عباس- بدات مبكراً.. كيف حدث أن وصلت للشعر ؟
منذر- لم أبدأ مبكراًَ، للحد الذي يمكن لي قبول قولك هذا دون أن أقف عنده، بل لم أبدأ مبكراً على الإطلاق! في يفاعتي، في المرحلتين الإعدادية والثانوية، كنت أبعد الجميع عن الشعر، وكان الشعر أبعد الأشياء عني. أصدقائي كانوا يحملون بين كتبهم المدرسية مجموعات نزار قباني، وينقلون منها قصائد عن الحب يرسلونها إلى أخوات أصدقائهم وبنات جيرانهم ، وأخي ماهر يأتي للبيت ب ( المعبد العريق ) و( منزل الأقنان ) للسياب، وأنا… أرسم بالرصاص والفحم ثم بعد ذلك أصدق نفسي، وأرسم لوحات تشبه تخطيطات سريعة بالزيتي لشخوص يأخذون وضعيات غريبة أمام المرآة، وأقيم معارض فردية كلما تكدس عندي عدد كاف من اللوحات، فقد كنت، وللان لا أصدق كيف دارت في رأسي هذه الفكرة، أعد العدة لأن أكون رساماً. رغم أني كنت أدرس العلوم الاقتصادية في جامعة حلب، كما كنت مولعاً بالبيتلز والرولينغ ستونز والكريم وليد زبلن وبوب ديلان وجوني ميتشل وبول سايمن ومايلز دافيس، وما أزال، الأمر الذي يضطرني للسفر لبيروت للحصول على اسطواناتهم. ولكني في أواخر سنوات دراستي في جامعة حلب، أنا الذي يمد أنفه في كل شيء، المولع بالسينما منذ الصغر، جامع كل أعداد سلسلة المسرح العالمي المترجمة التي كانت تصدر في مصر، وقارئها وممثلها ومخرجها في رأسي، المتباهي بقراءة سارتر وكامو، اللذين لم أحبهما كثيراً، عكس جون شتاينبك وأرسكين كالدويل وهمنجويه الذين أعبد.. وأكثر الجميع برتولد بريخت بترجمات عبد الرحمن بدوي وعبد الغفار مكاوي.. إذا خدمتني الذاكرة. من هذه العقدة ( الكبكولة ) من الهوايات نسلت خيط الشعر الرفيع. في أواخر سنوات دراستي الجامعية، في الواحدة والعشرين من عمري بدأت بكتابة الشعر والاحتفاظ بما أكتب. أما أول ما نشرت فقد كان في نهاية سنة 1973في عدد من مجلة الموقف الأدبي خاص بالحرب. وكانت قصائد ضد الحرب، بالمعنى الإنساني !! منها ( الأبطال ) و( دخل حرباً وخرج منها سالماً ) التي ترجمت في الموسوعة الألمانية للشعر العربي المعاصر. ثم اقتضى صدور أول مجموعة لي ست سنوات غير منقوصة من هذا التاريخ.
عباس – كنت منذ البداية مبتعداً قليلاً عن المدرسة الماغوطية التي تشمل ماغوط وسلالته. ما الذي أبعدك عنها، وكيف وجدت لنفسك مراجع أخرى وأين؟
منذر- كان همي منذ البداية، بما يتعلق بهذا الجانب من الموضوع، أقصد أنه لم يكن همي الأساسي أبداً، أن أقدم قصيدة تختلف عن قصيدة الستينات السورية، قصيدة التفعيلة بأشكالها ومضامينها المعروفة، التي تعرفت عليها في الأمسيات الشعرية التي حضرت بعضها على مدرجات الجامعة، ثم قرأت بعض أعمال شعرائها، مثل علي الجندي ممدوح عدوان ومحمد عمران وآخرين.. أما ابتعادي عن المدرسة الماغوطية فلم يكن الأمر يتعلق بالشكل أو الأسلوب، إنما المعنى، ذلك الغضب والكدر، الصعلكة والأرصفة، الوطن والقضايا الكبيرة، هو ما أبعدني عنها، قليلاً، كما قلت أنت، أوافق. لأنه حدث وكتبت قصائد ماغوطية لحد ما، كانت بالنسبة لي أشبه بتمارين على الكتابة بأدوات الماغوط الساحرة والمغرية، وهناك قسم كامل في أول مجموعة شعرية لي ( آمال شاقة ) طبعتها في 1978على الآلة الكاتبة وصورت منها 100 نسخة وزعتها على اصدقائي، مهدى لمحمد الماغوط مثله مثل القسم الأول المهدى لشوقي أبي شقرا والثاني لأنسي الحاج وآخر لمحمد سيدة، كان ذلك أشبه بتسديد ديون قديمة. هؤلاء كانوا مراجعي.. ولكن أيضاً وعلى نحو أعمق، وبالتالي أقل وضوحاً، توفيق الصايغ وجبرا ابراهيم جبرا، الأول في ( ثلاثون قصيدة ) التي كتبت مستوحياً لغتها ونبرتها ( ساقا الشهوة ) القصيدة التي مزقت صفحتاها من مجلة الناقد عند دخولها سوريا، والتي كانت السبب في مصادرة مجموعتي الثانية ( داكن ) وجبرا في ( المدار المغلق ) الذي يحوي قصيدة ( رسالة إلى توفيق الصايغ ) التي تأثرت بها أيما تأثير، ومنها جاءت قصائد لي مثل ( على وجهك علامات براءتي ) و ( تفوقت علي في كل شيء دون أن تقوم به ).. كيف وأين وجدت مراجعي هذه؟ هكذا في بيروت طبعاً، كنت أدور على مكتبات صغيرة، لا أذكر الآن أين كانت تقع تماماً، وأتسلق إلى رفوفها العليا المغبرة، حيث وجدت أغلب منشورات دار مجلة شعر، والنهار، والمكتبة الأهلية، والعصرية، وتلك الكتب التي كانت تصدر على حساب مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، ولا أنسى مكتبة صغيرة في سوق طرابلس كان صاحبها قساً. وكان من بين هذه الكتب أيضاً، قصائد روبرت فروست وديوان الشعر الأمريكي ترجمة يوسف الخال، و50 قصيدة من الشعر الأمريكي المعاصر ترجمة توفيق الصايغ و( الشعر والتجربة ) لأرشبيلد ماكليش، وكتاب ( الشعر ) ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي، و( شعراء المدرسة الحديثة ) لروزنتال… وغيرها، التي أثرت على تجربتي برمتها. أما كتاب سوزان برنار، الذائع السيط، فلم يقع عليه نظري لليوم.
عباس – قلت لم يكن هذا همك الأساسي، ماذا كان همك الأساسي !! هل كنت تضع هدفاً لكتابتك؟
منذر- بالتأكيد لم أكن أعي تماماً لماذا أكتب، وللآن لا أفعل. سوى أنه علي أن أتابع الكتابة. ولكني، وقتها، كنت أصدق أنه لدي شيء مختلف خاص لأقوله، وأنه يهم الآخرين، في المعنى أولاً ثم كما قلت في الشكل والأسلوب، أي في الطريقة التي أرى أنه يحب أن أقوله بها.. نعم كان لي هدف، وكان هدفي ينشطر إلى شطرين، يمضي في اتجاهين، الأول أن أقول من أنا وماذا أنا، وهذا أمر كنت أجد أنه لا ينته لأني ما أن كنت أحدد صفة بي حتى أجد أني خرجت منها وتغيرت.. والثاني أن أساعد الآخرين على نحو ما. منه هنا جاءت نظرتي الايجابية للأشياء، لكل الأشياء ومنها، الشعر والشاعر.. كنت أردد بأن على الشعر أن يمد يد العون للناس، عليه أن يساعد في حل المشاكل.. كنت مؤمناً بأنه أحد طرق الشفاء.
عباس – يمكننا القول إن هذا الشعر كان ولوعاً بالسرد، بالاستطراد وبالمشاهد، والوصف… أ ما زال شعرك كذلك ؟
منذر- كنت وما زلت مولعاً بكل هذا، كنت أقول على الشعراء النثريين أن يتحملوا تبعة اختيارهم النثر لكتابة الشعر، والنثر هذه أدواته، السرد والوصف والوضوح والحصافة والكلمة السديدة كما يقول إليوت.. في أواخر الثمانينات وصلت بأدواتي هذه إلى منتهاها، تمكنت منها لدرجة كنت أستطيع الكتابة عن أي شيء لوحده دون خلطه بأي شيءٍ آخر، وعن كل شيء دفعة واحدة، قصائد قصيرة خاطفة لا تزيد عن سطر، أو رباعيات، أو قصائد من 20 سطراً، أو مطولات ليس لها آخر، كتبت حينها ما أسميته ( المعلقات )، قصائد طويلة لدرجة تحسب، وأنت تقرأها، أنها حقاَ بلا نهاية، منها ( لمن العالم ) أطول وأسوأ قصيدة في الشعر العربي الحديث!! وكذلك تلك القصيدة الفظيعة التي تهددني بنشرها ( مت الآن وسأكتب عنك قصيدة ) عن علي الجندي.. لكن أفضل ما قمت به، أحسب، هو قصائد مثل ( كلما رأيت غرابا طائراً تذكريني ) و ( إذا كان محتماً علي أن أعبد إلهاً ).. التي تقوم على فكرة كتابة قصيدة انطلاقاً من عنوانها، أي أن العنوان، إذا أردنا استخدام الاستعارات، يأخذ فيها دور النبع، ينبع منه ثم يجري ويتشعب نهر القصيدة.. وقتها حسبت أني وقعت أخيراً على أسلوبي الخاص في الشعر الذي لا مثيل له إطلاقاً، لا في الماضي ولا في الحاضر، لا عند العرب ولا عند غيرهم! لكني أيضاً، بعد عدد من القصائد، شبعت منه وهجرته. كل ابداع يتحول إلى قالب، وكل قالب قفص يضع صاحبه بداخله.. شعري منذ أوائل التسعينات بدأ يتململ ويضجر من ذات الأدوات والقوالب والمواضيع مهما نوعت ولعبت بها، وصار لديه ميل لأن يخرج عن كل قواعده وخطوط سيره، بل صار لديه هوس بذلك، فرحت أكتب قصائد بأدوات ولغات غريبة عني، فجة ومربكة، ولكن حرة وملونة. تغير شعري وتغيرت في النصف الأخير من التسعينات ما أمكن لشعر ولشاعر أن يتغيرا.. وهذا ما يمكن أن تجده في ( الشاي ليس بطيئاً ) والعنوان هو دليلي عليه، تركيب كهذا في السابق كنت أهزأ منه. صرت الآن أصدق بأن الشعر فن ملتوي، بعد أ، كنت أقول لبند عبد الحميد إنه علينا أن نبعد الكذب عن الشعر كما نبعده عن الحياة، صرت أقل ( خذي كذبي ، كطريقتي الخاصة في التعبير عن الحقيقة ) . ولكن أيضاً أموراً كثيرة بقيت بي على حالها، ذلك الاهتمام بالأشياء والآخرين، وبالحسيات، وكذلك بالمعاني، المعاني الشعرية، المقلوبة، الملتوية، المعاكسة، عندما كنت أردد أن الشاعر رجل أقوال.. كنت أقصد الشاعر رجل معان.
