قادر عكيــد
داهمته يد الأقدار على حين قصيدة، ولم تترك له المجال ليسقي كلمات آخر قصيدة كتبها عن محبوبته “قامشلو” التي طالما تغنى بها في قصائده، وهو القائل: “إن لم تروني في شوارع قامشلو، يمكنكم حينها زيارة قبري”. قبره الذي تتزين به الآن تلة من تلال حي “الهلالية”، وهو يحرس –من خلالها- بعبق أشعاره كلّ من تركهم خلفه منذ سنة في شوارع اعتادت وقع خطواته وموسيقى كلماته.
هو الشاعر المهندس، وأمير القصيدة الكردية الغنائية فرهاد عجمو، من مواليد مدينة القامشلي عام 1960، بدأ كتابة الشعر في بداية السبعينيات؛ مذ كان طالبًا في المرحلة الثانوية، حين استشعر أن لا مؤنس له في غربة هذه الحياة، سوى القصيدة التي ستغدو -فيما بعد- جزءًا من كله.
تعرف عجمو منذ ريعان أحاسيسه إلى الفن، وعزف على أكثر من آلة وترية، وهذا بدوره أثر في حسه الفني والأدبي، وحبكة مشاعرٍ تنتفض أنى مرّ بسائلٍ، أو اشتم أريج وردة، أو لاح له طيف الحبيبة التي بقيت “دون عنوان” حتى بعد رحيله.
تربع على عرش القصيدة الكردية الغنائية، طوال أربعة عقود من الإبداع، كتب خلالها المئات من القصائد التي توزعت على سبع مجموعات شعرية هي: (المصائف)، و(بعد ماذا)، و(حبك)، و(المهد)، ومجموعتين شعريتين للأطفال و(الصرخة الأولى)، و(الأوراق البيضاء)، إضافة إلى ديوان مشترك مع الشاعر صلاح محمد بعنوان (وجهًا لوجه).
تزاحمت حناجر الفنانين على نصوصه الشعرية التي كتبها بإيقاع عذب ومدهش، عبر لغة مرهفة، لتترجمها ألحانًا شجية، سرعان ما تجاوزت تخوم الوطن ليترجمها المترجم العراقي صلاح برواري، في كتاب بعنوان (فصول الحب)، صدر عن دار الينابيع عام 2018، ومن أجوائه:
بعد أن أخرجوا/ الورقة البيضاء من جيبي/ قالوا لي:/ لو لم تكن الورقة بيضاء/ لكانت تهمتك أخف!
امتازت قصائده بالنزعة الإنسانية، والانحياز إلى الفقراء والعامة الذين خذلهم الساسة، وكذلك الوقوف على ما ينخر في عظام المجتمع من عادات وتقاليد وأمراض، ولعل قصيدته المشهورة (مرض السرطان) تؤكد ما ذهبنا إليه، إذ يقول فيها:
لأجل آمالي أقتل الموت/ أهدهد خوف المستقبل/ تراني فراشة..!/ نسرينًا حينًا/ أشق أكفان السنين.
حين انتفضت مدينته، عام 2014، ضد النظام في تظاهرات عارمة وصل صداها حتى دمشق وحلب، دفع خلالها الكرد عشرات الشهداء الذين قتلهم النظام بدم بارد؛ كتب عجمو:
قامشلو../ بين خرائب آذار/ وبمحاذاة بركة حمراء/ كانت تذرف/ دموع الأمل/ عند قدمي هرمز..
كان من أوائل المنخرطين في التظاهرات الشعبية للثورة السورية، لذا أدرِج اسمه في قائمة المطلوبين من قبل السلطات، ليكون ذلك سببًا في منعه من السفر إلى دمشق للمعالجة، بعد إصابته بمرض السرطان.
انكبّ على كتابة القصيدة السياسية، وسخر قلمه من أجل قضية شعبه، ولم يأل جهدًا في هجاء ونقد الساسة الذين تركوا رسالتهم السامية، والتهوا بمصالح شخصية، وأفكار حزبية ضيقة، داعيًا إياهم إلى وحدة الصف والكلمة. يقول في قصيدة (الكرسي):
تضحكون يا سيدي/ بينما نبكي من الفجيعة.. كلنا أسرى/ فلا تبيعونا بثمن بخس.
ابتعد في معظم القصائد التي كتبها عن الغموض والإبهام، بل امتازت بالبساطة والمباشرة والواقعية، وكان يقول دومًا: “إن الشعر الذي لا يفهمه العامة ليس جديرًا بالكتابة والبقاء”.
كان صاحب مدرسة شعرية، ترتقي إلى مصاف ما كتبه شعراء الكرد العظام، أمثال خاني والجزيري وجكرخوين؛ إذ كتب للحب والسياسة والأخلاق والدين والمرأة، والأطفال.
كتب بلغته الأم (الكردية) بجرأة، بالرغم من أنها كانت تشكل خطرًا على من يكتب أو يقرأ بها، في زمن موسوم بالمداهمات، والاعتقالات التعسفية أو الكيدية، حيث كان ضبطُ قصاصات بأحرف كردية تهمةً ترتقي إلى درجة الخيانة، واقتطاع أجزاء من الوطن وإلحاقها بدولة أخرى معادية.
صوت الشاعر فرهاد عجمو الخارج من أعماق الجرح، جعله يحصد جوائز كثيرة في مجال الشعر، منها جائزة الشاعر الكردي جكرخوين للإبداع الشعري 2013 التي منحه إياها الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد، إضافة إلى جائزة الشعر الكردي، وجائزة الأديب عبد الرحمن آلوجي، وشهادة تكريم من أسرة الشاعر أحمد بالو، لتغدو هذه الجوائز دافعًا للقائمين على الشعر في الجزيرة إلى إعلان جائزة باسمه: (جائزة الشاعر فرهاد عجمو للإبداع).
يقول عن رحلته الشعرية: “ألوذ بهشاشة الشعر ورهافته، كي أعبّر عما يجول في أعماقي من أزمات ومكابدات، وكي أترجم الخيبات، وما أكثرها، أمزج بين الوطن والحبيبة في منحى شعري جذاب، ومعظم الأحيان أغازل وطني، وكأنني أغازل حبيبة جميلة، عصية على الحضور؛ حالت الأقدار دون وصالها”.
نعم، حالت الأقدار دون وصالها، وفيما بعد، تدهور وضعه الصحي بسبب وجود ورم في دماغه، ليحول المرض –أيضًا- بينه وبين الحبيبة، والأصدقاء، والقصائد، وليرحل الشاعر والمهندس فرهاد عجمو بهدوء، تاركًا خلفه إرثًا شعريًا، وغنائيًا أغنى المكتبة والفن الكرديين بمئات القصائد.
جيرون