«يوم قابيل» للشاعر السوريّ نوري الجراح وأدب الصدمة

 

 

 

 

 

 

 

 

قراءة مجموعة الشاعر السوري نوري الجراح «يوم قابيل» تضعنا بين عدة مفاهيم جمالية لأسلوب الشاعر الشعري بانزياحه عن المألوف، وأسلوب الشاعر المعرفي المتماس مع جرح التاريخ والواقع والإنسان.
من أهم انزياحات نوري الجراح هو ارتباطه بالمفهوم الجمالي للشعر العربي المعاصر الموازن بين جمال الشكل بلغته الأدبية بالغة التكثيف، والجمال المعرفي غير المنفصل عن الراهن بنص مفتوح على الارتباط بالتاريخ والظروف السياسية والاجتماعية لبيئة الشاعر. وهذا ما يظنه الكثير من شعراء الوقت الراهن، والذين لا أعول على تجربتهم كثيرا لقصر نظرتهم للنص الإبداعي وعدم بلوغها النضج الكافي، مغالطة تشوه مملكة الشعر الجمالية. هذه الفئة تحرم الاقتراب من الكتابة عن القضايا الإنسانية الكبرى المرتبطة بهوية الأمة الجمعية، وتكتفي بالتقاط صور يومية عادية تميل إلى البتر والحذف لكثير من التفاصيل التي تخدمنا في فهم النص الإنتاجي الإبداعي، فهي نصوص خاوية الدلالة. هذه المقاربة الجراحية للشعر يسميها الناقد صبحي حديدي بالمجازفة كما يقول في مقدمته الفنية العميقة للمجموعة الشعرية والمتصلة بالمسار النقدي الغربي ما بعد الحداثي. هذه المجازفة كما يبين حديدي: « تحولت إلى ما يشبه «المحرم» في قصيدة الحداثة العربية المتأخرة عموما، وقصيدة النثر المعاصرة بصفة خاصة، وأعني موضوعة السياسة، أو الحدث السياسي الكبير الذي يخص حياة الملايين من قراء الشعر، في برهة وطنية بالغة الخصوصية» ( المجموعة ، ص 14)

نعم إنها مجازفة أمام متلق عربي، لا زال يعيش وفق الفكر الحداثي المشوه والمنقوص وغير الناضج، ولكنها لن تكون مجازفة لو اختلف مستوى تلقي القراءة، والمخاطب إلى العالم الغربي تحديدا. فالعالم ما بعد الحداثي أصبح بجوهره سياسي يقدم اعتذارياته للحقبة الزمنية السابقة من سوء الفهم والاختزال والابتسار البنيوي لدور الأدب وغيرها من القضايا الإنسانية الهامة.
لذا أرى مجموعة نوري الجراح منفصلة عن الفكرة السائدة والآنية للشعر في الوطن العربي ومتصلة بالعالم الغربي من حيث فكرة الارتباط بالراهن المعيشي، مثلها مثل تجربة درويش وسميح القاسم والبرغوثي وغيرهم من الأدباء الذين كتب لهم أن يكونوا الاستثناء من القاعدة العربية، والنغمة المنسجمة لا المتعارضة مع الإيقاع الإبداعي الغربي ما بعد الحداثي، والذي أتت المقدمة والمجموعة الشعرية متصلتين معه تماما، وأنا متأكدة ، رغم إنني محتاجة لكثير من الشك في هذه الأيام، إن صبحي حديدي لو خاطب القارئ الإنجليزي لم يكن مضطرا لوصفها بمجازفة بقدر ما هي متسقة مع نظرتهم الراهنة للإبداع.
من بين القضايا التي تهمني في هذه المجموعة هي قضية أدب الالتزام، وهو التزام الشاعر بقضايا أمته السياسية الاجتماعية المعاصرة، تتبناها قصيدته وتقولها على طريقتها الأدبية ونوري الجراح هنا ابن مدرسة الالتزام الشعري الممتدة إلى التاريخ البعيد لو تأملنا تاريخ الإنسانية الشعري، ألم يقل ادورنو في الجدل السلبي:
«أنا ليس لدي أمنية في تنعيم مقولة لأن تكتب الشعر الغنائي بعد أوشفيتز هو أمر بربري؛ الشعر يعبر بشكل سلبي عن النبض الذي ينزع للأدب الملتزم».

وهنا يقول الجراح:
«أنا لا أكتب قصيدة لكنني أمزق يدي في الورق.
دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر؟». (ص، 34)

فالدم الذي يجري في قصيدة الشاعر هو مداد وروح قصيدته وهو الفكرة النابضة والتي ولدت القصيدة وجعلتها مرثية مفتوحة على الوجع الإنساني العربي. هذه القصيدة الحبلى بالوجع الإنساني تدفع الشاعر للتساؤل عن فعلية وجود قرائها مادام قطار الموت لا يترك أحدا، فمن بقي هنا، وإن بقي القليل فكيف سيقرأ القصيدة في زمن الموت والرعب والهلع! إذن القصيدة هي مداد دم الحرب والعنف، والتعبير عن معاناة الأرواح المعذبة، فالمعاناة الخالدة، كما يقول أدورنو: «لديها الحق الأكبر للتعبير بوصفها رجلا معذبا عليه أن يصرخ، لذا من الممكن أن تكون مخطئا لأن تقول بعد أوشفيتز أنت لا تستطيع تكتب قصائد بعد».