عباس – كتابتك حرة ودافقة، أ لا تسهو أحياناً عن التقاط الخيط، أ ليس هناك ما يجب أن تغض النظر إليه وتسكت عنه. أ لا يعوز هذا الكلام قليل من الصمت. وأحياناً قليل من الصقل والضغط.. هل تخاف أن تفقد شيئاً من مادتك الغنية، أو أن تستغني عن بعضها. أ ليس على النص أن يخسر ليفدوا أكثر كمالاً وايحاءً ؟؟
منذر- ياله من سؤال طويل يا عباس!! نعم أسهو عن التقاط الخيط، أحياناً، ولوهلة، وخاصة عند كتابتي للقصائد الطويلة، أو قصائد متتابعة تحت ذات العنوان، وهذا شيء معروف عندما يحمل الشاعر نفسه ويكتب قصيدة طويلة، وعلى الشاعر والقارئ أن يتوقعه ويفهمه.. وربما هذا هو السبب الذي جعل أنسي الحاج في مقدمة ( لن ) يقول أن القصيدة النثرية يجب أن تكون قصيرة، لكنه سرعان ما غير رأيه في ( ماضي الأيام الآتية ) وبدأ بكتابة قصائد طويلة حتى أنه في النهاية ختم كل شيء ب ( الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع ) وهي كتاب بقصيدة واحدة. ورغم ما يبدو عليه شعري من حرية وسيولة، فهو وعلى نحو لا يتوقعه أحد خاضع لعمليات صقل وضبط متكررة، حتى إنه يكاد لا يكون هناك صورة أخيرة لأغلب قصائدي، فلطالما أعجبت بقول ييتس : ( كي يبدو سطر من الشعر بأنه كتب لأول مرة، نضطر لكتابته أربعين مرة ) ولكني، أيضاً، لست من أنصار نظرية التكثيف والضغط في الشعر، فكما يقول الرازي: ( الشعراء أمراء الكلام، يقصرون طويله ويطولون قصيره ). فالشعر برمته، أقرب كثيراً إلى الثرثرة منه إلى الصمت.. من يقدر الصمت كل هذا التقدير، لا يجب عليه أن يكتب على الإطلاق. وليذهب للمسرح الايمائي أو ليبتاع قصبة صيد وينتقي طرفاُ من الشاطئ الصخري ويصيد السمك.. أما عن خوفي من فقدان شيء من مادتي، فربما هذا صحيح، رغم أن أليوت عندما حذف له باوند جزءاً كبيراً من ( الأرض اليباب ) استخدمه في قصيدة شهيرة أخرى ( اربعاء الرماد ).. أما عن الخسائر فأظنني لو كنت أفكر بربح، لما خاطرت بكل مالدي برمية ذات النرد كل مرة.. أقصد لكنت عملت بنصائح الجميع، ومنهم عناية جابر، عندما كتبت أن الشبهة الوحيدة في شعري هو هذا الاسهاب وسد كل الاحتمالات وعدم ترك أي شيء لمخيلة القارئ.. أكثر خسائري الشعرية كان بسبب هذا العناد..
