[إليا كامينسكي شاعرٌ أميركيّ من أصول روسية، بالأحرى هو شاعر روسي يكتب بالإنجليزية. ولِد كامينسكي في أوكرانيا عام 1977. كتبَ بالروسية ونشر مجموعة بعنوان “المدينة المباركة” عام 1992. ثم كتب لاحقًا بالإنجليزية وأصدر مجموعة شعريّة عام 2002 بعنوان “ميوزيكا هيومانا” (Musica Humana) أتبعها بمجموعة أخرى بعنوان “الرقص في أوديسا” وقد حققت نجاحاً لافتاً. تقول عنه الشاعرة والناقدة كارولين فروشيه: ليس لي أن أصف كامينسكي بأنه شاعرٌ واعدٌ، وإنما هو حلمٌ تحقّق في شاعر. إنني منبهرة بعبقريّته”. يقول كامينسكي عن سبب كتابته الشعر بالإنجليزية: “اخترت الإنجليزية لأنّها لغة لا يعرفها أحدٌ من عائلتي وأصدقائي من حولي، فلا أحد ممّن أتكلم معهم قادرٌ على قراءة ما أكتب، حتّى أنا لم أكن أعرفها. لقد كانت الإنجليزية لي كيانًا جديدًا، ومنحتني حريّة جميلة بجنون، وما تزال”].
صلاةُ المؤلف
للحديث باسم الموتى، عليّ
أن أغادر حيوان جسدي
عليّ أن أكتب القصيدة نفسها مِراراً
فالصفحة الفارغة رايةٌ بيضاءُ لاستسلامهم.
إن تحدّثت باسمهم فعليّ أن أسير
على حافة نفسي، وأن أعيشَ كأعمى
يتنقّل بخفّةٍ بين الغرف
دون أن يعثرَ بالأثاث.
نعم، أنا أحيا. وأستطيع أن أعبر الشوارع سائلًا “أي سنةٍ هذه؟”
أستطيع أن أرقص في نومي
وأن أضحك مواجهاً المرآة.
يا رب، حتى النوم هو صلاة،
سأمتدح جنونك،
وبلغةٍ ليست لي، سأتحدث
عن موسيقى توقظنا، موسيقى فيها نتحرّك. فكلّ ما أقوله
هو توسّل ما، وتلك الأيام الأشدّ
حلكةً، عليّ امتداحها.
وداعية للأصدقاء
نعم، الإنسان برجٌ من طيور، وأنا أكتبُ أصدقائي
في الأرض، في الأرض، في الأرض.
هناك، بمصباح في يده
يقف الرجل-الخنفساء مرحّباً بمعارفه.
تقف أنتَ بقبّعات بيض ومعاطف طويلة،
ودفاتر أشعارٍ،
تحملها لشقيقات القرنفل البريّ،
حلماتٌ من ليلَك، نشارة خشب ودجاجات.
اذهبِ الآن، سوف أكتب سيرةَ ذاتية للمطر،
تنقلب الصفحات-
خطواتك الأولى في الغرفة.
عشنا سعداءَ في الحرب
عشنا سعداء في الحرب
وحين قصفوا بيوت الآخرين، تظاهرنا،
لكن هذا لا يكفي، واجهناهم.. لا يكفي.
كنتُ في سريري، وحول سريري كانت أميركا
تسقط: بيتًا خفيًّا وراءَ بيت خفيّ وراء بيتٍ خفيّ.
أخذتُ كرسيًّا إلى الخارج وراقبت الشمس.
في الشهر السادس
من فترة حكمٍ كارثية في بيت المال
في شارع المال في مدينة المال في بلد المال
دولتَنا العظيمة بالمال، نحنُ (واغفري لنا)
عشنا سعداء في الحرب.
أن تحيا
أن تحيا، كما يوصي الكتاب المقدّس،
أن تحبّ. هذا الحبّ ليس كافيًا!
يحتاج القلب قليلًا من الحماقة!
ولذا أطوي الصحيفة وأصنع قبّعة.
تظاهرتُ أمام سونيةَ أنني أعظم الشعراء
وتظاهرت هيَ أنّها صدقتني
سونيَتي، قصصها وساقاها الجميلتان
قصصها وساقاها التي تتفتّح على قصص أخرى!
وأقول: هذا الإنسان
يفهم الكون: موسيقاه
تجعلنا حمقى. أرانِي: معطفٌ مطريّ أصفر،
سندويشة، وقطعةٌ من الطماطم بين أسناني.
أرفع طفلتي الرضيعة في الهواء-
أغنّي وهي تبول
(تضحك زوجتي وتقول: أحمق عتيق)
على جبهتي وكتفيّ!
مديح
… إلا أنّه وفي أحد الأيام وعبر البوابة التي ترُكَت نصفَ مشرعة
كانت هنالك ليمونات صفر تشعّ علينا
وفي صدورنا الخاوية
قرون أشعة الشمس الذهبية
تصبّ أغانيها.
— مونتالي
زمان، توأمي، خذْ بيدي
عبر شوارع مدينتك،
أيامي، وحمامُك يقتتل على الفتات-
*
امرأةٌ تسأل في الليل عن قصة ذات نهاية سعيدة.
