خاص_Buyer
ومن الطرائف التي لا زالت تروى حتى الآن أن الأطفال كانوا يشترون الألعاب في الصباح, ويرجعوها في المساء ليستردوا ثمنها, وكان العمّ الحنون علي بك يُرجع البضاعة أو يستبدلها بأخرى، وهو يضحك من براءة الأطفال
بريندار عبدو
تقع مدينة عامودا “شمال شرق سوريا – وتحديداً على بعد 25 كم شرق مدينة قامشلو” وتتبع إداريّاً لمقاطعة قامشلو في إقليم الجزيرة، يقارب عدد سكانها 60 ألف نسمة معظمهم من الكرد, وتعد المدينة نموذجاً للسلم والثقافة في المنطقة. تتبع لها 160 قرية من بينها ثلاثة تلال أثرية هي: تل موزان وتل شرمولا وتل شاغربازار الذي كتبت عنه الكاتبة اغاثا كريستي بعض التفاصيل عن إقامتها هناك في كتابها “هكذا أحيا”.
وتشتهر عامودا بأسواقها القديمة كسوق الفاتورة وسوق “العراصة” الذي يتوسط المدينة ويعتبر من أقدم الأسواق حيث يتجاوز تاريخه السبعين سنة, ويقصد بـ”العراصة” الساحة، لأن أرض السوق كانت قديما ساحة, ثمّ تحوّل فيما بعد إلى سوق، حسبما يقول الحاج عبد الفتاح عوجي وهو شخصية اجتماعية معروفة، ومن وجهاء المدينة، ولديه محلّ في السوق نفسه منذ أكثر من خمسين سنة.
ويعتبر السوق شريان الحياة في البلدة، ومصدرا رئيسيا لمستلزمات الأهالي نظرا لتنوع بضاعته ما بين الخضار والفواكه واللحوم والمواد الغذائية إضافة إلى المواد البلاستيكية ومستلزمات المنازل من الخردوات والمواد الصحية.
سوق “العراصة”.. البدايات النشوء
“منذ إن كنت طفلا كنت أشتري حاجيات المنزل الضروريّة من هذا السوق, لم يكن عدد المحلات كما هو الآن، أتذكر منظرها جيدا, كانت العربيّات التي تجرّها الخيول تأتي محملة في الصباح الباكر، لازال صوت نعالها في إذني كما لو أنه اليوم.. كانت أيام جميلة” يقول المواطن فرهاد محمد.
وعن تاريخ السوق يقول الحاج عبدالفتاح عوجي: “عندما انتقلنا من القرية للمدينة عام 1948 كانت توجد بضعة محلات في الجهة الشرقية من السوق أي أن تاريخ بناء السوق كان قبل هذا العام بسنوات، وكان يوجد في السوق اسطبل للخيول، وحظيرة للمواشي، حيث كان زوار المدينة يربطون خيولهم ومواشيهم فيها حتى الانتهاء من أعمالهم”.
ويتابع العم عوجي الحديث: “لم تكن توجد محلات كثيرة, وكان أراضي السوق كالوادي، حيث كان نهر الخنزير جارياً, وكانت أراض السوق القريبة من النهر كالوادي حيث يلعب الأطفال فيها ألعابهم الشعبية كـ”الكلل”. وقام بتجهيز السوق الملا عبد اللطيف شيخ الجامع الكبير، واقترح وقتها أن يبني الأهالي فيه المحلات، ويتوسّع السوق ليدفع الأهالي جزءً من المال لمساعدة الجامع الكبير وخدمة الدين.
السوق ووزارة الأوقاف..
ويضيف :” بعدها بدأ الأهالي ببناء المحلات التي كانت حينها من الطين، وعندما تأسست وزارة الأوقاف، ولأن الناس كانوا يدفعون مبلغاً من المال لخدمة الجامع الكبير، أصبحت أراضي السوق تابعة لوزارة الأوقاف.. كان المكوّن المسيحيّ يقطن في الجهة الجنوبية للمدينة أثناء سيطرة الفرنسيين على المدينة، ونقلوا السوق لقرب أحيائهم بالقرب من مشفى داري حاليا، إذ كان المكان حينها كالساحة. وبالنسبة للجهة الجنوبية من السوق بنيت في العام 1952، أما من جهة النهر فقد بنوا الملاجئ ووضعوا ترابها مكان السوق الذي كان كالوادي, وبالنسبة لمحلات الجهة الشمالية والغربية من السوق فقد بنيت في العام 1957. وحوالي السبعينات بنت وزارة الأوقاف محلات من الاسمنت جهة الجامع الكبير”.
ويشير العم عبدالفتاح في حديثه إلى أن أصحاب المحلات في سوق “العراصة” كانوا يدفعون مبلغا من المال سنويا لوزارة الاوقاف السورية، لأن الأرض التي بنوا فوقها هي ملك للأوقاف، بينما المحلات محلاتهم ولهم حرية التصرف فيها، وكانت الضريبة فقط 250 ل.س سنويا بعدها تم رفعها إلى 1000 ليرة، وبعد عدة سنوات إلى 3000 ليرة سورية، أما الآن فأن هذا المبلغ السنوي يُدفع لمكتب شؤون الأديان في إقليم الجزيرة للمساهمة في تطوير دور العبادة وخدمة الأديان.
ويوضح الحاج عوجي أن عدد المحلات لم يكن يبلغ نصف أعدادها الآن, حينما دخل السوق للعمل فيها عام 1966, وكان معظم الناس يعملون بتجارة الحبوب كالقمح والشعير، وأن الأهالي كانوا يجلبون بضاعتهم للسوق بعربيّات تجرها الخيول, وكان سعر كيس القمح آنذاك لا يتجاوز ربع ليرة، ثمّ تطور السوق بعدها شيئا فشيئا.