عباس – يبدو وكأنك توخيت منذ البداية أن يكون شعرك نوعاً من التوثيق الحياتي، لكن السرد والمشاهد من اهتمامات الروائي أكثر من الشاعر، لماذا إذا كان ذلك صحيحاً لم تكتب رواية؟ هل دار في خلدك أنك بالشعر تستطيع أن تفعل ما يفعله الآخرون بالروايات؟
منذر- أظن ذلك صحيحاً، فقد قيل لي مراراً، وكان حرفياً عنوان تلك المقالة الطويلة التي كتبها الشاعر الراحل رياض صالح الحسين عند صدور مجموعتي ( بشر وتواريخ وأمكنة ). بقصد أو بدون قصد كنت أقوم بوضع سجل شبه يومي لحياتي، كثير من قصائدي في السبعينات كانت أشبه باليوميات، والمذكرات، حتى أني كنت أعنونها بتواريخها. وكذلك بما يتعلق بالأمكنة، كتبت قصائد كثيرة عن الأمكنة، وكنت أوثق مكان كتابة كل قصيدة، بذكر اسمه، أما القصائد التي لا أذكر مكان كتابتها فهذه يعني أني كتبتها في اللاذقية، مكان الأمكنة كلها في حياتي وشعري، وكذلك الآخرون، البشر، لا أحد زاحمني في كتابتي عن نفسي سواهم، أجمعهم في شعري وكأني بحاجة لمناصرتهم. ولكن في غمرة ما بدا للآخرين حقائق، وما جعل سعدي يوسف يكتب بأني لا أراهن إلا على الحقيقي، كنت أختلق أشياء وحوادث كثيرة من مخيلتي، حتى أني اخترعت أسماء وشخوصاً وأمكنة ليس لها وجود قط، لذلك كان أحد تعاريفي للشعر بأنه توثيق دقيق للأكاذيب.. نعم، دار في خلدي أني أستطيع بالشعر أن أحيا وأحب وأحلم وأسافر وأرى أمكنة وأتعرف على أناس وأمرض وأشفى وأطلق النار على رأسي وأموت.. لا ليس أموت، كل شيء اقبل به إلا هذا، لأنه أيضاً دار في خلدي، بكل خراقة، الخلود! ( كل ما أفعله كي لا يكون موتي نهايتي ). لم أكتب رواية لأني لم أجد في نفسي يوماً الاستعداد لكتابة هذا الكم من الكلمات.. مع أني مسهب ومستطرد في كل ما أكتبه، ولكن من يدري ربما أجد في يوم من الأيام أنه بات لدي ما يكفي من إحضارات وأفعل.
عباس – أصدرت مجموعة وحيدة.. وبعدها سكت. هل توقفت عن الكتابة أثناء ذلك، أم أنك بقيت تكتب ولا تنشر. لماذا.. هل هو لا اكتراث بما تفعله؟ أم أنه لم يكن يعنيك كثيراً أن تظهره، هل كان يكفيك فقط أن تكتب شعراً !؟
منذر- أصدرت ( بشر وتواريخ وأمكنة ) عام 1979 أي بعد ست سنوات على بداية نشري لشعري في أغلب الدوريات الأدبية، ومنها الملحق الثقافي للنهار الذي كان يرأس تحريره شوقي أبي شقرا، وكان على عادته يغير عناوين قصائدي ويبدل أحياناً في كلماتها، أذكر مرة أنه أبدل ( فاتحاً شهيتي ) وضع بدلاً عنها ( فاتحاً شهوتي ) فراقني كذلك.. وقد سبقني لنشر مجموعاتهم، أصدقاء بدؤوا بكتابة قصيدة النثر بعدي بزمن. أذكر أن رياض كان يضحك وهو يقول لي، أصغرك بخمس سنين ولدي ثلاث مجموعات شعرية وليس لديك سوى واحدة!! الحقيقة أنه كان لدي قبل ( بشر وتواريخ وأمكنة ) مجموعة ( آمال شاقة ) ولكن تعثر نشرها أكثر من مرة. ثم أني في عام 1984 أعددت مجموعة ( أنذرتك بحمامة بيضاء ) بالاشتراك مع أختي مرام وصديقي الراحل أيضاً محمد سيدة. وقد رسخت هذه المجموعة الانطباع العام الجيد الذي كونته لي ( بشر…. ) أما ( داكن ) مجموعتي الثالثة، فقد تقدمت بها لوزارة الثقافة السورية عام 1989، وتمت الموافقة عليها بقرار وزاري، ووقعت على عقدها وقبضت مكافأتها!!! وأصلحت ملازمها وأعددت غلافها كعادتي في كل كتبي، وطبع منها 2000 نسخة في مطابع وزارة الثقافة…. ثم لا أدري بأي طريقة صدر قرار ما، شفهي على الأغلب، بالتوقف عن إصدارها، وإتلافها.. في رسالة لأنطون مقدسي وكان وقتها رئيس مديرية التأليف والنشر أو التأليف والترجمة! قلت له: ( أرجو أن تتلفوها حرقاً، النار مصير جميل يمكن لي قبوله لها) كان هذا في عام 1989 وقد أصاب ذلك برنامجي لنشر شعري بكسر بالعمود الفقري! في البداية فرحت لأنه لدي كتاب مصادر، ذلك كان خليقاً أن يجعل مني شاعراً ذا بريق، لكني بعدها أصبت بإحباط حقيقي، ذلك لأني أميل لأكون في صف المهزومين أكثر مني حرصاً على الانتصار.. وبقيت شاعراً بكتاب واحد، مثل ذلك الشاعر الذي قام بلعب دوره ( ريتشارد بورتون) في فيلم جوزيف لوزي ( BOOM ) عندما جاء كغراب البين ليكون قريباً من سيدة غنية تحتضر بمرض السل على ما أذكر، تقوم( اليزابيت تيلر) بتمثيل شخصيتها… وكأن ذلك الصورة الأمثل للشاعر.