لا شيءَ من ذلك لديّ. لاجئًا،
أذهب إلى البيت وأُمسي شبحًا
أفتّش البيوت التي قطنتها. يقولون
إن أبا أبي أبي أبي كان أميرًا
تزوّج فتاةً يهوديّة
مخالفًا أعراف الكنيسة وإرادةَ أبيه
وأبي أبيه. خسر كل شيء،
متطلّعٌ هوَ للخسارة: الأملاك، السفن،
أخفى هذا الخاتم (خاتم زواجه)، خاتمًا
أعطاه أبي لأخي، ثم استردّه. أُعطيَ
ثم استرُدّ، على عجل. في ألبومٍ للعائلة
نجلس كمجسّمات
لأطفال المدارس
تدميرها، كالمحاضرة، مؤجّل.
ثمّ أخذتْ أمّي ترقص، تعيد ترتيب
هذا الحلم. الحب لديها صعب؛ حبّها سهلٌ كوضعِ التوت
في فمي.
على رأس أخي لا تظهر
أي علامةٍ للشيب، يغنّي لابنه ذي الاثني عشر شهرًا.
وأبي يغنّي
لصمته ذي السنوات الستة.
هكذا نحيا على الأرض، سربًا من العصافير.
الظلام، ساحرٌ، يجد مساكن
خلف آذاننا. لا نعرف ما الحياة،
من ينشؤها، الحقيقة ثقيلة
بالأشواق. نضعها على شفاهنا
ونشرب.
*
أؤمن بالطفولة، موطنِ امتحانات الحساب
التي تعود ولا تعود، أرى
الشطّ، والشجرات، وولدًا
يركض عبر الشوارع كإله ضائع؛
يقع الضوء، يلمس كتفيه.
حيث الذاكرة، وعازف الفلوت،
يعزف في المطر وكلبه ينام، ولسانه
شبه متدلّ خارج فِيه؛
لعشرين سنة بين الحياة والموت
سعيتُ عبر الصمت: عام 1993 أتيت إلى أميركا.
*
أميركا! وضعت الكلمة على صفحة، إنّها ثقب مفتاح لي.
أشاهد الشوارع والدكاكين وسائق الدراجة الهوائية، وأزهار
الدفلى،
سيدتان تسيران بمحاذاة الساحل.
أفتح نوافذ شقّةٍ
وأقول: كان لديّ مرةً أسياد ، زمجروا خلفي،
من نحن؟ لم نحن هنا؟
الحكايات التي قصّوها استُهِلّت بهذه الكلمات:
“الخلود”، “الرحمة”.
مِشكاتهم التي حملوها ما تزال تتألّق في منامي،
أشباح حائرة علمتني بساطة العيش.
— في هذا الحلم: يتنفس أبي
كأنه يضيء مصباحًا مرةً تلو المرّة. الذاكرة
قد أشعلت محركها القديم، شرعت بالتحرك
وأحسب الأشجار تتحرك.
أبدّد هذي السطورَ، فأذوب مع كل صوت،
قالها نيرودا: وطني
أيمّمُ نحوَ أرضك دَمي. المساء يهمس
بشفتين مكتنزتين كشفاه الأطفال.
على زوايا الصفحة المتّسخة
يمشي أستاذي، يستجمع صوتًا؛
يفرك كل كلمة بين كفّيه:
“تتعلم اليدان من الثّرى والزجاج المهشّم،
ليس لكَ أن تفكّر القصيدة،” كما قال،
“ارقب النور يتشكّل في كلمات.”
*
ولدتُ في المدينة التي سمّيت تيمّنًا بأوديسيوس
ولا أزكّي أية أمّة
وإنما مدائن أشواق البشر:
إلى إيقاع الثلج
وعبارة المهاجر الخرقاء
تهطل كلامًا.
ولكنّك تسألين عن حكاية سعيدٌة نهايتها.
وِحدتك عزفتْ قيثارها. جلستُ
على الأرض، أرنو لشفتيك.
الحب، طائر بساق واحدة
اشتريته طفلًا بأربعين سنتًا، وأطلقته؛
سيعود، روحي في ريش طائش.
آهٍ يا منطقَ الطّير
بلا أيّ كلمةٍ للشكوى!
الشرفات، الريح.
وهكذا، وبينا الظلام يرسم صورتي بإصبعه الصغيرة،
تعلمت أن أرى الماضى كما مونتالي رآه ،
الأفكار المحجوبة للربّ تتنزّل
وسطَ نقرات طفلٍ على الطبل،
وعليك، وعليّ، وعلى أشجار الليمون
الرقص في أوديسا
في مدينة يتقاسم حكمَها الحمام والغربان، تركّز الحمام في الحيّ
الرئيسي، والغربان في الأسواق. ولدٌ أصمّ أحصى الطيور
في حديقة جاره، وكان العدد من خانات أربعة. اتصلَ بالرقم
واعترف بحبه لمن حدّثه على الهاتف.
إليكم سرّي: صرت أصمّ في سنّ الرابعة. حين فقدت سمعي،
بدأت أرى أصواتًا. على عربة مكتظّة، أخبرني رجل بذراعٍ واحدة
أنّ حياتي ولسببٍ غامض سترتبط بتاريخ وطني.
لكنّ وطني مجهول، سكّانه يلتقون في حلمٍ لإجراء انتخابات.
لم يصف وجوههم، إنّما بضعة أسماء : رولاند، علاء الدين، سندباد.
ترجمة: محمد زيدان
عن العربي الجديد