العنونة وتعانق التاريخ مع الراهن:
ليس من المستغرب أن يكون العنوان هو « يوم قابيل» كتناص متماس مع يوم قتل قابيل لأخيه هابيل، فهو تناص مع حادثة تاريخية عالمية كتبت عنها كل الثقافات والأديان، ولا زالت موضوعة متجددة ومستمرة في تفسير العنف والقتل، لما يحدث بالأحداث اليومية العادية، ولما هو فوق اعتيادي وطبيعي. كما إنه بإعلانه يوم قابيل هو يستحضر أيام بني هابيل للموت. ويكشف تناقض ثقافتنا الإنسانية التي تظهر الإنسانية وتمارس العنف بصورة سرية بدأت بالإعلان عن نفسها بفجاجة وتحت شعار الدين، فهو يقول:
ومن هؤلاء المشيعون يخرجون من باب في مئذنة
ولا يخرجون من حانة أو مكتبة! (ص:57)
يقابل الشاعر هنا بين أمرين متعارضين هما إن الموت لا يخرج من حانة أو مكتبة على اعتبار إنهما فضاءان للحرية والتفكير، بل من المئذنة (ونحن هنا لا نتحدث عن المئذنة والدين بالفكر الاعتيادي ودور الدين المثالي ولكني أتحدث عن تحولات دلالة الدين إلى أن أصبحت على هذا الشكل الفاجر من الاستخدام السيء لدورالدين والمئذنة). فكلمة المئذنة هنا كانت استخداما لا يصح أن يستبدل بأي كلمة أخرى لأنها التعبير الدقيق عن الراهن وبإيحائية مكثفة. المئذنة لم تكن فقط للأذان، ولكن أتت لإعلان الخطاب الديني المنحرف والمتطرف، الذي يأذن لهم أيضا بالموت، تحت شعار الدفاع عن الدين والحرمات. بينما المكتبة وهي رمز للتحرير العقلي من الوصايات، تشير ضمنيا إن الفكر الحر لا يقود للموت، بالمقابل يكون غياب العقل، هو طريق الموت.
« الأيام السبعة للوقت» هو نص تصويري كامل لأحداث الموت بسردية شعرية متكاملة، تذكرنا بالأرض اليباب لإليوت برصدها وجوه متعددة للخراب. فهذه الأيام لم تذر أحدا، ولا حتى قارئ لقصيدة الشاعر، التي كتبها ليس من أجل الغزل أو أي غرض من أغراض الشعر الأخرى، ولكن كتبها لأن يكون شاهدا على ما يجري، ولا سيما إن ما يجري هو أمر غير مألوف. الشاعر يكتب بمداد الدم، ويرثي ويبكي كل من رحلوا ومن يرحلون ومن سيرحلون. يكتب الجراح هنا تحت تأثير الصدمة، ويمارس اقتصاديات بكاء الموتى، وفق تعبير فرويد، باعتبار إنها ضرورة هامة متزامنة مع الموت، ونوعا من الرثاء على طريقة أدبية إنسانية خاصة منحرفة تماما عن تقريرية مراسلي الصحف، لأنه يقدم رؤية منحرفة عن الخطاب الإعلامي السائد، تغيب الكلمة المباشرة وتحضر التقنيات الأسلوبية في التعبير عن الألم. الاستعارة والمجاز هما أدوات الرثاء والحزن والعويل. وقول الشاعر «دم من هذا الذي يجري في قصيدتك» كمفتتح شعري يتكرر في القصيدة كثيرا، يؤكد الشاعر التزام قصيدته بقضية الدماء التي تراق، ويؤكد إن قصيدته قصيدة عنف مدادها الدم الجاري، ولعل الجريان هي صورة لتدفق ذاكرة الألم التي جعلته يستفيض بصور عدة كان مداد هذه المجموعة وهذه القصيدة.
الشاعر، كما يؤكد، قصيدته عمياء، وصوته أعمى. والمفارقة غير المنطقية، هنا، أتت لرسم زمن غير منطقي بالكامل، فالقصيدة الملآى بالدم، والقتل، هي قصيدة لا تبصر لأن البصر هو بمنطق الشاعر إبصار للجمال، والنور، والحقيقة وليس في دائرة مظلمة وحالكة يؤثثها الخراب. وهو ما يؤكده المقطع الأخير في القصيدة:
« دم من هذا الذي لطخ يديك أيها الأعمى؟
أنا لا أكتب قصيدة لكنني أشم القميص لأبصر. (المجموعة، ص74)
هذا النص هو بمثابة مشهد جنائزي يستمد من الدم وسيلة لبكاء الموتى ورثائهم والتعبير عن الصدمة بالتزامن معها، وليس بعدها، التي جعلت الشاعر يعيش العمى بكل حواسه، ليسجل شهادته الشهرية الملتزمة أمام الأحداث، مثل يعقوب يحاول الإبصار من خلال التعرف على تفاصيل الأزمة كاملة، وإدراكها. فالمعرفة هي التي تؤسس سردية الحاضر وبالتالي تضيء المستقبل، وما قميص يوسف في السردية التاريخية إلا رمزا يتحول ليصبح قصيدة الشاعر المكتوبة بهدف أن يبصر ويبصر معه قراؤه في الحاضر والمستقبل، وليخرج جيل من الباحثين في المستقبل يتحدثون عن ذاكرة الصدمة الإنسانية في قصيدة الشاعر نوري الجراح مثلها مثل الهولوكوست والنكبة وغيرها من الحوادث التاريخية المؤلمة.

نوري الجراح، «يوم قابيل»، مجموعة شعرية، دبي الثقافية، يوليو 2013م.

سعاد العنزي/ عن القدس العربي