زاوية يكتبها طه خليل
بقيت راعياً لغنمنا أكثر من سبع سنوات، أي حتى حصلت على شهادة البكالوريا، وسجلت في كلية الآداب، بجامعة دمشق، وحين رجعت إلى البيت قلت لوالدي:” عليه أن يتدبر أمر الغنم، ويجد راعياً يسرح بغنمنا بأجر مدفوع، لأنني قررت أن أداوم في الكلية ولم يعد يليق بطالب جامعي أن يكون راعيا للغنم.” فاقتنع والدي على مضض، وكان يقول لي:” لا أعتقد أن رعايتك للغنم ستؤثر على دراستك.. خذ كتبك معك، واقرأ وحضّر لامتحاناتك وأنت على ظهر الحمار”.
وبمناسبة الحديث عن الحمير كان لدي حمار شموس، غضوب، حقود، يقلع سيخ الحديد المدقوق في الأرض بأسنانه، أو يفكّ رسنه ما إن أغفل عنه، ويعود إلى البيت وكان أشد عقاب أتلقاه من والدي هو حين كان الحمار يفكّ حاله وفي الطريق يرمي رسنه ويضيع الرسن، حتى ظننت أن الرسن له علاقة بالشرف الاجتماعي للفلاحين، فكنت حين أدق سيخ رسن الحمار في الأرض كنت أقرأ المعوذات والأدعية ليهدأ الحمار مثل حمير الناس ويرعى بدائرته، ولا يقلع السيخ الطويل “حوالي المتر” بأسنانه ليهرب مني. وعلى الأغلب لم تجدِ كل محاولاتي معه نفعاً، كان في تحدّ واضح معي، وكان ينتصر على الأغلب.
أما الأمر الآخر الذي كان يزعجني في حماري الذي كنا نسميه “حيركو” هو أنه كان قلقا على الدوام، لا يستكين، ففي ساعات القيظ كان الرعاة يوقفون حميرهم.. ويتمددون في ظلالها اتقاء من حرّ تموز.. وكانت حميرهم تبقى واقفة ما داموا متمددين أو نائمين في الظلّ تحت بطنه تماما، إلا حماري.. فلمجرد ما كنت أتمدد.. حتى كان يسير ويتركني تحت الشمس اللاهبة.. لألحق به وأكرر المحاولة ويفعل في كل مرة ذلك… ومع الوقت تعوّدت على طباعه، فلم أتركه لوحده ليرعى، ولم أجبره على الوقوف لأتمدد في ظله، فكنا أنا وإياه نتقاسم شمس الظهر الحارقة، والقهر والجوع، وهو بطبعه كان لا يرعى ما دمت على ظهره، بعكس حمير الآخرين التي كانت تحمل صاحبها وتسير به أمام الغنم وترعى مما تجده في الطريق من نبات أو سنابل تركتها شفرات الحصادة على الارض.
قبل أيام زرت قريتنا وشدّني الحنين إلى البراري التي كنت أرعى بها غنمي، وسرت باتجاه الوادي شمال قريتنا، وصعدت التلة التي كنا نحفر فيها بأيدينا بحثا عن كنوز اليونانيين ” قيل لنا أن اليونانيين مروا من هناك ودفنوا ذهبهم في تلك التلال” ولم أجد في التاريخ أن اليونانيين قد حكموا هذه الأراضي عدا رحلة كزنيفون والعشرة آلاف فارس، كما ورد في كتاب هيروديتس في التاريخ.
هناك على التلة المطلة على القرية جلست وحيدا، فجائني أحد أصدقاء الرعي وقرفص قربي قائلا: “يا الله كم كنا نسرق رسن حيركو ونطمره في هذه التلة، وكنا نضيع أثره، ربما سيأتي يوم وعهد سيكتشف القادمون حديداً ويدعون أنه من تراث وحضارة أهلهم.
فهززت رأس وأنا أتذكر وحشة حيركو بين الحمير… الوحشة التي ألبسني إياها أينما حللت.
نشر هذا المقال في العدد /81/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/7/2018