في النقطة الأخيرة التي تفصل الجانب الغربي من جبل سنجار عن الصحراء التي يسيطر عليها مقاتلو «داعش»، حيث تمركز مقاتلون كرد، جلست خجو إسماعيل التي جاوز عمرها السبعين، منتظرة قدوم الشاحنة لنقلها إلى الجانب السوري من الحدود.
تقول خجو وهي تمسح عينيها بيدين مرتجفتين: «مرة أخرى هناك ناجون سيحملون روح الشعب الأيزيدي إلى يوم القيامة».
لكن ابنها الثلاثيني ميسر خدر، بدا أقل تفاؤلا وهو يلخص مشهد الكارثة التي حلت باتباع الديانة الأيزيدية في العراق على يد الدولة الإسلامية: «خذلنا من كان عليه أن يحمينا، انسحبوا وتركونا وحدنا نواجه الطوفان.. خاننا أبناء عشائر طالما كنا نتصور أنهم إخوتنا».
يوشك خدر أن ينهار من الأسى وهو يتذكر تفاصيل المأساة التي حلت بمواطنيه: «وضعوا 300 ألف أيزيدي في مصيدة لم يعرفها شعب من قبل، تحولت قرانا إلى مسلخ كبير، فمن كل اتجاه حاصرونا وهم يطلبون رؤوسنا وشرفنا.. لم يكن أمامنا غير هذا الجبل القاسي».
جبل سنجار كان الملاذ الوحيد للنجاة من الموت قتلاً على يد مسلحي الدولة، وللخلاص من «غزوات» ظلت تتوالى على البلدات والقرى الأيزيدية المتهم أهلها «بعبادة الشيطان» والذين دفنوا بعد «عروض قتل جماعية» في مقابر في ضواحي القرى على يد مسلحين ينفذون بفرمانات تبيح نهب كل ما يقع بين أيديهم وسبي كل امرأة يشتهونها، وفق شهادات عشرات الناجين ممن كتب لهم الخلاص.
لكن الجبل الصخري الممتد لمسافة 75 كيلومتراً، والذي استقبل نحو 30 ألف عائلة، حملت كهوفه ودروبه الموت جوعاً وعطشاً لمئات الفارين من جيوش دولة الخلافة التي أباحت لنفسها إنهاء وجود شعب في أرض ظلت موطنه الأول آلاف السنين.
إبادة على وقع الانهيار
حدث كل ذلك خلال ساعات، حين تخلت قوات البيشمركة الكردية عن مواقعها بعد صدور أوامر من قياداتها بالانسحاب من معركة بدت غير متكافئة مع مئات من مقاتلي الدولة الإسلامية المعززين بأسلحة استولوا عليها في 10 حزيران (يونيو) حين سيطروا على مدينة الموصل وغنموا كل ما خلفه الجيش العراقي من معدات.
يقول وحيد خليل، وهو أيزيدي شارك في القتال: «بعد منتصف الليل وجدنا أنفسنا وحدنا في المعركة، حين انسحب البيشمركة من دون أن يبلغونا.. قاتلنا في سيبا شيخ خدر وكرزرك (جنوب سنجار) أكثر من أربع ساعات، لكن كل شيء انهار مع نفاد الذخيرة واستمرارهم في قصف البيوت بالهاونات.. أجبرنا على ترك مواقعنا لإنقاذ عوائلنا».
يؤكد مسؤولون في قوات «حماية الشعب» الكردية السورية، أن 700 عنصر من البيشمركة انسحبوا من نقاط تمركزهم في بلدة ربيعة ومحيط سنجار ولجأوا إلى الجانب السوري من الحدود عبر تل كوجر ومناطق أخرى. تتطابق تلك الرواية مع شهادات نازحين أيزيديين ومقاطع فيديو تظهر مقاتلين كرداً يعبرون الحدود العراقية السورية بعرباتهم على رغم مناشدات مواطنين لهم عدم الانسحاب والاستمرار في القتال.
أمام ذلك الانهيار وزحف عشرات الآلاف من الأهالي المرعوبين إلى الجبل، كان القتال مستحيلاً، فانتشرت عشرات المقاتلين على السفوح المطلة على المدينة لمنع تقدم مقاتلي الدولة نحو الجبل، الذي غصت دروبـه بالنـازحين المنـهكين ممـن تـمكنـوا مـن الفرار.
يتابع خليل: «قبل الفجر رأينا أضواء سياراتهم التي تحمل أسلحة متوسطة وهي تدخل سنجار، عشرات منها تقدمت في طوابير طويلة، هؤلاء قتلوا كل من صادفوه أمامهم من أيزيديين وشيعة.. بعد ساعات نقلوا الأسلحة المتروكة ونهبوا كل شيء ذي قيمة وقع بين أيديهم وحملوه باتجاه مدينتي تلعفر والموصل».
