يبدو سحر الفن الفلمنكي او الهولندي آسراً لشتى الأذواق التشكيلية ومسيطراً كنموذج أعلى على تجليات الضوء الطبيعي وتساميه بالنور الداخلي في الأداء الصباغي. أحكم سلطته ليس فقط على المحترفات العربية وعلى رواد تصوير عصر النهضة (في مصر ولبنان)، بل إن ميراث إبداعات الأراضي المنخفضة يتفوق (باتفاق النقاد والمؤرخين) على مركزية تقاليد النهضة الإيطالية نفسها، وذلك باجتياحه مناهج التصوير الأوروبي والأميركي وسواهما على غرار المعاصر وليام دوكونينغ الذي حمل تقاليده الروحية إلى مدرسة نيويوركية هي «التعبيرية التجريدية». من يملك القدرة على الإفلات من جاذبية وسحر البورتريهات والأوتوبورتريهات التي أتحفتنا بها عبقرية رمبرانت؟ ومشاهد الغرف الداخلية (بعكس الضوء) التي وشحت خيالنا التّصويري إلى اليوم بفضل توأمة جان فيرمير.
تتواصل هذه الرهافة الروحية – الذوقية مع خصائص الطبيعة الجغرافية في حواضر هولندا، ابتداءً من عاصمتها السياحية أمستردام وانتهاءً بعاصمتها الفنية لاهاي وهي الأولى في أوروبا التي منعت استخدام السيارات في قلب المدن، وسيطرت على مناظرها الحميمة ثنائية الطواحين الهوائية (رمز الطاقة غير الملوثة) والدراجات (رمز السرعة غير الملوثة).
فالطبيعة «الإيكولوجية» الحضرية بما فيها طوبوغرافية الخريطة الوطنية تتنازع البقاء والفناء مع تمدد الجسد المائي، تنهش موجاته كل يوم جزءاً من اليابسة، قبل أن يردم الإنسان الشواطئ وتتقدم الأرصفة من جديد في عباب اليم، فالوجود القومي يقع بين مد وجزر مما يستشرف «القيامة» (ما بعد عام 2050)، والتي سيرتفع خلالها منسوب البحار أكثر من متر ونصف المتر بما سيغرق أجزاء لا يستهان بها من هذه المرافئ المرحة.
لا شك في أنه جزء متقدم من أخطار الكوكب الأرضي في المستقبل القريب.
حضرتني هذه الملاحظة بمناسبة إعادة افتتاح أبرز متحف في هولندا، في المركز التاريخي العريق لمدينة لاهاي وهو القصر المعروف باسم «موريتشيس» بمعنى «بيت موريس»، كان شيده الكونت موريس (الذي عين حاكماً للبرازيل في الفترة الإستعمارية) وذلك ما بين 1636 و 1644 اي في القرن السابع عشر، وأشرف في حينه عليه وصممه المعماري المعروف كامبين، بعد دراسته واستقراره في إيطاليا لسنوات ثم تبنيه أسلوب الآديو. عانى القصر بعد ذلك من حريق هائل عام 1704 وبعد ترميمه تحول إلى متحف وطني عام 1822، يعانق طابقه الأول 250 لوحة من أشهر تحف نجوم التصوّير الهولندي، ورغم تواضع مساحته يعتبر من أشهر متاحف هولندا ولا يوازيه إلا لوفر باريس. لذلك فإن العنوان الفرعي لهذا الحدث الفني:»متحف صغير لأعمال فنية كبيرة».
وهكذا أعيد افتتاحه اليوم بعد سنتين من غياب مجموعته التي لا تقدر بثمن عن العرض، وسبق توقفه بهدف التمدّد والترميم ثلاثة معارض بانورامية جامعة متتالية في أكبر المتاحف الأوروبية وذلك من أجل تخصيص ريعها للتعويض جزئيا عن تكاليف إعادة التعمير، والتي تجاوزت 22 مليون يورو . يعتبر القصر من الأبنية الأثرية والتراث المعماري المسجل حفظه في اليونسكو، أطلق عليه مع تأسيسه «القاعة الملكية للتصوير».
لذلك لا يمكن تعديله وإنما تمدد خارج مخطّطه الهندسي وهو ما كان عبر سنوات إعداده.
فأهمية مجموعة لوحاته (التي نمت مع الاقتناء المتواتر) تتناقض مع تصميمه كقصر أو بيت حميم لا يحتمل أكثر من أربعمئة من الزوار في حين يتسع بعد التمدد إلى أكثر من ألف ومئتين (مع صالاته المفتوحة). كانت تضطر إدارته مسبقا لنقل محتوياته في كل مرة تستقبل فيه معرضاً عالمياً خاصاً إلى بيت مجاور، وكذلك مكاتب إدارته فهي تقيم في بيت آخر. بخاصة وأن القصر مطوق بالمياه والرطوبة وكان لا بد من إعادة ترميم وتنظيف اللوحات من الفحم العالق بها بنوع من معجون الفرنيش، وذلك بسبب استخدام مدافئ الفحم في التدفئة العامة في القصر.
لكن الحال تبدل اليوم بعد ختام برنامج التمدد والترميم اذ أضيف إلى قصر موريتشيس المتحف بناء حديث بطوابق ورواق تحت الأرض. تفصل بين القسمين قناة مائية.
إذا كان القصر – المتحف بطراز إيطالي للأسباب التي ذكرتها فقد حاولت موهبة المعماري أن تجعل النسب العامة وعلاقة قرميد السقف بالهيكل رهيفة للانسجام مع الطراز المعماري لقصور المدينة في القرن السابع عشر. دعونا نتأمل أشهر لوحة لفيرمير في مجموعة المتحف. تصوّر واجهات المدينة وانعكاساتها في الماء مع مراكب ذلك الوقت. كان الفنان أنجزها بين عام 1656 و1660 بعنوان «منظر دلفت»، ونتحقق بعد الإمعان في تفاصيلها المعمارية والتنظيمية ملياً أن قصر موريتشيس (المتحف) متمفصل عضويا معها.
بهذه العملية نكون قد عبرنا إلى لآلئ المعرض من تحف التصوير الهولندي، هو المعبّر عن أبدية وعزلة ووجودية هذا الطراز الحي الملهم حتى اليوم: من مقال لوحة «درس التشريح» لرمبرانت (عام 1632). أو لوحة الطائر لفوبريتيس 1654 أو «عازفة الكمان» لهونتورست 1626 أو لوحة «الفتاة ذات اللؤلؤة» لجان فيرمير عام 1665 ، أو لوحات روبنز وثيران بوتير… كلها تنتظر الزيارة في المعرض المستمر حتى أواخر كانون الثاني (يناير) 2015.
أسعد العرابي /عن الحياة