حوار مع نيقولاوس فان دام: لماذا لم يحصل حظر جوي في سوريا؟

Buyerpress

نيقولاوس فان دام (1945) دبلوماسي هولندي. درس اللغة العربية والعلوم السياسية في جامعة أمستردام وهو مؤلف الدراسة الكلاسيكية بعنوان: الصراع على السلطة في سوريا: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة، والمختص في الشأن السوري وشؤون الشرق الأوسط، وقد شغل مؤخراً منصب المبعوث الخاص الهولندي لسوريا، وكان قبل ذلك سفير هولندا إلى عدة بلدان من بينها: إندونيسيا وألمانيا وتركيا ومصر والعراق. كما تولى منصب القائم بالأعمال المؤقت في ليبيا وعمل دبلوماسياً في لبنان والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة. صدر له مؤخراً كتاب بعنوان: Destroying a Nation: The Civil War in Syria الذي صدرت ترجمته العربية بعنوان: تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا (2018).

في يوم من الأيام وعندما كنتَ شاباً صغيراً، قررتَ أن تدرس اللغة العربية. ما الذي دفعك نحو هذه اللغة والثقافة؟

لقائي الأول مع اللغة العربية كان في منزلي. حيث كان والدي يدرس اللغة العربية إلى جانب دراسته لعلوم الدين. ولقد كان لدينا قاموس عبري – آرامي، في صفحاته الأولى توجد لوائح بأبجديات لغات مختلفة: العربية، السريانية، الآرامية، العبرية، الإثيوبية وإلى آخره. كانت الحروف العربية هي الأجمل برأيي. هذا يعني أني أحببت اللغة العربية من خلال الخط. وهكذا باشرت بتعلم هذه اللغة وأنا تلميذ في المدرسة الثانوية. لم أكن أتكلمها جيداً، ولكني كنت أتدرّب عن طريق أسطوانة باللهجة المصرية.

زرتَ سوريا كثيراً أثناء دراستك وبعدها، وفي فترة من الفترات كنت تزورها مرة كل سنة، وأقمت فيها لمدة عام في 1970. تخصصتَ بالوضع السياسي السوري، وكتبت في عام 1977 أطروحة دكتوراه ممتازة عن دور الطائفية والإقليمية والعشائرية في الصراع على السلطة في سوريا. ما الذي أثار فضولك في سوريا، وكيف كان لقاؤك الأول معها، أو بمعنى آخر: ما الذي «رمَاكُمَا» على بعض، أنتَ وسوريا؟

ذهبتُ إلى سوريا قبل دراستي الجامعية. ركبتُ الباص من إسطنبول إلى الإسكندرونة وعبر أنطاكية وصلتُ إلى حلب. وفي الإسكندرونة سمعتُ العربية لأول مرة، ولكني لم أفهم شيئاً، لأنها تختلف تماماً عن القليل الذي تعلمته. الجملة الوحيدة التي كان بإمكاني نطقها جيداً هي: «مش معايا فلوس كفاية». كانت هذه الجملة تضحك الحلبيين من كلّ قلبهم.

وقد اضطررتُ يومها للنوم على مقعد خشبي عند الحدود السورية، وهناك سقطت محفظتي على الأرض من دون أن أدري. وفي اليوم التالي جاءني شاب سوري لطيف وقال: هذه محفظتك. لقائي الأول مع سوريا كان إيجابياً للغاية.

وفي أسواق حلب التقيتُ بطالب دعاني لزيارة قريته. قبلت دعوته اللطيفة بكل سرور، وذهبت معه إلى كفر كرمين. وهناك قضيتُ بضعة أيام بين أهله في بيت تقليدي من الطوب اللبني الشبيه بقفير النحل، ونمتُ ليلاً تحت السماء الواسعة المليئة بالنجوم. الناس كانوا في غاية الطيبة والكرم. لقد كانت تجربة تعارف رائعة، لم يسبق أن عومِلت بكلّ هذا الكرم.

أما اهتمامي بالوضع السياسي في سوريا، فقد تطور تدريجاً مع الوقت. إذ أن سوريا بلد من الصعب سبر أسراره، أو هكذا كنت أعتقد في تلك الأيام. وبما أني كنت أدرس العلوم السياسية إلى جانب اللغة العربية، قررت أن أكتب أطروحة ماجستير عن إيديولوجية حزب البعث وتاريخه. كان بإمكاني كتابة هذه الأطروحة في أمستردام أو في سوريا. إنها فرصة رائعة برأيي: الإقامة في بلد يثير اهتمامي والعمل في الوقت نفسه. هذا كان منذ ثمانية وأربعين عاماً، بيد أن بحثي لم يفقد أهميته حتى الآن، فحزب البعث الحاكم ما زال موجوداً.

وبعد بضعة سنوات أردتُ كتابة أطروحة الدكتوراه عن الموضوع نفسه، ولكني اكتشفت بأن شخصاً آخر سبقني. لذا قررت أن أركز على دور الأقليات في سوريا. كان هذا في عام 1972، حين كان كثيرون يعتقدون بأنه لم يعد ثمة دور للأقليات، بل للطبقات وصراع الطبقات فقط. غير أني ارتأيتُ بأن الولاءات البدائية ترجح على الانتماءات الاقتصادية في الحالات الحرجة. فضلاً عن صعوبة سبر الولاءات البدائية مقارنة مع الانتماءات الاقتصادية (كم هو راتبك وإلى آخره). بالطبع هناك تقاطعات بين المصالح الطائفية والاقتصادية في بعض الحالات.

الشيء الذي لفت انتباهي هو أنَّ لا أحد كان يريد أن يتكلم عن هذا الموضوع، كما لو أنه من التابوهات. بيد أن التابوه يحرّض على الرغبة في معرفة المزيد. فحين أسألُ أحدهم من أين أنت، كان يجيبني: «نحن جميعنا عرب». لم يكن من السهل تعرية هذا الموضوع.

تنبأتَ في كتابك الأول الصراع على السلطة في سوريا بأنه من غير الممكن أن تنقشع سيطرة النظام تدريجاً وسلمياً من دون اللجوء إلى العنف. هل أفهم أنك كنت دائماً ترى الحرب حتمية، وأن النار تنتظر فقط ما يلهبها، ولا مناص منها في حال أردنا التخلص من الديكتاتورية. ألم يكن تجنب الحرب ممكناً، أو على الأقل بعض فصولها المؤلمة؟ أليس ما حصل هو الأسوأ من بين عدة سيناريوهات؟

أعتقدُ أن وقوع العنف كان حتمياً. مهما حصل، كان لا بدّ من أن يحاول النظام التمسك بالسلطة. وهكذا كان يفعل دائماً: يتخذ إجراءات ليزيح كلّ معارض عن طريقه، في بداية الأمر داخل الحزب نفسه، ومن ثم خارجه. حتى ولو تظاهر الناس سلمياً، كان من المتوقع أن يكون ردّ النظام عنيفاً.

وقد تنبأتُ بسيناريو الحرب الدامية في النسخة الثالثة المنقحة من كتابي الأول، أي خمسة عشر عاماً قبل اندلاع الثورة في سوريا. والحقيقة لم يكن من الصعب التنبؤ بذلك: إذا أردنا إسقاط هذا النظام، ستكون المجزرة هي النتيجة الحتمية. هذا لا يعني بأن العنف الشديد مشروع أخلاقياً بأي شكل من الأشكال، ولكنه الواقع. عندما يشكّ النظام بولاء الناس، كان يسمح لنفسه باعتقالهم وإعدامهم. فماذا تتوقع حين يخرج الملايين إلى الشارع؟ برأيي هذه المظاهرات أخطر من هجوم عسكري. لو سمح النظام بهذه المظاهرات، لتمّ دعسه تحت الأقدام. ربما كانت هناك سيناريوهات أخرى ممكنة، ولكن تبديل النظام السلمي ليس واحداً منها.

