طه خليل
تفور حرارة لا تطاق. الكل يحاول الوصول إلى البيت. سيارات النقل الحكومية مكدّسة بالعاملين والموظفين، تسرع في جميع الاتجاهات. يتأفف الناس من الحر. المارة يحدّق بعضهم بالبعض الآخر بغضب واضح، وما إن يلمس أحدهم كتف الآخر، حتى يستل سكّيناً من التبرم، ويشعل حرباً في الشارع.
يسير يارو من شارع إلى آخر دونما هدف. لديه الوقت الكافي للتسكع، على الرغم من الجو الخانق، واليأس الواضح في عيون المارة. إسفلت الشوارع يلتصق بالأحذية، وبقلوب البشر.
ثمة نقص في كل شيء. المواد التموينية لا تكاد تتوافر في الأسواق. الأمطار خفّت في المناطق الزراعية، وتحوّل الفلاحون إلى تجّار يعلكون مرارة الخسارة، وفي أيديهم سبحات يعدّون على حبّات خرزها الألوف التي سرقها منهم تجّار حلب والشام، وهاجر أولادهم إلى المدن الكبرى ليعملوا في المطاعم والملاهي الليلية، فتسلبهم الراقصات أجورهم اليومية بعد ليلة يمضونها بين أفخاذهن المترهلة. كثيراً ما تصل جثث هؤلاء الأبناء إلى ذويهم في الجزيرة، بعد أن يتعرضوا للقتل على أيدي القوّادين وسكارى الليل الذين يتبارون في اقتناص الراقصات من الملاهي، مستخدمين السكاكين والمسدسات ضد الخصوم. أولاد الفلاّحين غيورون على عاهراتهم، كما لو أنهنّ زوجات حقيقيات. أو هم يموتون في ظروف غامضة، ولا أحد يفسر سبب موتهم المفاجئ. تصل جثامينهم إلى الجزيرة فيستقبلها ذووهم بسيارات الـ”بيك آب” اليابانية المهترئة التي اشتراها الفلاّحون في سنوات المطر الغزير، فتسير خلف الجثامين طوابير من تلك السيارات لتتوجه إلى المقابر. هناك يبدأ قادة الأحزاب بإلقاء الخطب الحماسية على الجماهير، مندِّدين بالحكومة وبسياساتها العنصرية التي جرّدتهم من جنسيتها، ومنعتهم من التحدث بلغتهم الكردية. البعض يهمس أنها هي التي أوقفت هطول الأمطار في مناطقهم، لتدفع بأبنائهم إلى المغادرة والبحث عن لقمة العيش بعيداً من أماكن سكناهم؛ تالياً الانشغال بتأمين لقمة العيش بعيداً من التفكير في السياسة والمطالبة بالحقوق الكردية.
يحمل الكائن خوفه وقلقه، من الصباح حتى غفوته اليابسة في الفراش. منذ سنة ونصف السنة تبدو الأمور ضبابية وغير واضحة. البلد الذي ينادي بالعروبة والوحدة العربية، يقف إلى جانب إيران الفارسية في الحرب الدائرة في الشرق بينها وبين العراق العربي. العراق يرسل بين الحين والآخر سيارات مفخخة لتفجيرها في شوارع العاصمة دمشق. و”الأخوان المسلمون” ينشطون في تحركاتهم العسكرية ويقومون بتفجيرات عشوائية في المدن والبلدات. هناك من يؤكد أن هذه التفجيرات هي من فعل السلطة التي تحاول أن تُظهر هذه الجماعات كمجموعات إرهابية فحسب؛ تالياً تأخذ الضوء الأخضر من الكل لارتكاب الفظاعات ودكّ المدن بالطائرات والمدافع والرشاشات الثقيلة بحجة الدفاع عن الشرعية التي ينتهكها ظلاميون يتخذون من الدين ستاراً لأفعالهم وجرائمهم، من دون أن يتساءل كثيرون عن سبب مقنع لما تقوم به هذه الجماعات!
ثمة قلق عارم بين الناس. وخوف من القادم.
