تحويل القصيدة إلى معادلة رياضياتية

 

 

 

 

 

 

 

 

في زمن المعلومة السريعة، وانتشار وسائل التواصل الالكتروني، فقد الكتاب رائحته بالنسبة إلى أجيال كاملة. وفي القرن الحادي والعشرين الذي افتِتحَ بالحروب منذ الحرب على العراق عام 2003، واستمرّ جنون سعيرها حتى اللحظة في ساحات الشرق الأوسط، وبالأخص سوريا اليوم، فقدَ الشِعرُ الكثير من إغرائه. من هنا تتأتّى المغامرة التي اختارت دار «النايا» خوضها في طباعة ونشر كتاب «بلاغة الانزياح في شعر محمود درويش- قراءة نسقية» لمؤلفه الدكتور الحسن بواجلابن. إذ يمكن أن تكون متعة فردية لباحث ولدارسٍ التعمّق في دراسة قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941-2008) إلى هذا الحد التفصيلي الدقيق، لكنها تبقى مغامرة من دار النشر إصدار دراسة تحليليّة إلى هذا الحد الذي ينحو بالكتاب إلى مكتبات المختصين والدارسين وفي (544) صفحة من القطع الوسط، وهي دار مُهجّرة إن صحّ القول، غادرت سوريا مع اشتداد الأزمة السورية، لتجد في بيروت مكاناً يضمها إلى مطاحن دور النشر.
يقول الحسن عن مُؤَلَفهُ: (ينحصر موضوع بحثنا في دراسة أشكال الانزياح في شعر محمود درويش في ضوء القراءة النسقية، أي شبكة من العلاقات تننظم فيها مختلف الصور البلاغية وتتفاعل، وتمثّل حينئذ كل صورة بلاغية نسقاً انزياحياً مًحدداً. وهو ما سيُتيح لنا استخلاص الأنساق المُميّزة لشاعريّة درويش. وهي أنساق مرتبطة بأسئلة كل مرحلة شعرية ومُستجداتها التاريخيّة والسياسية، من أجل التأريخ للمراحل الشعرية اعتماداً على الأنساق المُسيطرة، وتجاوز تاريخ المضامين).
التعريف السابق، على ثقله الفكري، لا يشي بالتحليل الرياضياتي الإحصائي الذي يفاجئ القاري في صفحات الكتاب، حيث يُفكك الحسن قصائد درويش ليجدولها، مُحصياً التكرار فيها وعدد كلماتها وحتى حروفها. راصداً لأربع مستويات من الانزياح الشعري هي بحسب ما يذكر: (الانزياح الصوتي- الانزياح التركيبي- الانزياح الدلالي- التناص). مستويات يرصدها المؤلف في أربع أبوب هي: (مرحلة النفي داخل الوطن- بدء خروج الشاعر من الوطن- حصار بيروت- ابتعاد الشاعر عن الوطن ثمّ عودته إلى رام الله في فلسطين). علماً أنّ الحسن بواجلابن بحث كل مستوى من مستويات الانزياح السابقة في فصل خاص من كلّ باب، وهو في الباب الأخير يتوسّع في تناول التناص ليدرسه (بأقسامه الديني والصوفي والتاريخي والأسطوري والأدبي).
«بلاغة الانزياح» مغامرة بحثيّة تذهب بشعر درويش إلى تحت المجهر البحثّي العريض، تعرّيه من رومانسيتيه، من سحره كمجهول يكتسب قوته من ألعاب الشعر واللغة التي لا نعرف كنهها نحن القرّاء، لكن الحسن هنا يكشف ألعاب الساحر أمام جمهور اللغة العربية، في عملٍ دقيق غايته إبراز المتانة والقوّة اللغويّة والفكرية في قصيدة درويش، لكنه لوسعه وتجرّده البحثي يُبهتُ القصيدة. وتخبو رغبة القارئ في الغوض ضمن كلمات درويش بعد أن يجدها مصفوفةً ضمن اعمدة وجداول تعدّ الحرف والفاصلة والكلمة. تعدّ التكرار والمحذوف، تقيّم الوزن الموسيقي وتخبر عن آليات صناعته ورسم الإيقاع في القصيدة ومن خلالها، حتى نصل مع الحسن إلى النسب المئوية حين يعرض- مثالاً- في الفصل الرابع من الباب الأخير أنّ بحثه العلمي أفضى إلى كون نسبة التناص الصوفي في شعر هذه المرحلة التاريخية هو (29.20 %)، وأنّ التناص الديني بلغت نسبته (26.54%) وهكذا فعل مع كل مرحلة من المراحل التاريخية الأربع. فوجدنا أنفسنا نغني مع درويش:
(يا امرأة / يا معرفة/ ما حاجتي لكما/ لماذا لم تموتا مثل موت الآلهة/ من أطلق الماضي عليّ كأخطبوطٍ حول روحي التائهة) من ديوان «هي أغنية».
في الواقع، يُشهد للحسن مغامرته التي تذكّر كلّ قارئ بجماليات اللغة العربية، لفظاً ورسماً ومعنى ودلالة، في بحث يرصد الصوتي في الكلمة، ودلالة رسمها، وتكرار حروفها، بل وحتى التشكيل من فتح وضم وسكون. بحثٍ نقدي أعاد التذكير ببحور الشعر العربي، وجمالياتها وغايات حضورها في بناء القصيدة، ضمن سياقٍ فكري متماسك، فيقول الحسن على سبيل المثال: (في قول الشاعر درويش: «… ولا تضعوا على قبري البنفسج، فهْو/ زهر المُحبطين يُذكّر الموتى بموت/ الحبّ قبل أوانه»، نجد الحذف في كلمة «فهْو»، حيث سكّنَ الشاعر حرف الهاء وبذلك حذف حركتها. فالتسكين حذفٌ لإجراء الصوت الذي كان في الضمة. ويوازي التسكين سكون المقبرة وسكون البنفسج لارتباطه بالمُحبطين، إذ يجتمع كل ذلك في الخلو من الحركة. وحذف الحركة ضرورة شعريّة صانت التفعيلة الثالثة «متفاعلن» الممدودة من الاختلال، وحققت الضرورة الشعرية انزياحاً شعرياً).
إعادة البريق إلى اللغة العربية من باب البحث النقدي في المتن الشعري يتناسب وصورة الغلاف التي صمّمها مناف عزام، واختار لها مقطع البداية من قصيدة درويش الشهيرة: (سجّل أنا عربي).

يارا بدر / عن القدس العربي