لو قام بشار الأسد ببعض الإصلاحات، لربما كان ممكناً أن تجري الأمور بسلمية أكبر. غير أن سياق الربيع العربي لا يسمح بإصلاحات بطيئة، إذ لن تقنع المعارضة بذلك. عندنا مثل هولندي يقول: «أعطيته أصبعي، فأخذ اليد كلها». على سبيل المثال، بعد أن حصل الأكراد البِدون على الجنسية السورية التي كانوا يستحقونها من زمان، راحوا يطالبون مباشرة بالمزيد. عندما يشعر أحد الطرفين بضعف خصمه، يحاول غالباً فرض إرادته. برأيي كانت مطالب المعارضة عالية جداً من الناحية التكتيكية.

ولكن هل الإصلاحات مع هذ النظام ممكنة من حيث المبدأ؟

لا أتكلم عن الإصلاحات بمعنى تقاسم السلطة، هذا ما لن يسمح النظام به. كلّ محاولة لتقاسم السلطة هي خطوة نحو بداية سقوطه. ولكن كان بالإمكان تنفيذ إصلاحات اقتصادية أو مكافحة الفساد. ولكن للأسف هذا ما لم ينجح به النظام طيلة عقود، فهو يعتمد على أشخاص يشكلون جزءاً من منظومة الفساد. الأمر أشبه بقطع الغصن الذي يجلس النظام عليه.

لم يسمح النظام بسقوطه، بيد أن المتظاهرين كانوا يشعرون بالنشوة أثناء هتافهم: «الشعب يريد إسقاط النظام» وبعد ذلك: «الشعب يريد إعدام الرئيس». وبعد سقوط القذافي باتوا يتوقعون تلقي المساعدة من الخارج، ولكن هذه المساعدة لم تأتِ، أو بالأحرى لم تكن كافية لإسقاط النظام. ربما يكون وقع كلماتي قاسياً، ولكن سبق لي أن قلت في آذار 2012: «أفضّلُ ألّا يسقط أيّ قتيل، ولكني عندما أضطر للاختيار، فأنا أفضّل 10.000 قتيل مع بقاء هذا النظام، عن المواصلة وسقوط 300.000 قتيل أو أكثر»، هذا فضلاً عن ملايين اللاجئين وبلد محطم بأكمله.

كان بالإمكان ممارسة كمية أقل من العنف، فالنظام ليس مضطراً إلى تفجير أحياء سكنية. العنف الذي يمارسه يتجاوز دائماً حدّ المعقول. كنت في الماضي أتساءل دائماً ما فائدة تعذيب المعتقلين بهذه الطريقة الشرسة ولتلك الفترات الطويلة، فالناس الذين يمشون بمحاذاة السجن في الخارج لا يعرفون شيئاً. ليس لهذا التعذيب تأثيرُ الموعظة. عندما يُشنق شخص في ساحة ما، فمن الممكن أن يتعظ الناس به، كما فعلت الدولة الإسلامية التي حاولت إخافة الناس. ولكن عندما تقوم بالتعذيب بين جدران مغلقة، فلن يعرف الناس، حتى ولو حاولوا التخيل.

كثيرٌ من المراقبين انشغلوا بأفكار ومثاليات الثوار، ولم يلتفتوا إلى النظام. كانوا يعتقدون بأن الأمور ستجري من تلقاء نفسها. ولكن عندما تعرف النظام جيداً، ستعرف أيضاً بأن الأمور لن تكون على ما يرام، وبأنها تسير باتجاه حمام الدماء. لن يهتم النظام بنداءات العالم بالتنحي. لو حاول المراقبون فهم النظام، لكانوا أقل ميلاً إلى التفكير الرغبوي.

ولكن السوريين أفضل من يعرف النظام، ومع ذلك قالوا إذا بقي النظام في السلطة سيستمر بممارسة فظاعاته بحق البشر.

أفهم أن يقول السوريون ذلك، ولكنهم كانوا يتوقعون المساعدة من الخارج التي لم تأتِ. أما المساعدة التي حصلوا عليها، فلم تكن كافية لإسقاط النظام.

عنوان كتابك الثاني تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا. لا بدّ أن العنوان يثير استغراب كثيرٍ من السوريين، إذ أنهم لا يرون هذه الحرب مجرد اقتتال أهلي، بل هي ثورة تطورت عنوة إلى حربٍ بالوكالة. بالرغم من أنك تدرك ذلك تماماً، اخترت أن تسميها حرباً أهلية بهذا الوضوح. فما الذي دعاك إلى ذلك؟ وأين ذهبت الثورة؟

لم يُنتَقَد كتابي كثيراً، ولكن النقد الذي تلقيته كان غالباً يدور حول العنوان. ولقد كان المنتقدون أناساً لم يقرؤوا سوى العنوان على الغلاف وليس الكتاب. ولكني حاولت في كتابي شرح بأنه بعد المرحلة الأولى لم يعد بالإمكان إطلاق تسمية «الحرب الأهلية»، إذ أنها تطورت بفضل التدخل العسكري الأجنبي (روسيا، إيران، حزب الله وغيرهم) إلى حربٍ بالوكالة.

أودّ أن أنوه هنا إلى أن معظم الكتاب الغربيين (وقناة الـبي بي سي أيضاً) يطلقون تسمية «الحرب الأهلية» على المجريات في سوريا. أدركُ طبعاً أن هذا ليس سبباً مقنعاً لاعتبار التسمية صالحة كعنوان لكتابي، ولكني لم أكن في وقتها أعي النقد الذي كان ينتظرني. لذا بحثتُ للطبعة العربية عن دراسة تعرّف «الحرب الأهلية»، ووجدتُ باحثاً درس أكثر من مائة حرب وتوصّل إلى عدة مقاييس تشترك بها الحروب الأهلية. هذه المقاييس تنطبق على الحرب السورية أيضاً.

بعض المنتقدين كانوا يجدون في الكلمة بعداً إيديولوجياً. يقولون إنها ليست حرباً أهلية، لأن النظام هو الذي يقمع الناس، أو يقولون بأن ثمة الكثير من غير السوريين يخوضون هذه الحرب. ولكن أليس معظم العسكريين المقاتلين سوريين؟ المسألة مسألة تعريف لا أكثر، ولكني لم أدرك مدى حساسية الكلمة عند كثيرٍ من الناس إلا بعد تلقي النقد. تكلمتُ في كتابي مراراً عن «الثورة السورية» وكنتُ أستخدم الحروف الكبيرة، ولكن كم مرة وردت كلمة «الحرب الأهلية» في الكتاب؟ عدة مرات لا أكثر، مع تأكيدي المباشر بأن هذه الكلمة لم تعد تغطي المعنى.

المشكلة هي أن الغرب أطلق تسمية الحرب الأهلية في مرحلة مبكرة جداً، حتى قبل أن يكون هناك حربٌ أصلاً.

هكذا سينقلب الأمر إلى جدال أكاديمي حول متى استخدم الثوار السلاح لأول مرة. لقد كان النظام عنيفاً، وهذا جعل الرد بالعنف المضاد أمراً محتوماً. والجماعات التي كانت ملاحقة أكثر من غيرها، هي التي استخدمت العنف أولاً. ولكن ما رأيكِ أنتِ بالعنوان؟

أعتقد بأن كلمة «الحرب الأهلية» تؤثر على فهم الناس للمجريات في سوريا. هناك احتمال كبير بأن يظن الهولندي الذي لا يعرف شيئاً عن الصراع، بأن المشاكل داخلية فقط. وهكذا سيميل أكثر إلى القول: «لا دخل لي بالموضوع، دعهم يقطعون شوكهم بأيديهم»، بينما السوريون فقدوا السيطرة على حربهم من زمان.

لست متأكداً من ذلك. أعتقد أن الهولنديين لا يعون مدى حساسية كلمة «الحرب الأهلية» عند المعارضة السورية. قد يكون «الحرب الدموية» عنواناً حيادياً أكثر للكتاب بدلاً من «الحرب الأهلية».