عباس – ماذا كان سبب مصادرة الكتاب من قبل الوزارة ذاتها التي وافقت عليه وطبعته؟
منذر- السبب كما ذكرت سابقاً هو قصيدة ( ساقا الشهوة ) وكان هناك قصيدة ( داكن ) أيضاً حيث وجدوا بهما، وبأرجاء مختلفة في المجموعة، تلميحات وتصريحات جنسية جريئة أكثر من المقبول بعرفهم: ( هناك القوى الإسلامية يا منذر. ويجب مراعاتها.. أنت تعلم ) قال لي أنطون مقدسي. كان ردي ( ولكن هناك قوى لا أدري ماذا نستطيع أن نسمها. وعليها يتوقف المستقبل، أيضاً يجب مراعاتها ! ) لم يعاضدني أحد في محاولتي أن تعيد الوزارة النظر في مصادرة الكتاب، رغم أنهم جميعاً كانوا من أصدقائي، ومعجبين بمجموعتي ومعتبرين أنها خطوة إلى الأمام ليس في تجربتي فحسب بل في الشعر السوري والعربي كذلك، حتى أنهم كتبوا لي عندما أبلغوني موافقة الوزارة، بأنه لا يجب أن أتأخر في نشر مجموعتي التالية كما حصل بعد مجموعة ( بشر وتواريخ وأمكنة ) وبالفعل حولت المخطوطة للمطبعة وجهز الكتاب بفترة قياسية. ولكن.. بعد هذا حتى العنوان ( داكن ) تحول إلى مشكلة، جهة رسمية كالوزارة في دولة يقع عليها العبء الأكبر في تحرير فلسطين ومحاربة الرجعية والتصدي للامبريالية، كدولة البعث العربي الاشتراكي، لا تحب هكذا عناوين!! ثم بعد هذا عزمت على أن أعد كل ركامي من القصائد في مجموعات جاهزة للنشر، وأن أعمل على نشرها ولو على نفقتي الخاصة. وبالفعل أعددت ثلاث أو أربع مجموعات بانتظار أن أبدأ بإصدارها، الأمر الذي استغرقني سنين طويلة، حتى اتصل بي شخص من بيروت قال لي إن اسمه يوسف بزي! طبعاً كنت اعرفه!! وقال لي إن دار ياض الريس تهمها أن ينشر كتاباً لي. إذا كان الأمر يعنيني!! استغرقني سنتين لآخذ مجموعة جديدة وقتها من قصائدي وأذهب!! إلا أنهم أرادوا نشر القصائد التي سبق ونشرتها في مجلة الناقد التي تصدها الدار نفسها.. فتم انتقاء مختارات متنوعة من أشعاري، جعلت عنوانها ( مزهرية على هيئة قبضة يد ) صدرت عام 1997!!
عباس – إذن المجموعة الأولى التي صدرت لك في 1979 والثانية في 1997 أي بعدها ب 18 سنة. وأنت تقول هم من اتصلوا بك ! لا بد أن يبدوا ذلك وكأنك لا تكترث كثيراً، لا بالنتاج ولا بالاسم، أم أنه ثقة زائدة بالنفس تجعلك لا تتسرع، أم أنها ثقة زائدة بالعالم تجعلك لا تشك أنك ستحصل في النهاية على ما تستحق؟
منذر- يوجد شيء في هذا السؤال يروقني، إنه يكاد يجعلني أصدق بأني أثق بنفسي وشعري، وقليلاً جداً ما أشعر بذلك، وخاصة هذه الأيام.. في السابق، في السبعينات وأيضاً الثمانينات، كنت كما قلت لك واثقاً، بأنه لدي ما أقوله للآخرين، وبأنه يهمهم شكلاً ومضموناً، وصل بي هذا لكتابة قصيدة عن مصطفى عنتابلي عنوانها ( الدرس ) كنت أتباهى وأقول عنها إنها درس في الحياة والشعر أيضاً.. لكن ذلك مضى.. قضيت الأربع سنوات الأولى من التسعينات أعاني من تناقص مطرد في هذا اليقين.. إلى أن انتهيت وتخلصت منه تماماً. وبدأت بمرحلة الشك بكل ما أقوم به، في الشعر، وفي الرسم وفي الحياة وفي الآخرين وفي العالم أيضاً. لا أخفي عليك أحياناً ساورني شعور بأن العالم سوف يصل يوماً إلي لا بد، وسوف يقف عندي ويعطيني ما هو لي، ولكن الحقيقة أني لم أتسرع لأني كسول لا أكثر، ومرجئ.. أكثر من أي شيء. ولا أدري إن كان الكسل هو أحد وجوه الثقة بالعالم.. أي شيء يشبه ما كان يعظ به الفلاسفة الصينيون القدامى، لاوتسي يقول ما يعني، أن العالم يقوم بعمله على أحسن وجه ويصير عالماً أفضل بدون تدخلاتنا..