ينام البلد المثقل بأحذية العسكريين كل يوم على تراتيل الحرية والديموقراطية، ويصحو على أصوات السياط وصعقات الكهرباء في السجون. لا أحد يقدر أن يعبّر عن رأيه حتى لو كان الأمر يتعلق بثمن علبة زيت أو تبغ. أما الحديث عن سياسات البلد، أو ما يتعلق بشخصياته السياسية، فتلك مخاطرة تودي الى الانتحار حتماً أو الموت تحت التعذيب في أقبية بناها الساهرون على أمن البلد، بالتعاون مع رجال غامضين من كوريا الشمالية وألمانيا الديموقراطية وبقية الدول الإشتراكية الساهرة على أمن ديكتاتوريات بغيضة تنادي بالاشتراكية وتتحدث عن السلم العالمي، في الوقت الذي توزع الرعب والموت والدمار في بلادها، ويبدو البلد كسفينة متعبة وسط عواصف مرعبة.
* * *
جاء يارو إلى دمشق منذ ثلاثة أيام. لقد قرر أن يجد بيتاً يستأجره ويسكن فيه، تاركاً وراءه طيوره، أهله، بلدته، غبارها، الصيف وأعراسه، مشاجراته مع نفسه، ومشاجرات الناس في ما بينهم. وتاركاً وراءه ثلاثين سنة من التردد والأحلام والبشر. تاركاً البحث عن آثار حوافر حصان حمله ذات فجر من دجلة إلى الشام.
إسماعيل الذي أجّره البيت، لم يمض أسبوع حتى استطاع أن يقيم صداقة حميمة معه. إسماعيل في العقد الثالث يعمل معلّماً في إحدى المدارس الثانوية الزراعية بدمشق. لم يستطع ممارسة مهنته كطبيب بيطري بيد واحدة. كان صعباً عليه أن يسيطر على هياج العجول والأبقار، أو حمل محفظته الطبية والتنقل من قرية إلى أخرى لمعالجة أمراض الحيوانات في مزارع الفلاّحين. لذا استطاع أن يعمل في تدريس مادة العلوم في إحدى ثانويات دمشق، كما رغب. فمهنة التدريس لا تحتاج الكثير من الأيدي، على ما يقول.
رجل طويل، أبيض الوجه، مستديره، بجسم متناسق وصدر واسع، وعرض واضح في منكبيه، يبدو مثل أبطال كمال الأجسام. لولا يده التي بُترت، لوجد عملاً آخر، ربما كمرافق لأحد الرجال المهمّين. ينحدر من عائلة قروية من قرى الساحل، سكنت دمشق في الخمسينات، حيث يعمل والده كمتطوع في الجيش، سيقضي إسماعيل في ما بعد، سنوات في السجن، بسبب انتمائه إلى حزب محظور، يدعو إلى الكفاح المسلح.
فور تخرج إسماعيل في كليته، التحق بالخدمة العسكرية، وبعد تسريحه من الجيش، وفقده لحبيبته هبة العواد في حوادث حماه ومعاركها، تزوج من صديقته بشرى العطار التي كانت في الحزب. لكن حياتهما لم تستمر أكثر من سنة ونصف السنة، حتى تم الطلاق بينهما، ومن يومها لا يتحدث إسماعيل قط عن بشرى، لا عن زواجهما ولاعن طلاقهما. بعدها أصرّ أهله على أن يتزوج، وأعطوه بيتاً للعائلة في حي الطبالة، يقع على طريق المطار وهو حي شعبي، يسكنه خليط من المسيحيين والمسلمين والدروز والأكراد بالإضافة إلى مهاجري الجولان، بعدما احتلته إسرائيل، وكذلك الكثير ممن هاجر من أرياف دمشق وغوطتها بعد انحباس الأمطار، ومواسم الجفاف التي أجبرت الكثير من الفلاّحين على ترك قراهم والتوجه إلى العاصمة، بحثاً عن لقمة العيش، فبنوا هناك بيوتاً صغيرة من الطوب، وسقفوها بصفائح التوتياء.
كان إسماعيل يخاطب يارو بلقب “كردي” بدلاً من اسمه، إشارة الى أن الخمرة قد باتت تفعل فعلها في رأسه. يحمل إسماعيل كل ليلة تحت سترته نصف ليتر من العرق ويأتي لزيارة يارو، أو بالأحرى ليشرب عرقه، ثم يقفل راجعاً إلى النوم في ساعة متأخرة، داسّاً أشياءه بين أشياء كلثومة.
“يارو! أرجوك لا تضطهدني مثل كلثومة – التي لا علاقة لها بأم كلثوم- دعني أجلس هنا في غرفتك أشرب هذا المرّ ثم أغادر. لن أزعجك أبداً، لن أجعلك تشعر بوجودي “ويغمز”: حتى لو أحضرتَ امرأة، فافعل ما تشاء، اعتبراني لست هنا!”.