استمر النهب في اليومين التاليين، وهو ما أعطى شعوراً بأن الدولة الإسلامية لا تفكر في البقاء في المدينة، وأنها تخطط للرحيل، لكن ذلك كان يرتبط بتحرك قوات كافية من البيشمركة إلى المدينة لاستعادتها «وهو ما لم يحدث أبداً».
الهروب من الموت إلى الموت
الهروب الجماعي لأهالي المدينة تحت رعب اقتحامها، لم يترك أي فرصة للتفكير بحمل ما يمكن أن يحتاج إليه النازحون في رحلتهم نحو المناطق الآمنة. لم يتذكر معظمهم أن الجبل لا تتوافر فيه المياه ومصادر الغذاء.
يقول دخيل كريت: «خرجنا تحت تهديد الموت بحواس متعطلة عن التفكير بأي شيء غير النجاة بأرواحنا، نسينا كل شيء دون ذلك، ووجدنا أنفسنا بعد ساعات وقد هربنا من الموت إلى الموت».
وسي عيدو، التي هربت مع عائلتها من تل عزير قبل اقتحامها بدقائق وقضت خمسة أيام في المشي قبل أن تصل إلى سورية، قالت: «كان القصف على رؤوسنا، لم يفكر احد بحمل قنينة ماء أو بعض الطحين والرز.. نفد الخبز في اليوم الأول، وقضينا ثلاثة أيام بلا طعام، كان الموت أقرب إلينا من أي شيء آخر».
«
كان اليوم الأول مشحوناً بمشاعر متناقضة، الرعب من الموت، الدهشة من هول الحدث، الخوف من الآتي.. ظلت الأسئلة تنهال من دون إجابات، كيف حدث ذلك؟ ومن بقي في المدينة؟ ومن لم ينج من العائلة؟» يقول ياسر نواف، وهو ناشط مدني أيزيدي: «كان البعض يتهم قوات البيشمركة ببيعهم لداعش».
في اليوم التالي زاد حجم الغضب مع انتشار أخبار «القتل الجماعي وخطف النساء»، ومع إدراك النازحين أنهم مهددون بالموت عطشاً وجوعاً، وأن البيشمركة تركت كل المنطقة تسقط بيد التنظيم، الذي أصبح يطوق كامل جبل سنجار.
مع مرور الساعات من دون ظهور «المنقذ» وتوقف عمل أجهزة الهاتف، بدأت العوائل تتوزع في مجموعات على جوانب التضاريس الجبلية التي تمنح بعض الظلال وتبتكر أساليب لإطالة قدرات أفرادها على مقاومة الموت في بيئة قاسية تتجاوز درجات الحرارة فيها 45 درجة مئوية في النهار.
البعض كان يبحث عن المياه في مكائن السيارات المتروكة في مداخل الجبل، وآخرون في آبار لم يتم استخدامها منذ سنوات وفي ينابيع نتنة.
قطعان الغنم التي وصلت سالمة تم ذبحها في مساء اليوم الأول واكل لحومها نية أو بعد شيِّها على النار إذا توفر الحطب. في الأيام التالية كانوا يطحنون ما توافر من حنطة مع المياه ويطعمونها للأطفال لسد شيء من جوعهم.
يقول رستم رمبوسي، وهو معلم ابتدائي أمضى 26 ساعة مشياً مع شقيقه الأصغر وزوجته وابنتيه للوصول من قريته إلى الجبل: «كنا مهددين بدوريات المسلحين، وجدنا سبع جثث في موقعين مختلفين على الدروب التي سلكناها».
«
وصلنا في أول الليل منهكين نتحسس المكان بأيدينا، وجدنا عوائل تفترش الأرض، إذا ما اقتربت كان يمكنك أن ترى أناساً ممددين على طول الجبل لا تعرف هل هم نيام أم موتى غادرتهم الحياة.. تمددنا قرب عائلة أشعلت ناراً بعد أن جمعت بعض القش.. في ساعات الليل المتأخرة ظل صراخ الأطفال الجائعين والخائفين يكسر الصمت الذي كان يلف الجميع».
يتابع رمبوسي: «صباح اليوم الخامس، رأيت ابنة عمي. كانت تضع طفلها الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول بين يديها وتبكي بشدة، كان قد توقف عن التنفس، بعدها بساعات تمكنّا من إقناعها بدفنه بين الصخور، فلم يكن هناك من يستطيع حفر قبر له».
في الأيام التالية ظل النازحون ينتظرون خبراً لم يأت عن فتح طريق أمامهم للنجاة وعن طائرات الإغاثة المنتظرة، وظلت أحاديثهم محصورة في الأماكن التي يمكن الحصول منها على المياه، وعن عدد أفراد العائلة المفقودين وعدد القتلى والمتوفين في الجبل. ومع الإنهاك الشديد وتراجع القدرة على المشي «بدأ اليأس يدفع كثيرين من الأطفال وكبار السن للاستسلام للموت».
