ي تنقلاتي المستمرة بين بلدان العالم، أكثر ما يفتنني هو متاحف الأدباء والفلاسفة المنتشرة في كل مدينة وبلدة. زيارة متاحف الأدباء اكتشاف دائم ومغامرة أفتش من خلالهما عن معانٍ ضائعة لكلمات قرأتها سابقا. عن صور وعوالم عشت معها أياما أثناء القراءة. أفتش، ربما أيضا، عما لم يقله الكاتب أو لم يشأ إظهاره، لان ما أراه هو ما أُريد له أن يظهر من الذين أنشأوا المكان. أفكر في أنه قد يكون من الممتع رسم خريطة طريق عالمية لمتاحف الأدباء أسوة بخريطة طريق الحرير يسلكها كل قارئ ومحب للأدب. صحيح انها طريق من نوع آخر إلا انها طريق تبادل بين القارئ والكاتب. تبادل لا ينتهي بموت الكاتب بل يبدأ أحيانا. بعد موت الكاتب. تعمد الدولة أو السلطة المحلية أو أحيانا جمعية ثقافية الى إنشاء متحف يضم كل ما يراد إظهاره عن الكاتب. قد يكون المكان بيت الطفولة أو ذلك الذي قضى فيه آخر أيامه، أو ذلك الذي كان يهرب اليه من إيقاع الحياة المدينية المتعبة. تختلف الأمكنة لكنها تتشابه بعد الموت، إذ تضم رسائل ومخطوطات وكتباً وصوراً ومقالات ومقتنيات شخصية وأغراضاً خاصة كان يستعملها الكاتب وتعيش معه كجزء من حياته. أبحث عن مختلف ما في زوايا كل متحف أزوره، عن كلمة تغدو أحيانا كمفتاح يؤدي الى باب لم يعثر عليه أحد بعد، الى جملة تفسر لي أمورا كثيرة رسمت خطوطاً متعرجة في حياة الكاتب. أبحث عن نص مفقود أتخيله. أفكر بإعجاب بأن الموت لم يستطع نهائيا إلقاء الكاتب خارج الزمن، رغم موته الفعلي. أو ربما برغبة دفينة أن أتحقّق من غياب فعلي له.
لكن كل مرة أزور فيها متحفا لكاتب أشعر بصقيع غريب. هذا ما شعرت به أثناء زيارتي لمتحف ارنست همنغواي أثناء إقامتي في جامعة ايوا في الولايات المتحدة الاميركية ككاتبة مقيمة. هناك كل شيء عن همنغواي الى درجة ان غيابه حاضر وبقوة أشد. أحد متاحف ارنست همنغواي في شيكاغو هو بيت جده لأمه وهو المكان الذي عاش فيه ارنست وترعرع سنوات مراهقته قبل الانتقال الى مكان آخر. في هذا البيت لا نرى أي شيء يتعلق بأرنست الكاتب بل بالطفل والولد. في مكان قريب من هذا البيت أنشئ متحف بمبادرة من سكان المدينة وضعت فيه كل أشياء الكاتب التي عاش معها منذ ترك بيت جديه. احتاجوا لمكانين كي يصنعوا منهما متحفا لكاتب كبير كهمنغواي. وهو ليس بالمتحف الوحيد له في أميركا على أي حال. في فلوريدا حيث عاش هناك متحف أيضا. لكن الرجل الذي قرر أن ينهي حياته بطلقة من بندقية صيد كيف ننظر الى اغراضه ورسائله ومقالاته وكتبه وذلك الكم الهائل من الصور التي توزعت بين طفولته وصباه وذكرياته خلال الحرب العالمية الاولى وصور ممرضته الجميلة التي عشقها والتي رفضت الزواج منه عندما أصيب أثناء الحرب العالمية الاولى بينما كان يخدم كسائق في الصليب الاحمر الدولي. بقيت تلك المرأة ملهمة همنغواي لسنوات طوال، فهي موجودة في أكثر من قصة قصيرة ورواية له وأولها “وداعا أيها السلاح” التي تحكي عن قصة حب بين ممرضة وضابط في الجيش تنتهي بموت الممرضة. همنغواي وجد في الكتابة طريقة للتخلص من عبء ذاكرة غرامية تشعره بالإهانة لان الممرضة رفضت في الواقع طلب الزواج. لكن هل نجح فعلا في التخلص؟ ماذا يقول لنا متحف كهذا حول قصة غرام أولى أثّرت الى حد بعيد في حياة الكاتب. في المتحف رحت أفتش عن سبب لانتحاره بين أوراقه وصوره متسائلة كيف ستكون حياة همنغواي لو تزوج بتلك الممرضة…. هل كان أقدم على الانتحار مثلا؟ لكن المتاحف لا تدخل في مناقشة أمور حقيقية وعميقة في حياة الأدباء. إنها تظهر ما يجوز إظهاره فحسب.