عباس – كيف حصل إذن.. أنك عدت للنشر وبدأت تخرج كتبك تباعاً؟
منذر- كما قلت لك، يوسف بزي اتصل بي عندما كان يعمل في دار الريس، وكان أن التقط كتابي ( بشر وتواريخ وأمكنة ) من بسطة كتب في دمشق!! لولا هذه البسطة وهذه المصادفة، وإعجاب يوسف ويحي جابر، وقتها بشعري، فلربما بقيت شاعراً بكتاب واحد.. ولكان راقني هذا لحد كبير أيضاً. ثم أني انتظرت ست سنوات أتلهى بما لا أدري ماذا، حتى عدت وتقدمت بمجموعة ( الشاي ليس بطيئاً ) لدار الريس ذاتها، فلم يترددوا في طبعها في زمن يزيد يومين ثلاثة عن الأسبوع.. ولكن استغرقني ما يقارب الشهرين لآتي لبيروت وأوقع العقد وآخذ النسخ العشرين المخصصة لي..
عباس – حصلت متأخراً على الاعتراف، هل يسرك هذا، أم تجد أنك أصبحت اسماً أكثر منك نتاجاً؟
منذر- أخفتني.. عباس.. هل حصلت على الاعتراف بي حقاً!.. كيف ومن قبل من على حد علمك؟ أما إن كان يسرني، فأظنه أحياناً يفعل وأحياناً كثيرة لا يعني شيئاً، لأنه في هذه الأحيان الكثيرة، وأنت تحيا، تأكل وتشرب وتنام، وتحب وتودع، يغيب ويختفي. مثله مثل كل وهم.. ثم عن كوني أصبحت اسماً أكثر من كوني نتاجاً، فأنت لا تستطيع قول ذلك لشخص، يسمع ، لأول مرة في حياته، شخصاً أخر يقول له إنك أصبحت اسماً، ثم أنه أصدر لتوه كتاباً ب/190 / صفحة، مدروزة من أعلاها إلى أسفلها بالكلمات.. ولكنك مرة ثانية تخيفني يا رجل، هل تتنبأ لي بأن أبطل الكتابة.. ؟
عباس – أسميك الشاعر السعيد. أنت هكذا في حياتك، هل أنت هكذا في شعرك، هل لديك هذه الفلسفة ؟
منذر- آخر مرة قلت لي إنك ستبطل تسميتي هكذا، وتسميني الناثر السعيد!! لماذا تراجعت.. أما إن كنت هكذا في حياتي وفي شعري، فأنت أعلم، منذ تسع سنين ,أنا أنزل في بيتك كلما جئت لبيروت، وشعري تعرفه وقرأته ونشرت لي مراراً، أنت الذي، قلت لي، لا تنشر إلا ما تحب.. فقلت لك وهل ما تحب هو فقط ما يستحق أن ينشر!؟.. الأمر أن الآخرين، وربما أنت منهم، تلتبس عليهم طبيعة لعبتي، لعبتي في الحياة وفي الشعر.. في كافالا في اليونان سأل أحدهم السيدة نيكي بابادوبولو المسؤولة عن المهرجان، عني، أجابت: ( لا أعرف عنه شيئاً سوى أنه يضحك دائماً ).. ذلك أن أسلوبي هو كرع كل ما يقدم لي مهما كان بجرعات كبيرة، كما وصفت الوقت في عنوان مجموعتك الأولى، وأظن أيضاً أنه لدي روح قوية، تساعدني على الوقوف كلما وقعت، وتلم حطامي كلما تكسرت، روح ورثتها عن أمي، ورثتها ولا فضل لي بها، لأن أختي مرام لديها واحدة مثلها وكذلك أختي منى وكذلك كل من اخي ماهر وأخي ورفعت وابنيَّ شكيب وخالد، ولدنا بعيون دامعة وأفواه ضاحكة، نبكي ونضحك في ذات اللحظة، ولذات المشهد، نخرج من السينما منهكين من المشاعر.. في زيارة مرام الأخيرة رحت أقرأ لها قصة ( الدبلوماسي ) لتشيخوف كلانا تحامل كي لا يسقط على الأرض مغشياً عليه من البكاء والضحك.. ثم أنني أومن بالسعادة، أومن أن الإنسان خلق ليكون سعيداً، يحيا ليكون سعيداً، السعادة حق له، وإذا اعترضتني فكرة أخرى أومن بها بذات القدر، وهي بأن الإنسان خلق لأجل المعنى. أجيب.. السعادة هي ذلك المعنى، ولا شيء آخر. إلا أني أيضاً صاحب قصيدة ( سأعود بعد قليل، كالحزن )!
