لتكن “منطقة آمنة” إذن

شورش درويش

 

منحت الولايات المتحدة، أخيراً، قبلة الحياة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) من خلال الاتفاقية الأمنية الأميركية التركية التي أريد تعظيم شأنها بإرضاء الجانب التركي، عبر إطلاق تسمية “المنطقة الآمنة” عليها، ولكن واقع الحال يجعل من المنطقة الآمنة هذه التي طمحت إليها أنقرة مجرّد منطقة فاصلة على شريط حدودي ضيّق، لا يفي بالمطامح التركية التي اتخذت من وعدٍ شفهي للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كان قد قطعه لنظيره التركي، رجب طيب أردوغان، يمنح بموجبه الجانب التركي منطقة آمنة بعمق 32 كم داخل الأراضي السورية.

تبدّى وعد ترامب مع الأيام هشّاً وكلاماً قابلاً للأخذ والرد، أو أنه جاء أقرب إلى عباراته الارتجالية الأخرى في مسائل تمسّ الأمن القومي الأميركي في الخارج. تبدّد وعدُ الانسحاب ومنح تركيا الضوء الأخضر سريعاً، وحلّت محلّه عبارات أخرى، كالحديث عن مسألة البقاء ريثما يتمّ الإجهاز على خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) النائمة وسواها من عبارات تحمل على التسويف وكسب الوقت، أيّاً يكن من أمر هذا التسويف الذي أبدته واشنطن، والانتخابات البلدية التركية، ومن ثم جولة الإعادة في إسطنبول، والأمران كفيلان بتراجع حدّة التهديدات التركية، ولكن إلى حين، إذ عاودت أنقرة الكرَّة للحديث عن منطقة آمنة، مشفوعاً باستعداد عسكريّ.

أدركت “قسد” جدّية تركيا، فبادرت إلى تعطيل الهجوم التركي، عبر سلّة من المقترحات الملهمة لإيجاد صيغةٍ تمنح تركيا بعض “العنب” على ألّا يمسّ “الناطور” ضرر، وغالب الظن أن مقترحات “قسد” كانت مبنيةً على اتفاقٍ أسبق بينها والقيادة الأميركية في سورية، ذلك أن تلك المقترحات تحوّلت، بفعل الإصرار الأميركي، إلى واقع حال. وبالتالي، اقتضى الحل التوافقي استنساخ تجربة منبج، وتسيير الدوريات المشتركة، وإحلال المجالس المحليّة المحدّثة مكان التي شكّلتها قوات سوريا الديمقراطية، وسحب الأسلحة الثقيلة إلى حيث تفقد مداها المجدي.

في هذه الغضون، دعا مسؤولون في “قسد” إلى توسيع نطاق المنطقة الآمنة هذه، لتمتد بين نهري دجلة والفرات.

لا غرابة في الأمر، فشكل (ومناط) التدخل التركي في المنطقة الآمنة الأولى، الممتدة بين ريفي رأس العين وتل أبيض، يشي بتوقّف التهديدات التركية في تلك المنطقة. وبالتالي، يصبح تعويم الاتفاق على كامل المنطقة الحدودية التي تسيطر عليها “قسد” شرق الفرات مدخلاً لإحراج تركيا، وإيقافها حيث تريد الولايات المتحدة، وبما لا يتسبّب في تهتك النسيج الضام بين واشنطن والقوات الكردية. الأبعد من ذلك، تسعى “قسد” إلى المناورة في مسار عودة اللاجئين، إذ أبدت استعدادها لاستقبال اللاجئين السوريين، وتأمينهم شرق الفرات. ولعل الخطوة هذه ترمي إلى سحب ورقة إعادة اللاجئين من يد تركيا التي برّرت تدخلها في شرق الفرات لأجل تأمين عودة آمنة للاجئين. لكن وفي إزاء ذلك ثمّة مخاطر تنطوي عليها مسألة العودة هذه، بما تحمله من مخاطر محتملة على طبيعة المنطقة الديمغرافية، وإعادة الهندسة الاجتماعية فيها، وهو أمر مقلقٌ للكرد السوريين، فضلاً عن تبديد آمال اللاجئين السوريين الذين يأملون في العودة إلى ديارهم ومناطق سكناهم الأصلية.

ثمّة صوتٌ يمكن الإصغاء إليه بوضوح في أنقرة، يبدي قبوله لما تحقّق مع الجانب الأميركي. وثمّة صوت كردي مقابل يبدي قبوله على مضض بما تحقّق، والحال، فلا الظرف التركي الداخلي الحالي، ولا طبيعة التوازنات الروسية الأميركية التي تحاول أنقرة عبثاً إيجاد حالة توازن فيما بينها يسمحان بالمضي في العناد والمكابرة والمطالبة باجتياح القوات الكردية شرق الفرات وتدميرها، ولا التموضع الكردي يسمح بحمل “قسد” على الترف وعدم التفكير في حلولٍ هي أشبه بتجرّع السم. وبالتالي، نحن نقف أمام مشيئة أميركية اقتضت إيجاد حل يرضي ولا يرضي كل الأطراف، عنوانه منطقة آمنة، هي أبعد ما تكون عن المناطق الآمنة التي شهدها التاريخ القريب في غير بقعة. أما إذا كانت التسمية تشكّل حلّاً من الحلول، فلتكن “منطقة آمنة” وفق ما تقتضيه العناوين الكبيرة.

 

نقلا عن العربي الجديد