علاقة الكاتب الراحل بالمكان في أعماله السردية تعتبر حميمة وملفتة ويجد نفسه من النوع الذي يتآلف مع الأمكنة بسهولة حتى تلك التي يمرّ بها بشكل عابر.
فُجع الوسط الأدبي العراقي الاثنين 9 أبريل الجاري، الذي صادف مرور 15 عاما على الاحتلال الأميركي للعراق، بنبأ وفاة الروائي والقاص والناقد سعد محمد رحيم في أحد مستشفيات مدينة السليمانية عن عمر 61 عامًا، إثر إصابته بأزمة قلبية، وهو في ذروة عطائه الأدبي والفكري.
كان الراحل، المولود في مدينة السعدية بمحافظة ديالى، قد وقّع على مجموعة من كتبه قبل 9 أيام في جناح دار سطور بمعرض بغداد الدولي للكتاب، كما صدرت له منذ أسبوعين مجموعته القصصية “كونكان” عن دار “نينوى” الدمشقية، وهي مجموعته السادسة، إلى جانب 5 روايات و4 كتب نقدية وفكرية.
تروي روايته الأشهر “مقتل بائع الكتب” حكاية وصول صحافي متمرّس يدفعه الفضول، يدعى ماجد بغدادي إلى مدينة بعقوبة (مركز محافظة ديالى)، في مهمة استقصائية، تمتد لشهرين، كلّفه بها شخص ثري متنفذ، لن يعرّف عن هويته.
كان الاتفاق يقتضي من الصحافي تأليف كتاب يكشف فيه أسرار حياة بائع كتب ورسّام اسمه محمود المرزوق، في السبعين من عمره، وملابسات مقتله. يعقد الصحافي علاقات مع معارف الراحل وأصدقائه، ويعثر على دفتر دوّن فيه المرزوق بعض يومياته، التي تؤرخ لحياة المدينة منذ اليوم الأول للغزو الأميركي واحتلال العراق.
أما رواية “ظلال جسد.. ضفاف الرغبة” فتجمع عوالم عديدة تتصل كلها بالعلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة، علاقة الحب والشغف، الهجر والشوق، المطاردة والبعد.
انطلق سعد محمد رحيم في جميع كتاباته السردية والفكرية من رؤية وجودية ثيماته الحياة والحرية والحب والمصير والموت. وهي كتابات تندرج ضمن مشروع أدبي وتنويري في آن واحد.
لكنه في رواياته لم يرد تهريب خطاب سياسي مسبق، فهو ليس مع الرواية التي تُكتب لدواعٍ سياسية محضة، بل مع الرواية التي تتخلّق بشروط الفن وقيم الجمال، برؤية إلى العالم شاملة وناضجة، حيث أن ذلك من شأنه جعل الرواية وثيقة سياسية ذات تأثير صارخ.
علاقة الراحل بالمكان في أعماله السردية حميمة وملفتة، ويتضح ذلك من خلال تناوله تفاصيل دقيقة للأمكنة التي تجري فيها أحداث رواياته وقصصه، وكأنها جزء فاعل في حركة الشخصيات السردية وتكوينها وبنائها.
وهو لا يكتفي بالوصف الخارجي للأمكنة، بل يبحث عن الاستثنائي فيها. وحتى الأمكنة المتخيّلة في بعض أعماله السردية يضفي عليها مسحة تجعلها فريدة. ويعزو ارتباطه الحميمي بالأمكنة الواقعية إلى أنها مرتع ذكرياته وأحلامه ومنبع الصور التي اختزنها في داخله، فراحت تعينه في عملية الكتابة.
ويرى رحيم أن لكل مكان شخصيته يجب على الكاتب فهمها ويحسن طريقة التعامل معها إذا ما أراد أن ينقلها في شكل صور إلى النص. ويجد نفسه من النوع الذي يتآلف مع الأمكنة بسهولة حتى تلك التي يمرّ بها بشكل عابر، حيث سرعان ما يفترض أن هذا المكان أو ذاك هو مسرح لمشهد درامي سردي يضفي على شخصية ساكنيه أشياء من روحه وطبيعته. فالبشر أبناء أمكنتهم كما هم أبناء زمانهم. وهذا ما يجب أن يستوعبه كل كاتب يهمّه صياغة العالم بوساطة الكلمات.
يُلاحظ، أيضا، أن الشخصيات الفاعلة في أغلب روايات رحيم تنتمي إلى شريحة المثقفين والمتعلمين، وتحديدا المثقف بوصفه الإنسان اللامنتمي والحائر والقلق والسلبي إلى حد ما، المملوء بالتهكم والمتسائل من غير توقف والمتقلب على جمر السياسة.
ويشير إلى أن اختياره المثقف ليكون بطلا أو ساردا في رواياته متأتٍ من كون المثقف في الواقع العراقي والعربي شخصية إشكالية في الغالب، له وجهة نظر، ويمتلك القدرة على التعبير عنها، وكان المثقفون ولا يزالون فاعلين اجتماعيين وسياسيين، وقد عملوا من أجل تغيير الوضع القائم، أو حلموا بتغييره في الأقل.