عباس – هل الشعر جزء من شراهتك للحياة ؟
منذر- ها أنت تبدو على حقيقتك!! تتظاهر بأنك لا تبالي بشيء، ولا تهتم بما يبدو عليه هذا الشخص، لا كيف يتصرف ولا ماذا يلبس، لكنك تلاحظ، وتنتبه وتكون رأياً وتصدر حكماً!! نعم أحيا بشراهة لكل شيء، ومشكلتي كيف أخفف من شراهتي، كيف أقوم بحمية عن الطعام وعن الحب والجنس والصداقات والسباحة والرسم والموسيقى والأفلام وو. مرة ذهبت إلى الصيدلية غادة رباحية وسألتها إن كان لديها شيء يقلل الشهية للحياة.. كنت وقتها أشعر أنني أضيء على نحو يهدد بفقداني لطاقتي في سنة أو سنتين، وكأني أعلم أني لا أستطيع أن أبقى هكذا على مر السنين.. فقد بدأت أفقد شراهتي الزائدة لأشياء كثيرة، وصرت طبيعياً في أغلبها، الأمر الذي يوافق الفكرة التي بدأت كل شيء منها، وهي أن الشاعر لا يختلف عن الآخرين في شيء سوى أنه يكتب الشعر، الجميع يحبون مثله ويتألمون مثله ويحلمون.. مثله وربما بعضهم يفعل هذا أكثر منه، وأنه إذا أراد أن يعبر عنهم ويكتب شيئاً يهمهم، فعليه أن يكون مثلهم، لا يختلف عنهم إلا بقدر اختلاف أي واحد منهم عن أي واحد منهم… الشعر بالتأكيد جزء من شراهتي للحياة، لا بل ربما أحيانا يبدو لي وكأنه على نحو ما، شراهتي للحياة بأكملها.. لكن شراهتي هذه، هل علي أن أشرح، ليست إلى مال أو منصب أو شهرة.. فلقد افتقدت طوال حياتي فكرة كيف أزيد دخلي وأحصل على مزيد من المال التي يتمحورون حولها جميعهم. ربما لأني لم أكن بأشد الحاجة لذلك، وربما لأني اشد مكراً من أن يلهيني ذلك عن الحياة الحقيقية.
عباس – أنت أيضاً شاعر علاقات، في قصائد الحب يبدو وكأنك تسجل تضاعيف ومفارقات العلاقة، لأي مدى تستمد الشعر من حياتك ؟
منذر- إلى أبعد مدى! كما أني بالمقابل أستمد حياتي من الشعر إلى أبعد مدى، حياتي كلها لا تعني لي شيئاً إذا خلت منه، إذا لم أكتبها، ذلك يشبه إحساسي بالأماكن، ففي باريس كنت لا أذهب لأي مكان دون أخذ الكاميرا!! وكنت بذات الوقت أشعر أنه لا معنى لصورة إن لم يظهر شيء مني في زاوية ما منها، فإن لم أجد من يلتقط لي الصورة، كنت أضع حقيبتي أو نظارتي الشمسية في مكان ما داخل الإطار، حتى نسيتها على شاهدة قبر جيم موريسون في مقبرة بيير لاشيه للمشاهير في باريس.
عباس – أنت من الشعراء القليلين الذين يعترفون بأثر قراءاتهم، بل يسعون إلى أن يضمنوا جوار قصائد الآخرين لقصائدهم. حتى أنك كتبت مجموعة شعرية كاملة من أشعار الآخرين.. كيف؟
منذر- جئت من الآخرين.. على كل الأوجه، وفي كل شيء.. مرة قلت : ( جميع من بي يزدحم على فمكِ ) لست من الجاحدين الذين ينكرون شيئاً كهذا.. لست أعجوبة لأكون قد ولدت نفسي بنفسي.. لا أومن بالأعاجيب ولم أفتتن يوماً بها، بل ربما أكرهها. عندما مرضت أمي لأول مرة في حياتها، وأحتجنا لأعجوبة، لم تحصل حتى نصف أعجوبة، وماتت وهي في السنة الواحدة والخمسين من عمرها. أما عن ( دعوة عامة لشخص واحد ) فهي مجموعة شعرية كتبتها، على هامش كتاباتي الأخيرة، خلال أعوام 2001-2003، وقد كانت كصوت جواب، كصدى لمجموعة سابقة لها كتبتها في الثمانينات ( دعوة خاصة للجميع ). في مفارقة العنوانين تجد كيف تغير تفكيري وإحساسي بالآخرين.. أما في المضمون ف( دعوة خاصة للجميع ) كلها قصائد لي عن أصدقائي.. بينما كل قصيدة من ( دعوة عامة لشخص واحد ) كتبتها من سطور انتقيتها من قصائد الشاعر الذي وضعت اسمه تحت عنوانها. وللغرابة أني بعد أن أصوغ قصيدة من قصائد هذا الشاعر أو ذاك، وأضع تحتها اسمه، تبدو وكأنها صورته، أو تبدو وكأنها هو، صوتاً وصورة. لا أدري معنى تجربة كهذه، ولكني شعرت خلالها بمتعة لم أكن أتوقعها، وهي الكتابة بكلمات وبمشاعر وأفكار الآخرين. وسيكون اسم المؤلف على غلافها ( منذر مصري وشركاه ) الأمر الذي أثر في كتاباتي الجديدة، وجعلني أكتب قصائد بأحاسيس وأفكار أبدو بها غريباً عن نفسي، عن نفسي كما أعرفها، ولكن ربما ليس عن نفسي كما هي، والتي لا أحد غير الله والشيطان يعلم ماهي ..
