ليرمنتوف… سبع نقاط من الذاكرة

 

 

 

 

 

 

1

ميخائيل يوريفتش ليرمنتوف عاش ( 27) سنة فقط، ومع ذلك أصبح واحدا من كبار أدباء روسيا والعالم، وسيبقى هكذا – شاعرا عملاقا وروائيا عظيما وكاتبا مسرحيا كبيرا.

2

ظهرت أول قصيدة له وكانت بعنوان ( موت شاعر ) عام 1837، وهي تتناول موت بوشكين في المبارزة المعروفة في ذلك العام،وتلاقفتها الأيدي رأسا، وتحول اسم الشاعر المجهول كليا آنذاك ليرمنتوف إلى علم من أعلام الشعر الروسي فجأة، بل وبدأ الحديث عن ظهور بوشكين جديد في الأدب الروسي. وبين عام 1837 (ظهور قصيدته تلك) وعام 1841( تاريخ مقتله في مبارزة مع احد زملائه)، أي على مدى أربع سنوات فقط نشر ليرمنتوف إبداعه في الشعر والنثر والمسرحية وشغل مكانه البارز الكبير في مسيرة الأدب الروسي وتاريخه، وكان في ذلك الوقت ضابطا في الجيش الروسي. لقد استطاع هذا الشاب أن يحقق كل  ذلك عندما كان عمره يتراوح بين 24 سنة إلى 27 سنة ليس إلا. ياللدهشة!

3

عندما كنت طالبا في كلية الآداب بجامعة موسكو في بداية ستينات القرن العشرين، تحدث نيكيتا خروشوف- رئيس الدولة السوفيتية وحزبها الشيوعي آنذاك عن استغرابه من عدم وجود تمثال لهذا الأديب الروسي الكبير في موسكو، وبعدئذ تم افتتاح تمثال له في موسكو بمنطقة غير بعيدة عن مركز المدينة ، سبق للشاعر أن عاش فيها وتسمى ( كراسنيه فوروتا) ، وأبدلوا تسمية محطة المترو إلى ( ليرمنتوفسكايا)، وذهبنا – نحن طلبة كلية الآداب – لمشاهدة ذلك التمثال الرائع ، الذي نقشوا على منصته مقطعا من شعره حول موسكو، الذي يخاطب فيه موسكو قائلا انه يحبها  ( بشكل ملتهب/ ورقيق) ، ووقفنا عند التمثال الذي كان فيه ليرمنتوف واقفا وهو يرتدي المعطف بأناقة وشاعرية ورومانسية، وخلفه حديقة خضراء. بعد مرور خمسين سنة من تلك الزيارة،عدت إلى موسكو وزرت المنطقة ورأيت التمثال نفسه ، إلا أنهم أعادوا التسمية القديمة لمحطة المترو ليس إلا، وتذكرت الأيام الليرمنتوفية الخوالي.