المتحف والموت
لا نستطيع أن ننسى أن متحف الكاتب مرتبط بشكل ما بموته. رغم أن هدف إنشاء متحف لكاتب هو تماما عكس ذلك، اذ انه يسعى ببراءة تامة الى التحايل على الموت وتخليد اسم الكاتب وأعماله.. التخليد بمعنى ما هو تأكيد للموت بأبهى صوره. المتحف هو بمثابة جائزة تعطى للكاتب لقاء الموت. هذا أيضا ما فكرت به أثناء زيارتي لمتحف الكاتب السويسري الالماني الاصل هرمان هيسه رغم انه يحمل جواً سياسياً معاصراً يجعل الزائر يقيم حوارا دائما بين مقالات هيسه والحاضر الذي نعيش فيه. في متحف هيسه الذي كان حتى عام 1962 مكان إقامة الكاتب، ليس فقط رواياته بل أيضا رسومه وجمله الشهيرة ولوحاته الاكواريل كذلك مقالاته السياسية التي نشرها في سيمبليسيسيموس Simplicissimus الاسبوعية الالمانية المعارضة وخاصة بين 1938 و1944. وكما سافر همنغواي من الولايات المتحدة الاميركية وعاش فترة من الزمن في أوروبا وتحديدا في باريس، كذلك هيسه ترك ألمانيا عام 1912 الى سويسرا تعبيراً عن موقف سياسي معارض لسياسة القيصر الالماني آنذاك. ثم أثناء النازية قال وداعاً لألمانيا دون عودة. رحلات، تشكّل سيرة حياة للكاتب، يظهرها المتحف مجتمعة كلحظة. يعود همنغواي الى أميركا، أما هيسه فيصبح سويسرياً وينتقل الى بلدة رابضة على كتف التلة الذهبية المطلة على بحيرة لوغانو في مقاطعة تيشينو السويسرية. سيرة التنقل هي بحد ذاتها مفتاح لفهم كل ما نراه في متحف الأدباء. تلك الألوان الحية التي نراها في لوحات هيسه لما كانت قد وجدت لو بقي الكاتب في ألمانيا وربما لما كان أصبح رساماً بالأصل.
متحف البراءة لكاتب حي
أورهان باموك أراد أيضا أن يعطي الحياة لمتحف البراءة الذي جاء في روايته التي تحمل الاسم نفسه. قد تكون فكرة جديدة ومبتكرة. أن ينشأ متحف لكاتب ما زال حيا. هكذا ولدت فكرة متحف البراءة الذي افتتح أبوابه في نيسان 2012 في حي ايوغلو في اسطنبول. أراد باموك أن ينشئ في الواقع متحفاً طالعاً من الرواية نفسها، من أجواء اسطنبول السبعينيات وحياة طبقتها البرجوازية وأوجه يومياتها. اذ إن الرواية تحكي قصة كمال الذي ينتمي الى البرجوازية التركية والذي أغرم بامرأة من طبقة أدنى. لكن المرأة العاشقة اختفت منذ علمت بزواجه وهو لم يستطع أن ينسى حبه. وحين التقى بها مرة اخرى كانت قد تزوجت وصار يزورها في بيتها الزوجي ويسرق كل مرة شيئا من أغراض بيتها. إنه الغرام الذي يدفعه الى تملك أي شيء يتعلق بمن لم تعد له. تراكمت تلك الاشياء وتحولت الى مادة غنية لمتحف. ربما الفكرة لم تكن متحفا في بداية الامر، ربما كانت لهواً خطراً على رأس الكاتب استلهمها من معرض باغاتي فالسيكي الذي زاره مرات عدة في ميلانو أثناء كتابته لرواية متحف البراءة، أو كما قرأنا حينها كانت فكرة لتنفيذها مؤقتاً في معرض فرانكفورت السنوي للكتاب حيث كانت تركيا ضيفة الشرف عام 2008 ، فكر باموك بإقامة متحف براءة مؤقت فقط أثناء المعرض الالماني. إلا أن هذه الفكرة لم تتحقق في فرانكفورت وبقيت في رأس باموك لأكثر من سنتين وباشر بتحقيقها عام 2010 بمناسبة إعلان اسطنبول عاصمة أوروبا الثقافية ولم يفتتح إلا بعد عامين. وكي يستطيع الزائر الحصول على بطاقة دخول مجانية عليه أن يأتي الى المتحف حاملا رواية باموك بين يديه. هناك في إحدى صفحات الكتاب بطاقة ملصقة كان على موظف الدخول أن يختمها قبل الدخول. قد يجدها البعض طريقة مثيرة في مزج ما نقرأ بعالم حسي نراه ونلمسه. لكنها أيضا طريقة ذكية في بيع الرواية رغم أن باموك آنذاك كان قد وصل الى أقصى شهرته بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 2006 ورواياته تباع دون عناء! رغم ذلك ما زال حتى اليوم يُسمح لكل زائر يحمل الرواية بدخول المتحف مجانا.
متحف البراءة لا يحمل فقط جو رواية اورهان باموك بل أيضا جو المدينة اسطنبول. كأن باموك أراد أن يؤكد صورة المدينة التي يشتهيها والتي لم تعد. في المتحف تتحول كلمات الرواية الى واقع حسي، الى مادة تأخذ مكانها وتتوزع في فضاء هو أيضا يتحول الى واقع. متحف البراءة هو متحف الأحياء. انه متحف لتخليد شخصية روائية وجوّها الاجتماعي وطبقتها ووقع حياتها اليومي في مدينة تنبض ولا تنام، متحف يتعاطف مع شغف تملّك الحبيب وما يتعلق به لتوهّم جسر مفقود بالأصل بين الاثنين. متحف قد يكون هو المتحف الوحيد الذي يتعلق بكاتب ما زال حياً. بمعنى أنه تماما صورة لما يشتهي الكاتب أن يكون عليه.
إيمان حميدان
السفير – 22 اغسطس 2014