بعض السوريين راهنوا عبثاً على تدخل دولي لإنقاذهم والبلد من مصير دموي. ومهما اختلفت مواقفنا حيال هكذا تدخل، إلا أنه يمكننا الحكم بأن الخيار الآخر، أي الحذر الشديد والتردد والتفرج، كان فاشلاً أيضاً، فالحرب ما زالت مستمرة بعد سبع سنوات وها هي تضخ العنف إلى العالم. لم يُجدِ الحرص الغربي، بل أدى إلى المزيد من التصعيد الإقليمي والدولي. السؤال الذي لا يغيب عن الذهن هو: لماذا لم يحصل حظر جوي في سوريا، بحيث يتم نزع أعتى سلاح من يد الأسد، أي البراميل المتفجرة؟ لماذا برأيك؟ ألم يكن هذا سيحدّ من الآلام والدمار، ويفتح بعض المجال للقوى الديموقراطية والسلمية، ويخفف من انسداد الأمل أمام السوريين؟

برأيي كلّ تدخل أجنبي أو خارجي يؤدي إلى كارثة. سأعطيكِ بعض الأمثلة: أفغانستان، العراق، إيران، الكويت، ليبيا، اليمن وسوريا اليوم. كلّ هذه التدخلات الأجنبية والعربية أدت إلى المزيد من الخراب، ولم تحلّ المشكلة. من دون احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، ما كان لدينا اليوم الدولة الإسلامية، وفي ظلّ صدام حسين لن تجد القاعدة أي فرصة.

الكثير من السياسيين الغربيين نادوا مراراً وتكراراً بأشياء كان عليهم أن يعرفوا أنها لن تحصل: حظر جوي، ملاذات آمنة وممرات إنسانية وأشياء أخرى من هذا القبيل. سألتهم في تركيا لماذا لا ينفذون هذه الأشياء لوحدهم، فقالوا: «نحتاج أن تشاركنا خمس دول على الأقل». كانت الدول حذرة من أن تواجه النظام السوري مباشرة.

لماذا؟

ينبغي توجيه السؤال إلى تلك الدول. لم تكن هناك دولة واحدة مستعدة بأن تواجه النظام بشكل مباشر. بالنسبة للهجوم على ليبيا كان لديهم إذنٌ من مجلس الأمن، ولكن الروس تندموا بعد ذلك، لأن نتيجة التدخل الأجنبي كان تبديل النظام عوضاً عن حماية المدنيين فقط. النظام السوري سيهاجم كل بلد يحلق فوق سوريا من غير إذن دمشق.

لا أعتقد أن النظام قادر على ذلك في جميع الحالات، كيف سيتمكن النظام السوري من مهاجمة هولندا مثلاً؟

ولكن هولندا لم ترغب بالمشاركة في الصراع مع النظام السوري أصلاً. هولندا شاركت فقط في الهجوم على الدولة الإسلامية. لم تكن معظم البلدان مستعدة بالتضحية بجنودها في سبيل الصراع السوري. الأمر بهذه البساطة. معظم الدول ليس لديها مصالح كبيرة في سوريا. روسيا والولايات المتحدة يملكان مصالح استراتيجية، ولكن مصالح الولايات المتحدة ليست كبيرة إلى درجة تجعلها ترغب باحتلال البلد. هي تتدخل فقط لصالح التوازنات ضد إيران وفي الصراع مع الدولة الإسلامية.

سؤالي كان مختلفاً: لا أقصد أن على البلدان أن تساعد بإسقاط النظام، ولكن أن تحمي السماء السورية، بحيث لا يتمكن النظام من الهجوم على شعبه بالطيران. حظر جوي بهدف حماية المدنيين.

ليس هناك بلدٌ واحدٌ كان مستعداً لفعل ذلك، ربما هذا ضربٌ من النفاق. ولكن إن أردنا ألا يحلق النظام فوق سوريا، يجب إسقاط الطائرات السورية. وإن أردنا ألا تحلق الطائرات الروسية، يجب إسقاطها أيضاً، وهذا يعني مجابهة مباشرة. لم تكن الدول تعتبر هذا الخيار مقبولاً.

لم يحلّق الروس فوق سوريا إلا في فترة متأخرة. لماذا لم يحصل حظر جوي منذ البداية؟

لم يتدخل الروس عسكرياً إلا بعد المساعدة الكبيرة التي تلقتها المعارضة من بعض الدول (مثل الولايات المتحدة، تركيا، قطر، السعودية). لو لم تصبح المعارضة قوية، لما بدأ النظام بالترنح. لطالما قالت المعارضة: «لو لم يتدخل الروس، لسقط النظام من زمان». ولكن لو لم تتلق المعارضة الدعم من قبل السعودية وغيرها، لما كان هناك أمل بالانتصار على النظام أصلاً.

عندما تقول الدول: «نحن سنحمل على عاتقنا مسؤولية حماية المدنيين»، سيتوجب عليها البقاء في البلد ريثما تتحسن الأوضاع. العناية اللاحقة تشكل جزءاً من مبدأ «مسؤولية الحماية» في الأمم المتحدة. ولكن بعد أن تخرج من البلد بعد انقضاء عشر سنوات، ثمة إمكانية واقعية بأن يبدأ كل شيء من جديد، حيث أن أطرافاً مختلفة ستتصارع على السلطة. مشكلة الغرب هي أنه نادى باتخاذ خطوات هو الأعلم أنه لن ينفذها. الأمر كان استعراضاً في آخر المطاف.

ولكن السوريين صاروا يعرفون ذلك.

بعد وقوع الفأس بالرأس بات واضحاً بأن الغرب ليس مستعداً بشكل كاف أن يدعم أقواله بالأفعال، كما حصل في ليبيا مثلاً، ولكن في بادئ الأمر ظنّت المعارضة بأن الغرب قادم للنجدة. غير أن الدعم كان معنوياً على وجه الخصوص. ما نفع ذلك عندما يقوم النظام بتفجير كل مناطق المعارضة، وعندما لا يريد الغرب، أو لا يكون قادراً على فرض مبادئه بالقوة العسكرية؟ التكاليف باهظة، ولم يكن أحد مستعداً لدفعها، على الأقل ليس على حساب بلده.

عندما ترغب بتحقيق أهداف معينة، يجب أن تكون مستعداً لاستخدام وسائل معينة. ولكن عندما لا تريد استخدام هذه الوسائل، ينبغي عليك تغيير أهدافك. ولكن الأمور سارت بخلاف ذلك للأسف: نقول إننا نريد أن نصل إلى القمة، حتى ولو لم نملك الوسائل، أو لا نريد استخدامها، ومع ذلك نواصل زعمنا أننا نريد الوصول إلى القمة. يحصل هذا أيضاً في صراعات أخرى. في هذه الحالة علينا أن نكون أكثر تواضعاً، ولكن هذا يجعل منظرنا هزيلاً أمام أنصارنا السياسيين.

تميّزتَ من بين المحللين السياسيين بإدراكك الجيد للواقع السوري وتمسكك في الوقت نفسه بالحلّ الدبلوماسي، أي بجدوى التفاهم مع الأسد. حتى أنك تلوم المعارضة على عدم التفاوض الحقيقي مع الأسد، والبلدان الأوروبية على عدم محاورته. أتساءل كيف يمكن لشخصٍ يعتمد الواقعية السياسية أن يؤمن بالمعجزات؟ إذ هل الكلام مع بشار الأسد ممكن حقاً؟ هل سيصغي إلى أحد؟ ومتى عرض النظام استعداداً جدياً أو ربع جدي للتفاوض. والأهم: ألم يفقد النظام شرعيته بعد؟ وإن كان الجواب نفياً، متى سيفقد شرعيته إذن؟

كثير من المراقبين والسوريين يقولون إنهم يريدون حلاً سياسياً، ولكنهم يعرفون في الوقت نفسه بأن الحلّ هو تنحي النظام. هم يطالبون بتبديل نظام (regime change). هذا ليس واقعياً في حال أردت التفاوض مع النظام الأقوى منك وصاحب السلطة. عندما تفكر بالتفاوض مع طرف ليس شرعياً، عليك ألّا تفاوض. إلا إذا كنت تتوقع بأن الطرف الآخر سيقبل التنحي فعلاً، وهذا في الحالة السورية ليس واقعياً. برأيي النظام لا يريد أن يتقاسم السلطة، في أحسن الحالات سيقبل بتحسينات تجميلية، فيؤسس حكومة وحدة وطنية، ليشارك بعض الناس من غير أن يملكوا السلطة.

