قابلية تحقيقها. فأزمة الشعر مع ذاته ومحيطه صارت واقعاً في أغلب بلدان العالم، حتى تلك التي كانت في ماض قريب تتوفر على بيئة حاضنة للقول الشعري الشفهي. ولا شك أن الوقت حان كي يفكر الشعراء بما فعلوه بالقصيدة وما عليهم فعله للخروج بها إلى دائرة الضوء. ولعل استشهاد ديلوجي بمنجز القصيدة السوريالية كان النقطة الأقوى في طرحه لأن هذه القصيدة انخرطت إلى حد كبير في راهنها الثقافي والسياسي واكتسحت النقاش العام وتفاعلت مع الجمهور العريض من دون أن تفقد الكثير من سُمكها ومتطلباتها الشعرية والمعرفية.

 

ويبقى الأهم أن الرجل لا يكتفي بالتنظير وتقديم الدروس للشعراء. فقد اختار عن قناعة أن لا يقتصر نشاطه على النشر في المجلات الشعرية المتخصصة والاكتفاء بنشر قصائده في دواوين على نفقة الشاعر أو في دور نشر صغيرة تطبع عشرات من النسخ التي عادةً ما يقتنيها الشاعر نفسه ليهديها للزملاء والمقرّبين.

 

يستشهد ديلوجي كثيراً بجملة للشاعر الفرنسي الراحل بيار ريفيردي: “بما أن لا مكان للشعر فلزامٌ علينا أن نضعه في المكان الذي تتوفر فيه فرص البقاء”. فرصة البقاء وربما حياة جديدة يراها ديلوجي في موضع مفاجئ وغير مسبوق. فقد اختار أن ينشط كـ”شاعر أخبار” في الصحف والمواقع الاخبارية التي تتوجه للجمهور العريض. وينشر حالياً مقالاته عن الشعر في موقع “ميديا بارت” الذي يشرف عليه مدير التحرير السابق في صحيفة “لوموند” إدوي بلينيل، وهو من أشهر المواقع الإخبارية في فرنسا وأكثرها تأثيراً في المشهد السياسي.

 

ويبقى إنجازه الأهم، والأكثر طرافة، نجاحه في إقناع موقع اخباري ذي شعبية كبيرة “فلوكتويت” بمنحه مساحة يكتب فيها كل أسبوع قصيدة يعلّق فيها من زاوية محددة على المواد الخبرية ليطّلع عليها المتصفّحون والقراء الذين لم يتعودوا على قراءة قصيدة قرب خبر سياسي.

عن العربي الجديد