الزواج في زمن الحرب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقاتلون خلف “المتاريس” كلَّ يوم، لا يملّون. أيديهم تنفرُ من حديد “الكلاشنكوف”، وخلاياهُ المعدنية تكون قد تغذّت على حرارة النهار بلا توقف. الحواجز التي تناسلت خلال السنوات الماضية غيّبت في جلافةِ طباعها “سوريا.. الوطن الواحد”. باتت بذاراً لمواسمِ التقسيم المقبلة علينا، وعلى الحبّ أن يداري رأسه، أن يتعرّف على استطالاته الواقعية الجديدة في زيجاتٍ تلتئمُ على عجلٍ، وأخرى تتقاعسُ في بلوغ المظهر الاجتماعي المطلوب.

 

الزيجات زمن الحرب لا تتقصد بناء أُسَرٍ جديدة، بقدرِ ما تنوي الانعتاق من تدابير الموت اليومي، ومن حياةٍ يشحُّ فيها كل ما يلزم الوجود الآدمي في أبسط شروطه. هي أشبه بفقاعة أوكسجين ينحشرُ فيها جسدان، تلزمُ لتحليقٍ آمنٍ فوق جثّة ما تبقّى.

 

 

 

الزواج على “تخت شرقي”

 

 

 

لم يختاروا مساء الخميس 14 آب الماضي عن قصد، كما أنه يومٌ لا يرتبط بأيّ معنى إيديولوجيٍّ لإتمام حفل زواج قيس وفداء. أمسيةٌ رتيبة يلحق بها يومُ جمعةٍ رتيب. لكن العائلتين المتعارفتين منذ أحد انقسامات “الحزب الشيوعي السوري” قررتا الإفلات من ترتيبات قانون نيوتن، حفلُ زفافٍ بسيط لا يحمل أيّ مجازفاتٍ مالية، الزوجان سيتقاسمان غرفةَ نوم الزوج، الزوجة صارت فرداً من العائلة، وكانت كذلك قبل الزواج.

 

في الثامنة مساءً جاء الرفاق أعضاء الفرقة الموسيقية، عازف عود وعازف كمان، وعازف إيقاع. كان تختاً شرقياً ناقصاً، لكنه مقنعٌ لأسرتين تبغضان المظاهر الماديّة للعصر. الرفاق المدعوون حضروا تباعاً، والجيران كذلك، بعضهم امتلك الجرأة ليهمس: “هل هذا عرس؟”.

 

بعد العاشرة مساءً انتقل خاتما ذهب رفيعان للغاية بين الأصابع. في الحادية عشرة، كان الجميع منتشياً بفعل الكحول الرخيص ورديء المذاق بأغاني زمن اليسار الحالم. انتهى الزفاف منتصف الليل، بدا سهرةً عائلية نفرت بحدّة من وجه المألوف، وإلا لترتّب على قيس أن يبتاع بمئتي ألف ليرة سورية ذهباً، وأن يؤثث بيتاً فيشتري ديوانية زرقاء اللون بمئة ألف ليرة، وغرفةَ نومٍ من خشب الحور بمبلغ مئة وسبعين ألف ليرة، وبرّاداً ببابين سعره 125 ألف ليرة، وفرناً بمبلغ 65 ألف ليرة، ويترك لأهل العروس شراء “غسالة الأوتوماتيك”، وكان عليه أن “يجّهز” فداء بمئة ألف ليرة، وأن يدفع ثمنَ حلوياتِ الضيافة والبوظة وتكلف نحو 100 ألف ليرة، وأن يستأجر صالةَ أفراحٍ بعشرين ألف ليرة، ثم سيهمس صاحب الصالة بأذنه حين انقطاع الكهرباء المؤكد: “نريد خمسة آلاف ليرة زيادة لتشغيل المولد الصيني..”. وكان سيبتاع بدلةً رسمية محليّة التصميم، وقبيحة اللون، بخمسة عشر ألف ليرة بدلاً من ارتداء إحدى بدلاته، وأن تستأجر فداء فستان زفاف بخمس وعشرين ألف ليرة بدلاً من استعارة فستان زفاف أختها مها.

 

لكن معارك المليحة انتهت، بعدما دخلها الجيش النظامي. ولو لم يتم ذلك لتبارى مقاتلو النصرّة، والألوية الإسلامية، والجيش النظامي على من بمقدوره أن يقلق راحة أمسية الخميس أكثر. ولكان صوت “الدوشكا” الثقيل، ورشقات “الكلاشنكوف” تحتفل بالعرس اليساري مجاناً، وعن غير قصد.

 

 

 

غيمة بيضاء معدّة للسفر

 

 

 

النسوة اللواتي جئن لوداعها صباحاً هنَّ عمّاتها وخالاتها، وبعض الجارات المقرّبات. أكثرهنّ فطنةً قاطعت سيل الدموع النسائية بما فيها دموع الأم: “الله تطلّع بوجهها..”. قبل ساعاتٍ تأكدوا مجدداً من أن طريق المطار سالك، لا اشتباكات على مدارات الغوطة المتاخمة له، حيث يتخفّى الموت بأزياءٍ من شجر الجوز البلدي والحور. لذا توجّب عليهم الإسراع قبل أن يغيّر الجميع رأيه فيلعبون لعبة الاشتباك اليومي. أقلّها عمّها بسيارته ورافقتها أمها وأختها وأخوها الصغير.

 

مساء أمس أرسلوا إلى عريسها في قطر بعض مقاطعِ الفيديو لـ”سهرة العروس”. بدا زفافاً عن بعد، لكن ميادة وحدها تعرف فضائله، إذ إنها اليوم ستخرج من بلدٍ أنهكته سلطته، وأنهكه العالم بالفرجةِ عليه.

 

في سرّها تحولت ميادة إلى غيمةٍ بيضاء، وابتسمت، فيما أمها وأختها لم تكفّا عن البكاء، وعن الذكرى. خرجوا قبل موعد الطائرة بساعاتٍ، وطريق المطار يحتاجُ أقل من نصفِ ساعةٍ لاجتيازه كاملاً. أوقفهم المقاتلون على حواجزٍ متعاقبة، وهم يتفحّصون بالتناوب وجوه الأسرة، ووجه العروس، وثوب زفافها، وهم يدخنون “مانشستر” أو “أليكانس” وعداهما من أنواعٍ رخيصة تأتي تهريباً من العراق، وينفثون غماماتٍ كثيرةٍ منها في الهواء. بعضهم يقول: “مبروك.. الله يهنيها”، وآخرون لا يقولون شيئاً. بعضهم يدقق في كل البطاقات الشخصية، وبعضهم الآخر يسمح لهم بالعبور فوراً. لكن أغلبهم ينظرون إلى غيمة ميادة البيضاء بكثيرٍ من الحسد، يشتهون أن تحملهم واحدةٌ مثلها بعيداً عن هنا، حيث ملّوا لعبة الموت اليومي، “لا يأتي فنذهب إليه”، وترفعهم فوق هذا المستنقع، فيرون كم كانوا متّسخين.

 

أيمن الشوفي/ عن سفير الشباب