المعارضة تريد حكومة جديدة يرأسها أشخاص أياديهم ليست ملطخة بالدماء. هذا المطلب شرعيٌ بحدّ ذاته، ولكن الناس الملطخة أياديهم بالدماء هم أصحاب السلطة ولن يتنازلوا عنها طوعاً. المعارضة تطالب مسبقاً بأشياء تضمن رفض النظام للتفاوض. لا أقول بأن النظام يريد أن يتفاوض، ولكن عندما تقول المعارضة «نحن لن نتفاوض قبل أن نتأكد من اختفاء الطرف الآخر من على خشبة المسرح وأن يحاسب الأشخاص الملطخة أياديهم بالدماء»، سنعرف مباشرة بأنه لن يحصل شيء. لقد أضاعت المعارضة فرصاً بسبب وضع شروط كهذه.

إذا أردتَ التفاوض، عليك أن تعتمد المبادئ المتفق عليها في اتفاقية جنيف 2012. هذه الاتفاقية لا تقول شيئاً عن الرئيس، وإنما فقط عن هيئة حكم انتقالية. إن تفاوضت على هذا الأساس، سيكون النظام مستعداً للتفاوض.

تُركِّزُ كثيراً على هذه النقطة، ولكن برأيك في حال دخلت المعارضة المفاوضات من غير شروط مسبقة، هل ستجري مفاوضات حقيقية؟

لا أعرف، ولكن يجب المحاولة. هذا ما كنتُ أقوله منذ البداية: إذا كنتَ لا تريد الحوار، فلن تصل إلى حلّ. عندما يرفض الجميع أن يتكلم مع النظام، لا يمكنك التكلم عن الحلول السياسية.

في الحقيقة لا أدري كيف يتكلم واحدنا مع النظام.

ولكن المعارضة تقول إنها تريد التفاوض.

هل كان على المعارضة أن تقول «نحن لا نريد التفاوض»؟

ينبغي على المعارضة أن تقول «نريد التفاوض على أساس اتفاقية جنيف 2012». المشكلة هي أن كلّاً من الطرفين يريد التفاوض في حال نفّذ الطرف الآخر جميع مطالبه، ولكن الأمور لا تسير على هذا المنوال، لأن التفاوض يجب أن يفضي إلى حل وسط. البديل هو انتصار عسكري يجعل التفاوض غير لازم. وهذا هو ما يحصل الآن.

دعنا ننتقل إلى الشق الثاني من السؤال. أنت تقترح الحوار مع النظام، ولكن ألم يفقد شرعيته من زمان؟

النظام الذي يملك زمام السلطة هو شرعي من حيث المبدأ. وعلى هذا الأساس كان النظام السوري معترفاً به لعقود من الزمن. الشرعية لا يحددها ما يقوله ترامب أو أوباما أو غيرهما. من الممكن في أسوأ الحالات أن يُرفَض الاعتراف بالنظام. ولكن بما أن ممثلي النظام السوري يشاركون في المحادثات حول سوريا في مجلس الأمن، فهذا يعني برأيي بأن الأعضاء يعترفون به.

ولكن الشعب السوري يريد إسقاط النظام.

يمكنكِ استنتاج ذلك من خلال مظاهرات ملايين السوريين ضد النظام. ولكن هناك ملايين السوريين الذين لم يتظاهروا ولم ينادوا بإسقاط النظام. من هم الأكثرية؟ وهل فقد النظام شرعيته؟ لا أعتقد، على الأقل لأن المظاهرات كانت محظورة رسمياً. بيد أن الثورة لا تتبع طريق الشرعية، الثورة تصبح شرعية عندما تنتصر.

عندما بدأت الثورة في 2011، كان النظام على رأس السلطة لفترة خمسين عاماً تقريباً. وخلال تلك الفترة كان الحكم ديكتاتورياً وحصلت مجازر، من بينها حماة 1982. هل كان النظام شرعياً؟ أعرف أن الأمريكان قالوا بعد 2011 بأن «الأسد فقد شرعيته»، ولقد وافقهم كثير من الرؤساء العرب والغربيين على ذلك. ولكن هذا لا يعني بأن هذه الدول لن تنسى عدم اعترافها بشرعية الأسد بعد فترة من الزمن. وربما يبقى الأسد رئيساً لفترة أطول من ترامب الذي يشكّ البعض بشرعيته هو الآخر.

متى يفقد رئيسٌ شرعيته؟

بعد الانتخابات، عندما يسلّم الرئيس منصبه لرئيس آخر.

ولكن إجراء انتخابات صادقة أمر غير ممكن. أنت تضع شروطاً غير موجودة في سوريا.

ومن غير الممكن أيضاً أن يقال «لقد فقد شرعيته» لأن هناك كثيرين في الخارج ضد النظام. لا أعتقد بأن الرئيس الأمريكي يستطيع البتّ في ذلك.

عدد الضحايا وأفعال النظام هي التي تحدد شرعيته.

لم يكن عدد الضحايا في صيف 2011 قد وصل إلى هذا الحد. للأسف صار الأمر يدعو إلى التهكم: كلما استمر الصراع أكثر وازداد عدد الضحايا، يميل عدد أكبر من الدول إلى التكلم مع النظام. الدول التي كانت ترى النظام غير شرعي مع 10.000 قتيل، صارت بعد نصف مليون ميالة للتكلم مع الأسد على المدى البعيد.

ولكن في هولندا وعندما يكشف الناس عن كذبة حكاها وزير، يتعين على هذا الوزير أن يستقيل مباشرة. والرئيس السوري ما زال شرعياً؟

هولندا بلد ديموقراطي، وسوريا بلد ديكتاتوري. و«الشرعية» مصطلح نسبي. ففي عام 2004 تمّ انتخاب الأسد كرئيس بنسبة تسعين بالمائة، هل يعني هذا بأنه حصل على شرعيته من جميع السوريين؟ أشك بذلك، وهذا لأن الانتخابات في البلدان الديكتاتورية ليس لها أي قيمة، لأنها ليست انتخابات حرة. ولكن وفق القانون السوري يعتبر الأسد هو الرئيس الشرعي للبلاد. يُحكى عن الأسد الأب طرفة أنه تم انتخابه بنسبة تسع وتسعين بالمائة، ولكنه عندما سمع نتيجة التصويت استشاط غضباً وقال: «هاتوا لي أسماء كل الذين صوتوا ضد».

تقول المعارضة إن النظام الحالي «ليس شرعياً»، وإنهم يريدون أن يتفاوضوا معه على شرط أن يتنحى الأسد وأصحاب الأيادي الملطخة بالدماء. أفهم هذا الموقف، ولكنه يضمن مسبقاً فشل المفاوضات. ولذا أقول إنه موقف غير واقعي.

هل هذا يعني أن المفاوضات غير ممكنة أساساً؟

الأمر يتعلق بنقطة الانطلاق. إذا اعتمدنا اتفاقية جنيف 2012، ستكون المفاوضات ممكنة، والنتيجة حل وسط.

ولكن النظام يفعل الشيء نفسه. هو أيضاً يضع شرط أن يبقى.

طبعاً.

التفاوض يعني برأيك أن يبقى النظام؟

دعينا نقلب الآية. افترضي بأن المعارضة في طريقها إلى الانتصار، عندها لن تكون ميالة إلى تقاسم السلطة. أما عندما تكون المعارضة في طريقها إلى الهزيمة، فهم يقبلون التفاوض، ولكن بعد وضع الشروط غير الواقعية التي ذكرتها آنفاً.

أنت تقول إذن بأن توازن القوى يحدد الشرعية.

نعم، هكذا تجري الأمور غالباً. ولكني أريد أن أضيف شيئاً. أي ديكتاتورية هي شرعية؟ هل نظام الثورة في إيران شرعي؟ هل النظام العراقي شرعي؟ حصلت في مصر عدة انتفاضات، هل حكم الرئيس السيسي شرعي؟ أم أن حكم نظام الإخوان المسلمين هو الشرعي؟ من هم الشرعيون من بين الحكام المتخاصمين في ليبيا؟ وهل الحكومة الجزائرية الحالية شرعية بعد أن تم إلغاء نتائج انتخابات الجبهة الإسلامية للإنقاذ في تسعينات القرن العشرين؟ تتعلق الشرعية غالباً بمن يمسك زمام السلطة، وبمن يعترف بها.