4

عندما كنت طالب دراسات عليا في جامعة باريس نهاية ستينات القرن العشرين، قرأت في الجريدة الروسية ( روسكايا ميسل) ( الفكر الروسي ) التي كان يصدرها اللاجئون الروس (البيض ) في باريس إعلانا عن محاضرة يلقيها بروفيسور جامعة موسكو سابقا أيلين( وهو اسم معروف في الأوساط الأكاديمية الروسية قبل ثورة أكتوبر 1917 )، وذهبت بالطبع للاستماع إلى تلك المحاضرة. كنت ( الشاب ) الوحيد بين الحاضرين الروس المتقدمين في السن، وأثرت استغرابهم، بحيث أن الشخص الذي كان يجلس جنبي سألني – من أنت؟ فأجبته ، وتعجب وقال انه يلتقي لأول مرة بعراقي يتحدث بالروسية ويهتم بشعر ليرمنتوف، وسألني – كم عمرك؟ فقلت له – 28 سنة ، فضحك، وقال إن عمره مثل عمري ولكن يجب تغيير مواقع الأرقام، أي 82 سنة. كان البروفيسور أيلين يلقي محاضرته شفاها ، واستمر لمدة ساعتين، وكان يقرأ عن ظهر قلب مقاطع طويلة من قصائد ليرمنتوف، واعترض احد المستمعين لمرة واحدة فقط وصحح له مقطعا واحدا، وقد اعتذر أيلين ووافق على هذا التصحيح، وتحدث البروفيسور عن ليرمنتوف وسبب خلوده في تاريخ الأدب والفكر الروسي، وهاجم بعنف الناقد الروسي الأدبي المعروف بيلينسكي وأطلق عليه تسمية – ( الطالب الفاشل )، وقال انه لم يستوعب عظمة بوشكين وليرمنتوف،و كان من الواضح أن أيلين يميل إلى ليرمنتوف أكثر من بوشكين، لأنه يعبر عن حزن الإنسان الدفين في أعماق الإنسان الروسي، وقد وجدت أثناء اختلاطي بالجالية الروسية من المهاجرين إن هذا هو الرأي السائد لدى أكثريتهم

5

كثيراً ما كنت أتحدث مع طلبتي في قسم اللغة الروسية في جامعة بغداد في الثلث الأخير من القرن العشرين عن ترجمة  الدكتور سامي الدروبي لرواية ليرمنتوف ( بطل زماننا/ أو عصرنا ) التي ترجمها الدروبي هكذا – ( بطل من هذا الزمان)، وأؤكد لهم، أن الترجمة الحرفية لا تستطيع في كثير من الأحيان أن تعبر عن جمالية النص الأجنبي،وكم أتمنى أن أرجع يوما للكتابة عن ذلك، وأتوقف طويلا عند تفصيلات خلافاتنا ( نحن أساتذة قسم اللغة الروسية آنذاك) حول كل ذلك.

6

طلبتي كانوا يحبون ( أثناء تدريسي مادة الشعر الروسي ) قصيدة ليرمنتوف – (أشعر بالسأم وبالحزن   )، وكانوا يحفظونها عن ظهر قلب ببساطة أثناء الدرس نفسه. لقد وجد طلبة العراق في قصيدة ليرمنتوف تلك  ( ضالتهم)، إذ أنها تعبر بدقة عن ذلك السأم والحزن واليأس في عراق تلك الأيام، وقد كنت أشرح لهم أن عظمة ليرمنتوف ( كما هو حال كل الأدباء العظام في العالم) تكمن في انه يعبر عن الأحاسيس الإنسانية بغض النظر عن القومية والدين والزمن ، وكان الطلبة يقتنعون بذلك ويتقبلون تلك الأفكار( في مختبر) قصائد ليرمنتوف.

7

عندما أقام مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الروسية عام 2011 تمثالا نصفيا لأحمد بن فضلان ، حدث نقاش حاد بين مؤيدي هذا التمثال وبين معارضيه، إذ أشار القوميون الروس إلى أنهم يعارضون إقامة التمثال ،لأن ابن فضلان كتب في رسالته الشهيرة عن الشعب الروسي أشياء سلبية ،منها أنه لم يكن يغتسل ( في القرن العاشر )، فأجابوهم أن ليرمنتوف كتب قصيدة في القرن التاسع عشر بعنوان ( وداعا يا روسيا ) ، عندما نفوه إلى القوقاز، وذكر فيها انه يودع روسيا ( التي لم تغتسل )، وطرحوا عليهم سؤالا محددا وهو – ( هل نمنع شعر ليرمنتوف بسبب ذلك ؟ ). لقد ساعد ليرمنتوف على تثبيت تمثال ابن فضلان في روسيا، وأتوجه إليه الآن ، باسم مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش وأقول له – شكرا جزيلا يا ميخائيل يوريفتش .

عن جريدة المدى العراقية