هادئاً يخفق الطائر بجناحيه، كما لو في مشهد بطيء من كاميرا رديئة دونما اضاءة، كذلك تخفق الذكريات والأصوات في دماغي النظيف، صور الكائنات والضحكة المنتشية إثر قبلة قديمة / متجددة، لا الذكريات تود الهجران ولا أنا بمعزل عن التذكر، كل هذه الاشياء والصور تبدو قريبة وكأنها حصلت للتو دون غبار يمحو أثر الجدة.
احاول الا أكون دقيقاً في التذكر، إنما بحركة فجائية يثب العالم الى دماغي لينشط المكان المخصص للذكرى.
الطفلة التي تبكي والدها تعيدني الى زمن قاحل يخيل إليّ أنني عشته بكل التفاصيل، حال فتح نافذة ألمح الذكريات تمشي بطيئة أمامي وتتمايل مغرورة، لا أسير وراء الذكريات، كلا، إنما أراها تمد اذرعها الكثيرة لتعانقني من وراء سياج النافذة، حيث في الخارج الغبار الكثيف رسم على وجوه الاشجار الصور البشرية التي التقيتها مصادفة في أزمنة ما، لا شيء بامكانه ان يجبرني على التذكر إلا رأفة الذكريات تلك وحنانها الفائض.
يقيناً أقول لكم إن في ذاكرتي لوثة! اشجار تبتسم وتلوح لي بأغصانها.
لا أستطيع فتح الصنبور أو حتى تغذية المكيّف الصحراوي بجرعات مائية، كلما فتحت الصنبور تدفقت ذكريات عجيبة لحياة لم أعشها، أتمتم لوجهي في المرأة: (حتما روحي كانت لانسان عجوز مات بعد أن خانه اطفاله فطارت الروح لتستقر هادئة نادمة في ثنايا جسدي الهزيل… وإلا فمن أين تتسرب هذه الذكريات كلها دفعة واحدة؟!!).
أجل، الاشخاص اللامرئيون لا يحيدون عن السخرية، في مرورهم يتركون خيطاً أتبعه كما كلب وفيّ، أرى نفسي أمام قلاع، ذكريات محصنة لا تفيد الراحة بشيء، ليست مجرد ذكريات، بل اشخاص يلدون في اغماضة عين ويشيخون في برهة، أبصرهم الآن، أحدهم بادياً كمهرج يقول لي دون اهتمام: أنا ذاكرة الضحك المطوّل من موقف ساذج، الآخر يحمل بين ذراعيه طفلاً مبتور اليد يرمقني بنظرات حادة: أنا ذاكرة الاطفال، كيف لك أن تذبح طفلاً أيها السافل؟
أنظر (يخرج من جيب قميصه ذراعاً طازجة الحياة)… إنها ما تبقت من الاطفال المذبوحين بمديتك…
لم أذبح، لست أنا من فعل ذلك!…
بهدوء ينسحبون ليتجمهروا في رقعة واسعة أضيفت الى مساحة المنزل الصغير، ولكن، كيف لمنزلنا أن يتسع هكذا؟
لا أحد يبالي أو حتى يتكلف مشقة التفاتة اليّ، فقط تهمس جثة نتنة ممدودة على البلاط وهي ترفع رأسها، ومن بين الأسنان السوداء المنخورة منذ قرون تنطلق عبارة: (أوقفوا شبيهي هذا عن الثرثرة)، ثم يضحكون…
معذرة، هل من مكيال (خيالي) أيها الإله لنزن الذكريات؟!
جوان تتر / عن النهار اللبنانية