“لكن لماذا لا تشرب في بيتك؟”، سأله يارو مستنكراً.
“يا أخي أنا أهرب من كلثومة. لم تعد لي قدرة على الطلاق والزواج للمرة الثالثة. لولا هذه اللعينة، التي بترتُها لاعتمدت على نفسي، لكني أضعف من أن أعيش بيد واحدة في هذا العالم المليء بالأيدي. شرب العرق يصفّي الذهن، ويهدّئ البال. في هذه اللحظات فقط يرى الشارب ما لم يره من قبل، أو ما كان يبعده عن مجال ذهنه. حين أشرب، أرى أطياف النساء تتزاحم قربي، وعلى الأرض لا أجد إلا جسد كلثومة. ذلك تعذيب لروحي يا يارو، في تلك اللحظات أشعر بأني قد خسرتُ حياتي كلها ولم أربح شيئاً من هذه الدنيا اللعينة. حتى يدي السليمة أشعر بها مبتورة، بل كما لو أن رائحة عفونة تنبعث من حولي”.
“أأنت الذي بترتَ يدكَ، كيف؟ قل لي يا عم إسماعيل، كيف؟!”، سأل يارو.
“هذه قصة طويلة، سأحكيها لك إذا وضعتُ أمامي الكأس”، أجابه.
نهض إسماعيل. غاب قليلاً، ثم عاد وهو يحمل بيده زجاجة العرق. وضعها على الطاولة الصغيرة، أخرج من جيبه كأساً وبعض المكسرات. ملأ الكأس ثم أفرغها في جوفه، التفت إلى يارو، قال وهو يمسح قطرات بيضاء صغيرة علقت بشاربيه:
“لا أقول لك تفضّل شاركني، لكنك عندما تريد مشاركتي، أحضر كأسك وأجلس أمامي أيها الكردي. فأنا لا أدعو أصدقائي لمشاركتي الشراب. إنهم أدرى بقلوبهم مني. أعرف أن القلب حين يعصره الحب وتشتعل فيه الحرائق لا شيء يريحه مثل الأبيض!”.
“ألا تريد سماع قصة يدي المبتورة؟!”، سأل اسماعيل.
“طبعاً، هات. قل لي!”.
“كان ذلك قبل ثلاث سنوات يا يارو، أتتذكر حوادث مدينة حماه؟”.
“تقصد الحرب مع الأخوان المسلمين؟”.
“نعم يا يارو. كنت في ذلك الوقت عسكرياً، كنا في البداية ننتشر في البقاع اللبناني، قبل بدء المعارك بأيام جمعونا واختاروا منا الأكثر قوة وعنفاً. كانوا يعرفوننا جيداً، هم يعرفون عنا كل شيء، يعرفون متى ولدنا ومتى أحببنا ومتى بدأنا نحبو، ومتى انضممنا إلى الأحزاب، ومتى نموت”. قهقه بصوت عال وهو يكمل: “بل إنهم ربما هم من كان يوافق على طلباتنا للانضمام إلى أحزابنا السرية، على كل حال هذه مسألة أخرى، لا علاقة لها بيدي. هناك بعد أن تم تجميعنا في اجتماع صباحي، قرأوا أسماء أكثر من مئة وخمسين مقاتلاً من الجنود، ليخرجوا ويصطفّوا في صفّين منعزلين، ثم نزل العقيد أبو الوحش (هيك كنا نسمّيه) وراح يسير بين صفوفنا ويشير إلى هذا وذاك. انتقى من بيننا هو الآخر نحو عشرين ضابطاً من أصحاب العضلات ومن لهم أجسام رياضية، وضمّنا إلى الصفّين اللذين تم فرزهم، كنت من بين هؤلاء. لقد ضرب بقبضته على صدري وقال لي: أنت… يا وحش، روح صفّ مع الأبطال. بعد هذا الفرز، أمروا الآخرين بالانصراف وركبنا (جنوداً وضباطاً معاً) في سيارات زيل عسكرية مغطاة، وتحركنا لا ندري أين كانوا يتوجهون بنا، كان الهمس بيننا يتصاعد:
سيأخذوننا إلى الجنوب اللبناني، إسرائيل ستهاجم بيروت.
بل ربما سنذهب إلى الجبل لتأديب قوات جنبلاط. لا بل سنذهب إلى بيروت الشرقية لمقاتلة الكتائب.