من غير المعقول أن نجري حواراً مع نيقولاوس فان دام من غير أن نتطرق إلى الطائفية ونسميها باسمها. إذ ربما أنت من القلائل الذين تكلموا بصراحة عن الطائفية في زمن ساد سوريا ما يشبه الحظر على التحدث والكتابة العلنية عنها. في كتابك الأول الذي تمّ تداوله بلهفة بين السوريين في ذلك الحين، حمّلتَ جميع الأطراف وِزر التطييف. برأيك السنيون المتطرفون يحملون جزءاً من مسؤولية صعود الطائفية في سوريا، مثلهم مثل نظرائهم العلويين تقريباً. مفهوم طبعاً ما هو الدور الطائفي الذي لعبه النظام، إذ أن أجهزته الارتكازية مطيفة بشكل كبير، وهو يعمل على تفريق محكوميه وإثارة مخاوفهم من بعضهم، بما يوحي بأن الطائفية عنصر بنيوي في تكوينه. ومن هذا المنظور قد يكون الدور السني أقل وضوحاً لبعض الثوار والمعارضة. ماذا قصدت بالضبط بكلامك؟ وهل ينطبق الكلام ذاته في المرحلة الحالية أم أنه اختلف بعد ممارسة النظام هذا الكم الهائل من العنف، وتوسيعه لنطاق الاقتتال ليشمل كل السوريين، حتى أولئك الذين لم يختاروا المقاومة؟

إيديولوجيا حزب البعث هي ضد الطائفية، لأنها ترفض التمييز على أساس الدين. ولكن هذا لا ينفي أن تمثيل الأقليات في نخبة الحزب والجيش مرتفع جداً. لعبت الصدفة التاريخية دورها، حين كان معظم القادة البعثيين الانقلابيين في عام 1963 من الأقليات. فضلاً عن عدة عوامل اجتماعية واقتصادية، حيث أن معظم الانقلابيين ينتمون إلى الريف الفقير ذي الكثافة العالية للأقليات. أدّى هذا إلى حصول أعضاء الأقليات على المناصب البارزة أثناء الصراع على السلطة، ومن بينهم العلويين، أو بالأحرى علويين من دون «الـ» التعريف. كما أصبحت المناصب المهمة في الجيش في يد بعثيين علويين، هم من الناحية الإيديولوجية ضد الطائفية، ولكنهم يعتمدون على بعض أكثر من اعتمادهم على غيرهم. الناس تثق عادة بالأشخاص المقربة إليها. هناك عدة تفسيرات قدمتُها بشكل موسع في كتابي الأول.

تركز الصراع في بادئ الأمر داخل الحزب، حيث لعبت الطائفية دوراً مهماً، مما أدى إلى تقييم النظام على أنه طائفي من قبل جزء من الأكثرية السنية. والسبب الأهم هو ارتفاع تمثيل العلويين في جهاز القمع (الأمن والجيش) والوزارات، ولكن أيضاً لأن العلويين والأقليات الأخرى كانت لهم الأولوية في الحصول على المِنَح والامتيازات الأخرى.

كان المسلمون المحافظون لا يعتبرون أبناء هذه الأقليات مسلمين، بل كفار. المسلمون المحافظون يتكلمون غالباً عن «المسلمين والعلويين والدروز والإسماعيليين». كلمة «مسلم» هي بالنسبة لهم مرادفة لـ «سني»، بيد أن هذا التصنيف يدل على أن العلويين والدروز والإسماعيليين ليسوا مسلمين. بالنسبة للأغلبية السنية كان العلويون متحررين أكثر من اللازم بسبب علمانيتهم. المؤمن المتزمت ضد العلمانية، ويظنها لا دينية. مع أن هذا ليس صحيحاً، إذ يمكنك أن تكون علمانياً ومؤمناً في الوقت نفسه، شرط أن تعامل الجميع بالتساوي.

قيّم المسلمون المحافظون النظامَ على أنه طائفي، مما فتح المجال لديناميكية بين العلويين والسنة من الصعب جداً إبطالها. في البداية كانت هناك عدة مظاهرات ضد النظام في المدن ذات الأكثرية السنية، كحماة وحمص، تطالب بتعديل الدستور وبأن يكون الرئيس مسلماً. وفي عام 1976-1982 راحت جماعة متطرفة منشقة عن الإخوان المسلمين (الطلائع المقاتلة) تقتل علويين، بغض النظر عمّا إذا كانوا بعثيين أم لا. كانوا يحاولون فرض استقطاب طائفي، على أمل استلام زمام السلطة بعد ذلك. وقد شكلت هذه المرحلة نقطة تحول في التاريخ السوري بخصوص الطائفية.

توقعت الطلائع المقاتلة الحصول على دعم معظم البيئات السنيّة ضد الحكام العلويين. إذ أن السنيين يشكلون أكثرية سكان سوريا. وهكذا جاءت الذروة في 1982 في مدينة حماة، حيث قام الإخوان المسلمين بثورة على النظام، ولكنهم لم يحسبوا حسابهم بأنهم لا يملكون القوة العسكرية الفعلية. صحيح أن الجيش السوري كانت غالبيته من السنّة، لأنه تكوينه يعكس الشعب السوري بأكثريته السنية. ولكن السنيين في الجيش كانوا غالباً جنوداً ليس لكلمتهم وزن، أما المناصب المفتاحية فهي بيد علويين.

وهكذا انهزم الإخوان المسلمون بعد المجزرة في حماة. وعندما اندلعت الثورة كان الكثيرون يظنون بأنه حان الوقت لتصفية الحسابات، فانشق كثيرٌ من العسكريين السنيين عن الجيش وانضموا إلى المعارضة. وطبعاً كانوا يريدون حماية شعبهم من هجمات النظام أيضاً. بيد أن التوازنات العسكرية لم تكن تختلف عما كانت عليه، فالسلطة ما زالت، لا بل أكثر من ذي قبل، في يد علويين موالين للنظام.

برأيي النظام السوري ليس نظاماً طائفياً، ولكنه نظام نسبة تمثيل العلويين فيه مرتفعة جداً. النظام ديكتاتوري، وديكتاتوريته تنسحب على الجميع، حتى العلويين. أما بالنسبة لجماعة العلويين، فالسلطة مركزة في يد جزء صغير منهم. وضع العلويين ليس أفضل تعريفياً. قد يكون عقابهم أشدّ إن عارضوا النظام، لأن التهديد يأتي في هذه الحالة من الداخل.

الطائفية هي شكل من أشكال الدعاية والوسم والتأطير: «أنتم تقمعوننا، لأنكم علويون». وهكذا يتطابق النظام مع العلويين. الطائفية طريقةٌ لتجنيد الناس في الحرب، وديناميكية تبرز أثناء الصراعات ومن الصعب إبطالها، إن كانت موضوعية وإن لم تكن. بعض جماعات المعارضة الحالية تحمل في تكوينها عنصر الطائفية، مثل جيش الإسلام، أحرار الشام، هيئة تحرير الشام والقاعدة وغيرها.

بعد ارتفاع في درجة الاختلاط السكاني قبل 2011، نرى أن النظام (وغيره) يسعى إلى عملية فرز سكاني كجزء من خطة إبادة أكبر. هذا فضلاً عن الفرز «العفوي» الذي يتم تبعاً للولاءات. ربما هذا دليل على أن الطائفية «باقية وتتمدد»، حتى أن وقع كلمة «تقسيم» لم يعد غريباً جداً على آذان السوريين. برأيك كيف ستكون تداعيات هذا الفرز على الأزمة السورية في العقود القادمة؟

أولاً، لا أرى كلمة «إبادة» في مكانها هنا. نحن بصدد محاولة القضاء على خصوم سياسيين بأعداد كبيرة، ولكن ليس بصدد تصفية عرقية كما توحي الكلمة.

ونعم، هناك فرز لجماعات سكانية جراء الصراع الحالي. ولكن لا يمكننا التكلم عن فرز سكاني على أساسٍ طائفي، ربما على أساس الولاءات، مع النظام أو ضده. والكثير من المعارضين تركوا سوريا، هم لا يزعجون النظام بشكل مباشر الآن. سيحاولون طبعاً دعم الثورة ونفخ الحياة فيها من جديد، إلا في حال كان لديهم أهل يخافون عليهم من انتقام النظام.