ووفق مصادر برلمانية وأخرى إعلامية قدمت إحصاءات اعتماداً على اتصالات تلقتها من نازحين في الجبل، توفي في الأيام الثلاثة الأولى للنزوح نحو 40 طفلاً وأكثر من 27 شيخاً بسبب نقص المياه والأغذية وعدم توافر الأدوية.
لكن الأرقام تضاعفت مرات في الأيام التالية، وقدّرها مقاتل أيزيدي تواجد لأيام قرب مرقد شرف الدين المقدس لدى الأيزيدية في جبل سنجار، حيث دفن الكثير من الضحايا بالمئات، بقوله: «كلما مضيت في طريق تجد أحجاراً مرمية فوق جثث، لا يمكنك أن تحصيهم… لا تكاد تجد عائلة كبيرة لم تخسر شيخاً أو طفلاً لها».
في انتظار الطائرات
قبل نهاية الأسبوع الأول لسقوط سنجار، ومع تزايد الأنباء عن وصول الطائرات العراقية وهي تحمل الأغذية والمياه، تصاعدت قدرات النازحين على مقاومة الموت.
قال نايف كريت: «شكل ذلك بارقة أمل، انتظرنا وصول مواد الإغاثة ستة أيام، مات الكثيرون لكني نجوت بعائلتي، كنت أركض مئات الأمتار وراء ما تلقيه الطائرات من بعيد، كنا نلوح لها ونعدو وراءها في كل اتجاه.. كانت المواد تتلف حين ترتطم بالأرض، لكنها أنقذت حياة الآلاف».
كريت اعتبر أن توالي وصول الطائرات والقرار الأميركي بالتدخل كان حبل النجاة الأخير: «قضينا 11 يوماً، كان الأطفال يسقطون كأوراق الخريف وهم يمشون حفاة على الدروب الصخرية، كثيرون ناموا فوقها ولم يستيقظوا».
فتح طريق الخلاص
بعد سبعة أيام من سيطرة الدولة الإسلامية على كامل منطقة سنجار، باستثناء جبلها، تمكن المقاتلون الموالون لحزب العمال الكردستاني من تأمين ممر يمتد بضعة كيلومترات من الصفحة الغربية للجبل إلى الحدود مع سورية، ما مكن أكثر من 100 ألف أيزيدي من النجاة.
يقول رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي صالح مسلم: «بعد أقل من اسبوع على فتح الممر (9 آب)، نستطيع الحديث عن 100 ألف إنسان عبروا من هناك إلى سورية، معظمهم عادوا ودخلوا العراق عبر معبر فيشخابور، لكن نحو 12 ألفاً استقروا في مخيم داخل سورية».
مسلم أكد في 21 آب أن «تدفق النازحين مستمر بشكل يومي، فهناك آلاف آخرون مازالوا عالقين في الجبل».
خضر دوملي، وهو ناشط أيزيدي، أكد المعلومة ذاتها: «مازال الآلاف ينتظرون من ينقذهم على الجبل، لا يمكن تحديد رقم، هناك من لا يستطيع المشي، وهناك مرضى عاجزون، وهناك من لا يريدون العودة ويفضلون البقاء والانضمام إلى عشرات المقاتلين الأيزيديين الذين يواجهون بأسلحة بسيطة مقاتلي داعش ويمنعون اقترابهم من مرقد شرف الدين المقدس في الجبل».
على رغم الخلاص الذي شكله فتح ذلك الممر لنحو 150 ألف إنسان حوصروا في مصيدة كبيرة لأسبوعين بعد أن حولت بلداتهم إلى مسلخ كبير، فإن المحامي هادي خلف، وهو أحد الذين قرروا البقاء في الجبل، يخشى أن يشكل ذلك الطريق «بداية نهاية الأيزيديين في أرضهم» وبداية رحلة عذاب طويلة إلى المجهول.
يقول خلف وهو يضع سلاح الكلاشنيكوف بين يديه: «نحن هنا منذ آلاف السنين، ولا يمكننا أن نصنع وطناً جديداً لأنفسنا.. مصيبة كبيرة أن نكمل بأيدينا المخطط الذي رسم لإبادتنا، مصيبة أن نرحل مستسلمين للجيوش القادمة من ظلمات الصحراء».
لكن صوت خلف لا يكاد يكون مسموعاً وسط الرعب الذي خلقه مقاتلو دولة الخلافة ومعادلة «القتل أو الرحيل» التي فرضوها في سنجار ومحيطها الصحراوي الذي يسهل اختراقه بوجود مئات المقاتلين من العشائر العربية المساندة للدولة طمعاً بغنائم غزواتهم، مقابل غياب الدعم التسليحي من إقليم كردستان للأيزيديين.
يلخص الباحث ثاري قادر المشهد بالقول: «لقد تركت سنجار وحدها في مواجهة وحوش جائعة تنهش كل ما تصادفه في طريقها، هذه الوحوش تزداد عدداً وقوة كل يوم، حتى صارت تهدد كل المنطقة، ولم يعد مجدياً محاصرتها أو العمل الإفرادي للقضاء عليها».
عن الحياة