فجأةً جاء صوت من أول العربة يقول: يا شباب نحن راجعين عالبلد. نحن في نقطة المصنع الآن، على الحدود السورية اللبنانية.
خيم الصمت على الجميع. احترنا في أمرنا. ترى إلى أين نتجه؟
وصلنا البلد. أخذونا إلى قطعة عسكرية قرب دمشق، وأدخلونا قاعة كبيرة كانت تغص بالجنود، وبعض الضباط، كانت قاعة طعام، للمرة الأولى أرى طعاماً عسكرياً بهذا الكرم. لحم من كل الأصناف، وحلويات بالسمن العربي وعلب عسل صغيرة. وقتها التفت إليَّ الملازم عدنان (استشهد في حماه) وقال لي: “شو يا زلمة، هذا الدلال مو ببلاش،، يبدو راح نودع اليوم”.
لم نكد ننتهي من الغداء حتى سمعنا صوتاً يدعو إلى الاجتماع في الساحة العامة، فتراكضنا. نسيت أن أقول لك إننا كنا طوال هذا الوقت نرتدي اللباس العسكري الميداني. هل تعرف ماذا يعني يا كردي؟ يعني خوذة على الرأس وبارودة باليد، وأمشاط عدة من الطلقات الإضافية، وحربة ومطرة ماء وقناع واقٍ للغازات السامة. في الطريق إلى الساحة سمعتُ أصوات بعض الجنود:
“سيأخذوننا إلى حماه يا شباب”.
ما إن سمعت باسم حماه حتى ارتخت ركبتاي، أنا أحب مدينة حماه، هناك كان قلبي مع موعده الأهم، هناك أحببت هبة، هبة عواد، كانت تدرس في كلية طب الأسنان، هي من أسرة حموية، لم تكن متدينة قط، هبة كانت القنديل الذي أضاء لي ليل البلد كله، لقد أحببتها بعنف وقوة، ومن يحب امرأة يحب مدينتها، شعرت دائماً أن الأنين الحموي الذي ينبعث من النواعير إنما هو ناي حب، بيني وبينها وتلك العنفات التي تدور من سنين إنما تسحب نياط قلبي نحوها، وتربط مصيري بمصيرها.
شعرتُ أن العاصي نفسه ينبع من شراييني ويحفر مجراه في ساحة الاجتماع تلك، فيدفع أمامه كل هؤلاء الجنود و”أبو الوحش”، وبقية الضباط الذين كانوا يقفون وهم يعلّقون رتبهم ونياشينهم وأعلام الدول العربية التي تزيّن بذلاتهم العسكرية. لم أعد أتذكر كثيراً ما قالوه لنا، لكنهم تحدثوا عن “الأخوان المسلمين” وما يقومون به من تفجيرات في البلد، وقالوا إنهم يريدون ربط البلد بالولايات المتحدة الأميركية والامبريالية العالمية. صحيح أنني لا أحب الامبريالية ولا الولايات المتحدة الأميركية ولا حتى “الأخوان المسلمين”، لكنني أحب هبة، وهبة تعني لي شوارع حماه، وتعني حيّ الحاضر، وحيّ المناخ والمرابط والكيلانية وسوق الشجرة والنواعير والعاصي، والقلعة. هبة تعني لي البلد كلّه، وليس فقط حيّ الكيلانية الذي تسكنه.
لا أدري كيف انتهى الاجتماع، لكني وجدتُ نفسي أصعد إلى طائرة هليوكوبتر مع بعض الجنود. ما إن ارتفعت بنا الحوّامة حتى أيقنت إنا “لاحقين بقيصرا”، كما كان يقول امرؤ القيس شاعري الكبير. كانت الطائرة ترتفع ومعنوياتي تهبط، تقترب من سهول حماه وكان قلبي يقترب من حي الكيلانية، من نافذة صغيرة كانت تنفتح على حياتي كل مساء، الطائرة التي تحمل الجنود إلى روائح البارود ودخان القنابل، تقرّبني من رائحة شعر هبة”.
توقف إسماعيل، أشعل سيجارة، وملأ كأسه من جديد، وشربها دفعة واحدة. كان يارو صامتا لا يتحرك كما لو أنه حجر هناك. بعين فضولية يتابع إسماعيل وحركات يده، وتبدلات ملامحه، وهو يروي قصة، يبدو أن لا نهاية لها.