كما كان الصراع سبباً في هرب ناسٍ ينتمون إلى جماعات معينة، منهم مثلاً المسيحيون. أعتقد أن عدد المسيحيين بدأ بالتراجع الرهيب في السنوات الأخيرة بسبب الصراعات المختلفة في الشرق الأوسط والعراق. وعندما يستقرون في الخارج، لن يعودوا مرة أخرى إلى مستقبل غير موثوق به في سوريا أو غيرها.

دمشق محمية بضواحٍ تحيط المدينة، كضاحية الأسد التي يسكن فيها عسكريون علويون موالون للنظام. ولكن هذا لا يعني أن النظام يريد تصفية السكان وجعلهم شبه متجانسين. لا أعتقد بأن المدن الكبيرة ذات الأغلبية السنية (مثل دمشق، حلب، حمص وحماة) ستتغير بشكل جذري من حيث تركيبة السكان. ويجب فصل هذا عن عادة البشر أن يسكنوا بالقرب من بعضهم بعضاً، هذا لا علاقة له بالطائفية.

العلويون سيبقون بين العلويين، والدروز بين الدروز. هذا أمر طبيعي ويعود إلى أيام ما قبل الحرب، ولا علاقة له بالطائفية.

شخصياً لا أؤمن بالتقسيم السياسي لسوريا. هذا أحد الأشياء التي لا يريدها السوريون، ربما ما عدا الأكراد. حتى ولو كانت الحدود استعمارية وقديمة ومرفوضة في الماضي، إلا أنها أصبحت بعد مائة عام مقدسة إلى حدٍ ما. في حال حصل تقسيم، فسيكون مؤقتاً. عندما يخسر النظام مناطق شمالي الفرات ولا يستطيع استرجاعها، سيتركها. ولكن ليس بغرض تقسيم سوريا إلى سوريتين، واحدة تحت سيطرة الأمريكان والأتراك، وواحدة بيد النظام السوري. لا، الأمر سيكون مؤقتاً.

سوريا مقسمة منذ الآن إلى مناطق تحت سيطرة النظام، وأخرى بيد المعارضة وتركيا والولايات المتحدة. ولكن التقسيم ليس طائفياً ولا دولياً. الحدود هي خطوط الهدنة لا أكثر. الأمر عائد إلى من سينتصر في آخر المطاف. على الأرجح أن يحصل المنتصر على كل شيء. يتكلم النظام اليوم مع الأكراد، ولكن ليس لأنه يحب الأكراد كثيراً، وإنما لأن هذا يصب في مصلحته استراتيجياً. النظام يريد استرداد المناطق الكردية على المدى البعيد. وعلى المدى البعيد أرى سوريا واحدة تحت سيطرة نظام سلطوي.

ألا يمكنك رؤية سورية ديموقراطية على المدى البعيد؟

أتمنى ذلك، ولكني لا أؤمن بأن هذا سيحصل.

لماذا؟

ليست حجة بحدّ ذاتها أن أقول بأنه لم يسبق لسوريا أن مرّت بتجربة ديموقراطية من قبل، إذ أن كل شيء قابل للتغير. ما يهمني هو أنه بعد سبع سنوات من الحرب، ما زالت المعارضة غير قادرة على التوافق بخصوص نقاطٍ كثيرة. لا المعارضة المدنية، ولا العسكرية، مع الملاحظة بأن الخلافات في الأخيرة أكبر. كثيرٌ من الناس يريدون الديموقراطية، غير أنهم لا يملكون السلطة لتحقيق ذلك. أعتقد أنه لا يوجد مجال للديموقراطية في الشرق الأوسط في الوقت الحاضر. الناس لديها أولويات أخرى: البقاء على قيد الحياة، المأكل، والأفضل أن يكون هناك تعليم جيد أيضاً. هذه الأمور أهمّ من الديموقراطية. هذا لا يعني طبعاً أني لست مناصراً للديموقراطية، ولكني أرى أنه من السهل، لا بل من المجّاني، أن ينادي الغرب: «نريد الديموقراطية في سوريا، نريد نقل نظامنا إلى سوريا». نظامنا؟! الديموقراطية نظام عام وعالمي غير مرتبط بمنطقة جغرافية معينة. ولكن هذا لا يعني أن الديموقراطية ستحلّ في أي بلد شرق أوسطي على المدى القريب. عندما أنادي: «أريد الديموقراطية الآن»، يتوجب علي أن أتحقق فيما إذا كان هذا ممكناً على المدى القريب فعلاً.

من باب حقن الدماء والحلول البراغماتية تقترح بأن يحتفظ النظام بالسيطرة على القوات المسلحة وأجهزة المخابرات لمدة قد تطول أو تقصر، وأن تتقاسم المعارضة الحقائب الوزارية الأخرى. ولكن أليست القوات المسلحة وأجهزة المخابرات هي منبع العنف والإبادة في سوريا؟ أليست هي المسؤولة الأولى مع بشار عن أكثر من نصف مليون قتيل ودمار واسع في البلد وتهجير فوق نصف السكان؟ أليس هذا الاقتراح هو الوصفة الجاهزة للإعداد لثورة أخرى في المستقبل القريب؟

هل كانت المعارضة سترضى بهذا المقترح في 2011، أي بعد اندلاع الثورة السورية بفترة قصيرة؟ حسب المفكر السوري البارز صادق جلال العظم (المتوفى حالياً)، فإن نصف المعارضة السورية كانت سترضى أن تسكت لو قبِل بشار الأسد في ربيع 2011 أن يُدخِل المعارض القيادي رياض سيف في حكومته الجديدة. بيد أن هذا لم يحصل، والحقيقة أننا لا نعرف ماذا كان النصف الثاني سيفعل، وهل سيوقف مظاهراته ومقاومته للنظام. على الأرجح لا، لأن سقف التطلعات كان عالياً في تلك الفترة.

مضت سبع سنوات، واكتشفنا أن المعارضة فشلت بإسقاط النظام. الواقع هو أن النظام استطاع النجاة رغم الثورة، وسيبقى لفترة غير مسماة. هذا هو الواقع الذي يجب أن نحسب حسابه. قدمت اقتراحي من هذا المنظار. حين يكون النظام واثقاً من سيطرته، سيتمكن من إرخاء اللجام تدريجاً. لن يقوم النظام بالإصلاحات عندما تهدد سلطته. ولن يكون هناك انتقال سلمي من ديكتاتورية إلى ديموقراطية.

بإمكاني طبعاً مواصلة النداء – كما يفعل الكثيرون – بأن على النظام السوري أن يسقط، وأن يُحاكَم أصحاب الأيادي الملطخة بالدماء، غير أن هذا لن يحصل في الظروف الحالية. أنا متأكد من أن المعارضة سترفض اقتراحي وتعتبره غير عادل ومصدراً للمشاكل الجديدة. ولكن النظام – كما أثبتت السنوات السبع الماضية – لن يُسقِطَ نفسه، ناهيك عن أن يوقّع الرئيس الأسد قرار إعدامه. ليس واقعياً أن نتأمل ذلك.

عندما يكون المرء على حق، هذا لا يعني أنه قادر على فرض استحقاقه. الواقعية والعدالة لا يتوافقان في هذه الحالة. النقطة المركزية هي أين هي السلطة. أرجو أن تصلني اقتراحات بديلة تملك قابلية النجاح، ولكن لم يسبق أن سمعت شيئاً من هذا القبيل.

هذا لا ينفي أن تسترد المقاومة عافيتها في المستقبل، حتى ولو قام الأسد بعدة إصلاحات. إذ أن كمية الدماء التي سالت كبيرة جداً وقد تحتاج المصالحة إلى أجيال. أما إلى أي مدى ستكون مقاومة المستقبل ناجحة، فهذا يتعلق – كما في ثورة 2011 – إلى درجة كبيرة بالسيطرة والحفاظ على السيطرة على الجيش وأجهزة الأمن.

