زاوية يكتبها طه خليل
كنت من الطلبة الكرد في جامعة دمشق ممن يواظبون على الدوام، في كلية الآداب، فطلاب كليات الآداب والحقوق كانوا على الاغلب لا يداومون بل يفضلون أن يصبحوا معلمين (وكيل معلم) في إحدى القرى النائية والحصول على راتب شهري، بدلا من الدوام في مدرجات الجامعة، حيث كان زملاؤهم المداومون يرسلون لهم صورا عن المحاضرات التي يتلقونها، وهكذا كان أغلب الطلبة المداومين هم ممن يدرسون الفروع العلمية كالطب والهندسة والصيدلة، أما الطلاب من المعلمين الوكلاء فيحضرون إلى دمشق أيام الامتحانات، ويتقاسمون معنا غرفنا الصغيرة التي كنا نستأجرها على الأغلب في حيّ ركن الدين الكردي، تحت سفح قاسيون، في حين كان طلاب السويداء يستأجرون الغرف في حي جرمانا الدرزي، وأهل حوران في القدم وسبينة وطلاب الساحل السوري في مزة جبل، أو مزة 86 او شيخ سعد ….. وبالطبع كان المدعومون والمقربون من النظام من تلك المكونات يقيمون في المدينة الجامعية التي كانت تبدو لي حصونا لعملاء المخابرات، فلم أدخل المدينة الجامعية يوما، ولا حتى زيارة.
كان الطلاب المداومون متعجرفون قليلاً تجاه الوافدين للامتحانات، أو وكلاء المعلمين الذين يهبطون عليهم فجأة ليشاركوهم غرفهم، فأيام الامتحانات كنت تجد سبعة طلاب في غرفة لا تجاوز مساحتها 4/4 مترا، والسبب أننا كنا ” نتحمل بعضنا ” وأغلبنا نتصل بقربى الدم أو الجيرة أو العشيرة أو الحزب، أو أحيانا يتشارك معنا أحدهم لأنه صديق صديقنا.
في السنة الرابعة تجمّعت لدينا تجارب مريرة مع ضيوف الامتحانات، فأغلبهم كان يقوم بدور الضيف الحقيقي، فيعتقد أن لا علاقة له بشراء الفطور، أو إعداده، فاتفقنا مجموعة من المداومين على أن يقوم كل صباح أحدنا وبالتناوب على شراء الفطور الذي كان على الأغلب، كيلو لبن، نصف كيلو فول، وكيلو خبز، وهذا ما جعلنا نهدأ قليلا، رغم أن الضيف كان يقول ويردد بمناسبة أو بدونها، أن مديرية التربية قد تأخرت في دفع الراتب الصيفي، ملمّحاً على ضيق ذات اليد، فكنّا وما ان نفتح عيوننا من النوم حتى نهمس: “يلعن أبو التربية ليش تتأخر بدفع الرواتب” كان صديقنا محمد طالب اللغة الفرنسية، أكثرنا استهزاء بالضيوف، يقول لنا كيف تعرفون الطالب الوكيل.؟ قائلا: ” ما أن ترى طالبا أيام الامتحانات يرتدي بدلة مخططة، ويمتد من جيب جاكيته الصغير العلوي مشط كفوهة مسدس، أو يسال زميلاً عن الراتب الصيفي، ويتلعثم أثناء حديثه مع الطالبات، فاعلم أنه من ” الوافدين “.
ذات يوم جاءنا وافد من هؤلاء، وفي المساء استغربنا من ترتيبه، حين فتح محفظته، أخرج منها بيجاما للنوم، وكنا ننام ببناطيلنا، وأحيانا ببدلاتنا الجامعية السموكن الزرقاء، ومنشفة، وكنا اذ نتحمم ننشف أجسادنا باي قماشة نجدها في الطريق إلى الحمام، وأخرج كذلك فرشاة أسنان وماسورة معجون، ونظرنا إلى بعض بوجوه كالمعجون، فنحن لا ننظف أسناننا قط، ونعد تنظيف الأسنان ضرباً من الارستقراطية المقيتة، ثم أخرج ماكنة حلاقة كهربائية للذقن، وكنا نحلق ذقوننا بشفرات “ناسيت” التي عليها صورة تمساح وقد قطعته الشفرة إلى قطعتين من منتصف ظهره، وكذلك أخرج بعض العطورات، كنا مستهجنين من أدوات الضيف الحنون، حمل المعلم الوكيل تلك الحاجيات وصففها على رفّ في الحمام، في اليوم التالي حين جلسنا على الفطور، وقد استيقظ الضيف متأخرا، كنا جميعا حليقي الذقون، أسناننا تلمع، وتفوح منا رائحة عطر واحد. انتظرنا الضيف ليخرج من الحمام فنتناول الفطور معا، وما إن عاد حتى كان وجهه مصفراً، واسنانه مسوسة، وألقى علينا التحية: “صباح الخير” فلم نرد، بل قهقهنا جميعا، فقد كنا تعودنا أن نرد على بعضنا ان أخطأ أحدهم بتحية الصباح: ” صباح الخر….. !؟” ولم نقلها للمسكين، حين لاحظنا أنه قد وضع حاجياته في كيس، وراح يرتب بيجامته ومنشفته، ويضعها في المحفظة، ويغادرنا إلى طلاب آخرين.
بعد مدة سمعنا أن الطالب ذاك قد ترك الجامعة، وترك التدريس بالوكالة، وراح يبحث عن مهرب ليوصله إلى أوروبا بعيدا عنا، في حين بقينا نقهقه على الطلاب النظيفين، ونسخر منهم بحجة أنهم أولاد اقطاعيين، وبرجوازيين، وكنا نعتقد أننا أحفاد تروتسكي سنقلب الدنيا رأسا على عقب ونحن نتقلب في أسرّتنا المتسخة في حيّ ركن الدين.
تلك كانت وحشة السنوات، ووحشة القهر والعزلة والأحلام التي تكسرت كبلور على رصيف الشعارات وتحت ثقل المؤلفات الكاملة لمعلمنا لينين العظيم… الوحشة التي رافقت الشاعر وهو ينصت إلى دمه كيف يخضّب كحل الرسولة.
نشر هذا المقال في العدد /84/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 1/10/2018