ومع تطور السوق وتوسعه ازداد عدد محلاته بحيث يتجاوز الآن السبعين محلا وهي ذو بضاعة واختصاصات مختلفة ومتنوعة، ويضم السوق حوالي خمسة أفران ومخابز لصنع الخبز والوجبات الجاهزة كـ”الصفيحة والباذنجان المسلوق” وغيرها.
من معالم السوق..
ومثلما يتميز السوق بتنوع بضاعته فأنه يتميّز بتنّوع أصحاب المحلات وأعراقهم وبيئاتهم الاجتماعيّة، حيث لا يمكن الحديث عن هذا السوق المشهور حاليا دون ذكر عائلة “دربو” التي تعتبر من العوائل القديمة التي عملت في هذا السوق، في مهنة بيع الخضار والفواكه، إذ يتميز من يعمل من تلك العائلة في السوق بكلمتهم المشهورة وهي “كريف” والتي أصبحت على لسان كل الباعة والزبائن ومرتادي السوق، وهي تُطلق كنوع من التحبب والتودد للزبائن.
” لقد أضحى هذا السوق بتنوع بضاعته وأصحاب المحلات والأهالي المتواجدين كالفسيفساء” حسبما يقول مروان نوري دربو، وهو أحد بائعي الخضار والفواكه القدامى المتواجدين في السوق.
ويتابع دربو:” دخلت للسوق وعملت فيه منذ ان كان عمري أقل من عشرة اعوام, وكان السوق يتميّز حينها بكثرة العربيّات التي تبيع الخضرة والفواكه، وتصفّ ملاصقة لبعضها، فالرزق على الله, ولم يكن أحدهم يتضايق من هذا الأمر, وبفضل الله كان الخير وافراً وخصوصا البضاعة البلدية، وكانت الأسعار رخيصة جدا بالعموم”.
بينما يرى أنه اختلفت الأمور الآن, حيث يشير دربو إلى صلات الرحم والمحبّة التي كانت سائدة حينها في ذلك الزمن الجميل كما يصفه. ويختتم مروان دربو حديثه بالقول: “لا أستطيع الابتعاد عن السوق أو عدم المجيء إليه، فكما لا تستطيع الأسماك العيش دون ماء، لا أستطيع الابتعاد عن السوق والمحل وبيع الخضار والفواكه، كلنا مرتبطون بهذا السوق الذي قضينا فيه معظم حياتنا، بصلة وتواصل خفيّ لا نشعر به علناً, إلا أننا نحس بضرورة المجيء للسوق”.
ومن إحدى معالم هذا السوق الشهير الذي لا يمكن الحديث عنه دون التطرق إلى البائع المشهور ذو المحل المعروف “علي بك”. وعلي بك شخصيّة كرديّة مشهورة, كان صاحب محل في مدخل السوق الجنوبي من جهة اليمين, طويل القامة, مفتول الشاربين بلون الحناء, وكانت لشخصيته وملبسه وعمامته وتعامله الهادئ أثراً في جذب الأطفال للتبضّع من محلّه الصغير.
ومن الطرائف التي لا زالت تروى حتى الآن أن الأطفال كانوا يشترون الألعاب في الصباح, ويرجعوها في المساء ليستردوا ثمنها, وكان العمّ الحنون علي بك يُرجع البضاعة أو يستبدلها بأخرى، وهو يضحك من براءة الأطفال.
سوق العراصة بين الماضي والحاضر
كانت السوق في السابق تفتقر إلى التنظيم والترتيب, إذ تجد البضاعة مصفوفة حتى على الرصيف, ولا ضير إن دخلت حرم الشارع أحياناً إن اضطر الأمر, فكانت البساطة عنوان السوق.
وعن أبرز الخطوات المتبعة للحفاظ على نظافة السوق وتنظيمه الآن، يقول فارس محمود الإداري في قسم الضابطة الفنية في بلدية الشعب بعامودا أنهم حددوا مساحة واحدة لجميع المحلات لعدم إشغال الرصيف كثيرا, وعليهم عدم تجاوز المساحة المحددة للحفاظ على حركة السير في السوق وعبور الأهالي، خصوصا أن السوق يعاني من الازدحام، لأنه السوق الرئيسي في المدينة، ويتوافد إليه الأهالي كل يوم لشراء حاجياتهم.
وأكد محمود أن الضابطة الفنية والضابطة البيئية والصحية وقسم حماية المستهلك في بلدية الشعب تقوم بجولات يومية على جميع الأسواق من بينهم سوق “العراصة” للحفاظ على نظافتها والتأكد من البضاعة والأسعار
ويعد تصميم السوق مميزا بعض الشيء حيث يوجد في السوق أربعة مداخل يمكن من خلالهم الدخول للسوق، أحدها من شارع الجامع الكبير والذي يمرّ من السوق باتجاه الشارع العام، وكذلك مدخل الشارع العام، ومدخل من الجهة الغربية ومدخل من الجهة الشمالية، ليصبح السوق مربعا، يتوسطه محلات عديدة.
واكب سوق “العراصة” في عامودا الحياة اليومية للأهالي والكثير من الأحداث التاريخيّة واحتفظ برائحة الأجداد وذكريات الماضي، ورغم تقادم السنين لايزال السوق معروفا لدى جميع ساكني عامودا, بل ولا تزال نقطة علّام ومن العناوين المهمّة للمدينة وريفها, ويعرفها جميع الأهالي؛ الصغير قبل الكبير.
نشرت هذه المادة في العدد /85/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/11/2018