تغيب إسرائيل في كثيرٍ من الكتابات حول الأزمة، كما لو أنها غير موجودة. مذهل كيف تمكنت إسرائيل من التغيب بهذه الطريقة. ولقد لاحظتُ أنك ذكرت في كتابك الأخير معظم القوى الإقليمية والدولية ودورهم في الصراع، ولكنك لم تأت بالذكر على إسرائيل. برأيك ما هو تأثيرها المباشر وغير المباشر على الأزمة وعلى مواقف القوى الدولية؟ وهل تشاركنا الاعتقاد بأنها تفضل بقاء الأسد الذي حرس الهدوء في جبهة الجولان طوال أربعين عاماً؟

لن تمانع إسرائيل في حال قامت حرب في جميع بلاد الجوار. عندها لن يضطروا لفعل شيء، هم على الأغلب لا يحتاجون لفعل أي شيء. كانت هضبة الجولان هادئة في عهد حافظ الأسد وبعد ذلك أيضاً. لم تكن سوريا تزعجهم إذن، في أسوأ الحالات كان الأسد يزعجهم في لبنان. هل تعرفين العبارة القائلة: «أسد في لبنان، أرنب في الجولان»؟

في الفترة الأخيرة كانت إسرائيل متنبهة لما يحصل في سوريا جراء الدور الإيراني. فإيران باتت قريبة جداً من حدود الهدنة في الجولان. غير أن إسرائيل لا علاقة لها بالصراع بشكل عام. والحقيقة أني لم أسمع أنها قدمت الدعم للمعارضة أو العكس. في كتابي أقتبس جملة قالها محمد علوش، ممثل جيش الإسلام: «الهدف الوحيد هو التخلص من النظام وأذنابه. حيث أن عدد القتلى في النزاع الإسرائيلي العربي أقل بما لا يقاس من عدد القتلى على يد النظام».

أليس لإسرائيل تأثير على «حذر» القوى الدولية بالتعامل مع الملف السوري؟

إسرائيل حليف قوي للولايات المتحدة. في الحقيقة إسرائيل صديقة كل الدول الغربية تقريباً. ولكني لا أظن أن لإسرائيل دور في محاولات الدول بإطاحة النظام، فمن غير المعروف من سيحلّ مكان الأسد. إسرائيل ليست مهددة من قبل النظام، ولا من قبل المعارضة. فقط الدولة الإسلامية تهددهم بطريقة ما، ولكن ليس فعلياً، ومع ذلك هم منزعجون منها.

تعمل منذ زمن طويل في السلك الدبلوماسي، وكنت مبعوث هولندا الرسمي بخصوص الملف السوري، وقد استشارك كبار السياسيين الدوليين. بيد أن السوريين لديهم تجربة سلبية بهذا الخصوص. ويرون بشكل عام أن السياسيين الغربيين والموفدين أشخاصٌ قد يعرفون شيئاً عن «الأزمات»، لكنهم يهملون البعد الإنساني والتحرري، وأنهم دوليتوّ المنظور ومتمركزون غربياً، يعتقدون بأن صراعاتنا غير عقلية وبأن الدول أعقل وأفضل من محكوميها، يغفلون منهجياً الأبعاد السياسية والأخلاقية للمشكلات المعنية، ويتبعون دوماً منهج «إدارة الأزمات» الذي نرى آيات «نجاحه» في فلسطين واليوم في سوريا. والسؤال الذي يخطر على البال بعد إتمام قراءة كتابك «تدمير وطن» هو: ألم تطيل التركيز على المستوى السياسي العالي إلى درجة الاغتراب عن تطلعات الشارع نحو الحرية والكرامة والعدالة؟

أتمنى أني استطعتُ من خلال كتابي أن أوضح أني لا أتبع سياسات الدول الغربية والحكومات الأخرى على الإطلاق. كنتُ دائماً ناقداً لها لمدة سنوات. وقد قلتُ مرة قبل أن أصبح مبعوثاً لسوريا: «على الغرب أن يمتنع عن خلق التوقعات الزائفة».

أثناء إحدى المحادثات في جنيف، طرح محمد علوش سؤالاً في محلّه على مبعوثي سوريا للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن: «ها أنتم وقعتم قرار 2254، ماذا ستفعلون من أجل تنفيذه؟». فأجابه أحد المبعوثين: «سننفذه، نحن ملزمون به». قلت لاحقاً لرئيس لجنة الوفد السوري: «إنه يقول ذلك، ولكنهم لن ينفذوا شيئاً». قلت هذا لأن تنفيذ قرار 2254 يتطلب تدخل عسكري وهذا لن يحصل.

في اسطنبول كنت أشرح لأعضاء الائتلاف الوطني ما هي نقط الانطلاق غير الواقعية برأيي. الآخرون كانوا فقط قادرين على اتباع الخط الرسمي لدولهم، أي تقديم الدعم من دون أدنى نقد. أما أنا فقد كنتُ قادراً على قول ما هو أفضل حلّ برأيي، أو بالأحرى أقل الحلول سوءاً. أنا واثق من أن المعارضة تستفيد أكثر من الدعم حين يكون على شكل النقد البناء. يمكنني أن أستنتج من ردود أفعالهم بأنهم كانوا يقدّرون ذلك.

عندما عدتُ من اسطنبول، سألوني على التلفزيون الهولندي: «هل يعني هذا أنه لم يكن لك أدنى تأثير على وزير الخارجية؟». فأجبت: «أثرتُ في أفكاره، ولكن لم يكن لي تأثير على سياساته». تكلمتُ طبعاً بشكل موسّع مع الوزير، وأرسلتُ له تحليلاتي، ولكن وزيرنا مضطر أن يحسب حساب الرأي العام وزملائه في الاتحاد الأوروبي. يعتقد الناس غالباً بأن الوزير قادر على أن يفعل ما يشاء، ولكن هذا ليس صحيحاً. يتعين عليه أن يلتزم ببعض الحدود.

أما بالنسبة للتطلعات نحو الحرية والكرامة والعدالة: هذا كان شيئاً رائعاً. والسياسيون دعموا هذه التطلعات، ولكن فقط عبر سياسة النوايا الحسنة غير القابلة للفرض. عندما هتف السوريون: «نريد إسقاط النظام، نريد ديموقراطية»، ردّ معظم السياسيين الغربيين بأقوال من قبيل: «نحن ندعمكم، لقد فقد الأسد شرعيته».

حاولتَ أن تُحبط من أهداف الغرب، لماذا لم تحاول أن ترفع من مستوى فعلهم؟

لأنني كنت أعرف أنه لا يوجد أي طرف يريد ذلك. فضلاً عن أني لا أؤمن بالتدخلات العسكرية. أنا ضدها، لأن التجربة علمتنا بأن كل تدخل عسكري تقريباً يؤدي إلى كوارث. النقطة الهامة بالنسبة لي هي: يجب ألا تحبط أهدافك، ولكن أن تجعلها ملائمة للوسائل المتاحة، والتي أنت مستعد لاستخدامها. لُبّ المسألة بالنسبة لي هو أن الحوار ضروري بغية الوصول إلى حل، ولكن لا أحد كان يريد الحوار. حتى اليوم لم يتغير شيء. لا أحد يريد أن يتكلم مع النظام.

بالفعل، انقضت سبع سنوات على الحرب وتغيرت أشياء كثيرة وما زلت تقول الشيء نفسه؟

الحوار الآن يختلف عن الحوار منذ سبع سنوات. هناك فرصٌ ضاعت. ولكن هذا لا ينفي أن علينا أن نجرّب كل شيء. البديل هو ألا نفعل شيئاً. التدخل العسكري لم يعد ممكناً الآن، بسبب التصادم المباشر مع الروس. من عنده رغبة بذلك؟

بعضهم انتقد كتابي، لأني أرفض التدخل العسكري من جهة، ومن جهة أخرى أقول إن المعارضة لم تحصل على الدعم الكافي. وضّحت ذلك وقلت بأننا بهذه الطريقة نرسل المعارضة إلى حضن الموت من دون تزويدها بما يكفيها. أرى ذلك مرفوضاً.

قلتها مراراً وتكراراً: من السهل المناداة بالحظر الجوي، ولكن هذا لا يجدي في شيء من دون تنفيذ. الشيء نفسه ينطبق على الممرات الإنسانية والملاذات الآمنة، حتى ولو كان لهذه الكلمات وقع حلو في آذان المناصرين السياسيين. ولكن حين لا تستطيع فرض هذه الأشياء، فلا فائدة منها. بهذا تقوم بخلق توقعات زائفة.