تذكر إسماعيل كل تلك اللحظات المريرة، وهو يغمض عينيه، في حين بقي يارو هادئاً يقتله الفضول لما حدث.
وصل الجنود إلى أطراف مدينة حماه، هناك هبطت الطائرة إلى جانب الكثير من الحوّامات الحربية، والمجنزرات. قبل توجههم إلى ساحة الاجتماع تمّ تفتيشهم بدقة، وأخذوا منهم الأسلحة الحربية، حيث كان قائد عسكري كبير في انتظارهم. هناك اصطفّوا في صفوف متراصة، وهم يهتفون ويقسمون على الدفاع عن البلد الذي لن يهزم أمام المؤامرات الامبريالية. أما إسماعيل فقد ظل ساهياً عن كل ما يحدث من حوله، وعينا هبة أمامه بشوقهما القديم. إسماعيل الذي ترك هبة في لحظة من أشدّ لحظات الحب، كان قد وعدها بأن يتقدم لخطبتها بعد أن ينهي خدمته في الجندية، وتكون هي قد أنهت تعليمها أو تكاد. كان إسماعيل مطمئناً، وهو الذي رعى سواقي قلبها، وأزال من حول عشقه كل شوكة أو زؤان يمكن أن يعكر هندسة الريحان في حقل روحيهما.
التصفيق الحاد، وترديد الشعارات التي تندد بـ”الأخوان المسلمين والعصابة المجرمة”، أيقظت إسماعيل الواقف شارداً في الصف. وقتها لاحظ أن القائد العسكري قد ظهر على منصة الاجتماع التي تشرف على الساحة، وهو يرتدي مثلهم لباسه العسكري المزركش بالكثير من الأوسمة التي تلمع تحت شمس الظهيرة، ويضع على عينيه نظارات شمسية تعكس صفوف الجنود المصطفين، كما لو أنهم حقاً في عينيه. لقد كان أخا الرئيس نفسه، في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ بلد يسير على ظهر سلحفاة، وهي تمشي متثاقلة على رماد الطوائف والاثنيات والأديان المتعددة، وتجّار المخدرات، وبائعي البشر في سوق النخاسة العربية، السوق التي تتردد في جنباتها كل صباح شعارات الأمة، التي اجترّها أناس لا ينتمون إلى هذه الأرض إلاّ من خلال مصادفات تاريخية لا أحد يعرف كيف حدثت. بعد دقائق من الهتافات والشعارات الحماسية، بدأ القائد العسكري يلقي خطاباً حماسياً في الجموع التي احتشدت في الساحة، وراح يشرح لهم عن أهداف “الأخوان المسلمين” وما يخططون له، وعن علاقاتهم بالصهاينة والامبرياليين، ثم بدأ يتحدث عن فكرهم المتخلف، وقوانينهم الظلامية التي تدعو إلى عزل النساء عن المجتمع وتحرم الكثير من متع الحياة، وما إلى ذلك، داعياً الجميع إلى أن يضعوا حداً لهؤلاء الخونة، وان لا يتقاعسوا في التصدي لهم ولفكرهم الظلامي.
تمتم إسماعيل في نفسه: “لكن كيف سأعيش بدون عرق مثلاً لو استلم هؤلاء الرعاع البلد؟”.
بقي إسماعيل يغطّ في نوم عميق، ممدداً على فراش يارو الذي كان عبارة عن سرير حديدي عسكري أحضره له ابن عمه الذي كان آنئذ جندياً بدوره. حين لاحظ يارو أن إسماعيل قد نام، لم يشأ أن يوقظه، وتمدد على حصيرة مستطيلة، بعد أن تغطّى ببطانية عسكرية، كانت مطوية ومرمية تحت السرير الحديدي، من ممتلكات ابن عمه يستخدمها للنوم عنده في إجازاته الليلية.
بعدما أطفأ النور، تجلى شخير إسماعيل، فراح يتقلب، وهو يتأفف، ويتمنى لو يستيقظ إسماعيل ويغادر، إلا انه لم يفعل، وظلّ شخيره، يرسل إبر أشواك العاكول إلى أذنه، وروحه التي كادت أن تنفجر غيظاً وأرقاً، وظل يتقلب تحت البطانية العسكرية، حتى خارت قواه ونام.
تلك الليلة هي الأولى التي ينام فيها إسماعيل عنده وهو مهدود من تأثير العرق وذكريات الحرب وعيني هبة أيضاً.
المصدر: النهار