تقول «إذا كنت لا تستطيع»، هل المسألة مسألة قدرة أم إرادة؟

أعتقد أنهم لا يريدون، لأنهم يستطيعون، ولكن بعد ضرر كبير. لا يوجد بلدٌ واحدٌ مستعدٌ لفعل ذلك.

ولكن السوريين ما زالوا يحلمون بالحرية والكرامة والعدالة. ماذا تقول لهم؟

السوريون في وضع لا يحسدون عليه، أصعب بكثير من سبع سنوات مضت. كان على السوريين ألا يصدقوا ما تقوله كل تلك الدول. هم أيضاً لهم نصيبهم بالتفكير الرغبوي. وأنا سأكون مثلهم لو رأيت السفير الأمريكي يحضر للمواساة في حماة، أو رأيت كيف ساعد الغرب بسقوط القذافي.

ما هو تقييمك لعالم الدراسات الشرق-أوسطية في الغرب اليوم؟ ألا ترى بأن الربيع العربي كشف عن هوة سحيقة بين المناضلين الديموقراطيين وصانعي التغيير في المنطقة من جهة، والأكاديميين الغربيين من جهة أخرى، حيث بدى الأخيرون إما معنيين بالتعاون مع أصحاب القوة كخبراء، أو مركّزين بشكل دائم على إشكالية «الإمبريالية» دون الالتفات للديناميكيات المحلية في كل بلد عربي؟

عندما تنظرين إلى ما كتبه الأكاديميون الغربيون حول الصراعات في سوريا، يمكنكِ أن تعرفي مباشرة في صفّ مَن يقفون. هناك مجموعة كبيرة من الأكاديميين تتعاطف مع المعارضة. ومعظم الكتب التي صدرت حول الموضوع تتعاطف مع المعارضة، ولا تفكر بمصطلحات الإمبريالية. وهناك مجموعة صغيرة جداً تتبع ما يقوله الأسد بالحرف الواحد. وفي الوسط عندكِ مجموعة صغيرة من غير الممكن أن تكشفي بسرعة في صفِّ مَن يقفون. هؤلاء يقاربون الصراع عن بعد، بطريقة تحليلية. أنا أحسب نفسي على هذه المجموعة. أعتقد أننا نساعد السوريين أكثر عندما نتخذ مسافة من الصراع، من دون أن نتحيّز لطرف معين.

يفكر البعض أحياناً بتصنيفات اليمين واليسار، بيد أن الصراع في سوريا لا علاقة له باليمين ولا باليسار من حيث المضمون، مثله مثل الصراع العربي الإسرائيلي أو الفلسطيني الإسرائيلي. ولكننا نلاحظ بأن اليسار مع المعارضة أكثر، واليمين مع النظام أكثر. الصراع السوري يدور حول السلطة ومبادئ العدالة، ولا أرى لتقسيمات اليمين واليسار أي علاقة، ولا حتى للإمبريالية. قيمة العمل الأكاديمي تزداد عندما لا يكون واضحاً في صفِّ مَن أنت.

ولكن كيف يمكن للأكاديمي أن يكون حيادياً أمام الحرية والعدالة؟

أنا مع الحرية والعدالة، ولكني أنظر حولي وأرى أن لا أحد يهتم بها عندما يتعلق الأمر باتخاذ الخطوات الفعلية. يهمني أن نصل إلى حلّ. قلتُ بأن على السوريين أن يتحاوروا، أما إذا كنت لا تريد، فعليك إذن أن تهزم النظام. وإذا كنت غير قادر على ذلك، فليس أمامك سوى أن تتقبل الواقع كما هو.

هذا لا يعني طبعاً بأنه عندما يسقط النظام، سوف ينقلب الناس أحراراً. الأرجح أن يكون خليفة الرئيس ديكتاتورياً مثله، إذ أن إسقاط النظام لا يتم إلا عسكرياً، وهذا يعني بأن عسكريين جدد سيستلمون السلطة. أرى الأمر أقرب للمجانية عندما تنادي بالحرية والعدالة من دون أن تحسب حساب الأرض. للبراغماتية قيمة أخلاقية أعلى عندما تحقق شيئاً للضحايا. هذا أفضل من اتخاذ مواقف أخلاقية عالية، فتنتابك الأحاسيس الجميلة التي تترافق معها، من دون أن تحقق شيئاً للناس المعنيين. البراغماتية تساعد على تحقيق الأكثر.

وإذا كنتِ تعنين بالإمبريالية ذلك الصراع بين روسيا والولايات المتحدة، فعليكِ أن تنظري إلى بداية الثورة. لم يلعب هذا الصراع أي دور في البداية، ولم يكن لروسيا علاقة كبيرة بمجريات الحرب في ذلك الحين. الصدام بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا تطوّر تدريجاً عبر الحرب على الدولة الإسلامية، وبخاصة بسبب محاولات الولايات المتحدة لتبديل النظام في دمشق.

سؤالي الأخير قد يكون غريباً ولكنه مشروع. السوريون لم ينادوا فقط بإسقاط النظام. بعض هتافاتهم ولافتاتهم طالت الأمم المتحدة أيضاً، وأخرى نادت بإسقاط العالم. ربما كان هذا تعبيراً عن حجم الخذلان الذي يشعرون به من طرف القوى الدولية. بيد أني أعرف أن بعضهم كان يعني جداً ما يقول. وبما أن المشكلة السورية باتت أزمة عالمية بامتياز، يحق لنا أن نتساءل فيما إذا كان من الممكن أن تؤدي الأزمة السورية إلى تغيير أو خلخلة إيجابية في نظام العالم على المدى البعيد. أم أن هذه الشعارات كانت ولا زالت أحلام المساكين؟ وبفضل الاستقطابات الجديدة لن يزداد شكل العالم الحالي غير المتوازن إلا رسوخاً؟

بالنسبة للتوازنات الجديدة في المنطقة، يمكنني القول بأن الاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق قد سبّبَ كثيراً من الشرور. أولاً، دَعَمَ مكانة إيران في المنطقة، كما لو أن الأمريكان والبريطانيين بسطوا السجادة الحمراء للإيرانيين. لقد منحوهم نفوذاً كبيراً في العراق وسوريا. هذا تغيير كبير من غير الممكن إبطاله أو العودة إلى الوراء.

فضلاً عن ازدهار الإرهاب في المنطقة وخارجها. ما كان هذا ممكناً لولا سقوط صدام حسين. أعتقد أن معظم الدول التي تدخلت، تضرّرت بشكل أو بآخر. أقصد الدول التي ساندت المعارضة، إذ أن نفوذ الروس في المنطقة في صعود. أما بالنسبة لإسرائيل، فهي تريد أن تغتنم الفرصة لتعمل على إضعاف إيران وربما مهاجمتها. ويمكنني أن أتنبأ بأنه في حال حصل تدخل عسكري جديد، سيتسبب بكارثة جديدة.

أما بالنسبة لتركيا صاحبة الصوت الأعلى المطالب بإسقاط النظام، فقد ظهر العامل الكردي. لو اختلفت الظروف، لما حصل أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي» على هذه الفرصة.

وعندكِ أيضاً اللاجئون الذين يتعين إيوائهم. والنتيجة هي عدم استقرار في المنطقة. لا أعتقد أن الاستقرار سيعود حين ينتصر النظام. الحقد والكره لن يختفيا بسهولة، وربما سيبقيان لفترة أجيال. المنطقة انقلبت رأساً على عقب.

أما على المستوى العالمي، فلا أعتقد أن أشياء جذرية حصلت. سنبقى نشكو من الإرهاب العالمي. ما كانت هذه المشكلة موجودة لو لم يتم التدخل في سوريا والعراق. أعتقد أن الدول التي تدخلت، جعلت العالم أسوأ. لو لم يتدخل أحد، لكان الوضع في العالم أحسن، وبالنسبة للسوريين أيضاً.

وفي جميع الحالات يبقى السوريون، أينما كانوا، هم ضحايا هذه الحرب البشعة.

 

المصدر: الجمهورية