عباس – هل أنت اقرب الشعراء السوريين إلى الجيل الشعري الجديد في سوريا؟ بالمناسبة ما هي صلتك بهؤلاء الشعراء الذين كتبت قصائد من أشعارهم، هل الأمر يتوقف عند هذا الحد أم عندك سجالاً مشتركاً ورؤية مشتركة؟
منذر- لا أظنني أقرب الشعراء السوريين إلى جميع شعراء الجيل الشعري الجديد في سوريا، أنا قريب من جيل الثمانينات مثل مرام مصري أختي وهالة محمد ومحمد فؤاد ولقمان ديركي وحسين بن حمزة وصالح دياب وفراس سليمان وربما خليل صويلح ومن جيل التسعينات مثل زياد عبد الله وندى منزلجي ونجيب عوض وربما أيضاً محمد دريوس وهنادي زرقا.. وهؤلاء وأولئك كما ترى ليسوا دمشقيين.. الدمشقيون يفلتون مني ليقعوا في أحضان رياض صالح الحسين ونزيه أبو عفش.. وأيضاً بندر عبد الجميد المتواري.. إضافة لتأثيرات قوية لشعراء سوريين في الخارج كسليم بركات الأشد تأثيراً من الجميع، ماعدا الماغوط طبعاً، وكذلك نوري الجراح الأشد صعوبة.. والأهمية. كما أنه تربطني صداقات طيبة مع من ذكرت، ونحن نتفق على أشياء كثيرة ونختلف على أشياء كثيرة، وهذا كل شيء، ففي سوريا لا يوجد للآن لكل من ذكرت ومن لم أذكر، كعمر قدور وبسام حسين وصلاح داوود وعارف حمزة وأكرم قطريب وعلي سفر وفارس البحرة وحازم العظمة ونديم الوزة وغيرهم مجال متاح لقيام السجالات الشعرية، ولا للحوار والتفاعل لتكوين رؤى مشتركة.
عباس – تكتب بغزارة، يخيل أنك تكتب بقدر ما تعيش، هل هناك شباق بين شعرك وحياتك، ألا تجد أن للشعر حيز خاص يستحق التهيؤ والصمت ؟
منذر- أحيانا أكتب بغزارة، وأحيانا أكتب ببطء وبقلة، وأحياناً أقضي أشهر بدون كتابة جدية. ثم أني قلت لك الشعر جزء من حياتي وحياتي جزء من شعري، إن كان هناك سباق ما، فهما معاً متسابق واحد، ولا أدري أي منهما يمتطي الآخر، ذلك لأنهما يتبادلان الأدوار مثل كل اثنين يقومان بشيء ما معاً. إلا أني أيضاً لا أحب السباقات، والترتيب الذي دائماً كنت أفضله هو قبل الأخير بواحد أو اثنين. في المدرسة والجامعة وفي الرسم والشعر، يوماً لم أضع نصب عيني أن أكون أفضل من أحد.. سوى ربما أفضل مني. كما أني أتهيأ للشعر وأقوم بطقوس الصمت اللازمة لكتابته، وأثناء كتابته، الأمر الذي تطلب مني دائماً أن أعزل نفسي وأقضي أوقاتاً طويلة بعيداً عن الآخرين.. ورغم إيماني بالناس وعنادي أن أكون منهم، فأنا لا أصلح أن آخذ دوراً محدداً في أي تشكيلاتهم : ( تنقصك روح الفريق ) كان يقول لي قائد قطعة عسكرية خدمت بها، وكنت أرد عليه: ( أظنك تقصد روح القطيع !! ).
عباس – يقبل شعرك النكات والأخبار والتعليقات وأي شيء آخر، أين تجد حدود الشعر؟
منذر- يقبل شعري كل شيء، هذه حقيقة، وربما القبول هو جوهر كل تجربتي، حتى أني قلت مرة ( لم يكن رفضي سوى قبولي الأفكار الرافضة ) ثم أني وجدت أنه من مهمتي في الشعر أن أذهب إلى ما يعتبره الآخرون خارج دائرة الشعر.. كنت أرى أن هذه أحد ميزات نظرتي للشعر. لم أستطع يوماً أن أرى حدوداً للشعر، ربما كان هناك حدوداً لشعري، لأن هناك مواضع كثيرة لم أرسله إليها، ولكني أعلم أن هناك من سيأتي ويذهب أبعد..
عباس – تريد من الشعر أن يقول وقائعك وأشياءك وأصدقاءك، هل تريد من الشعر أن يحيط بك حقاً ؟
منذر- ربما كسوار، نعم. أو كسور.. انتق أنت الكلمة الصحيحة.. عندها أنا من يخرج ويدخل منه وقت يشاء ومن يشاء!! نعم أردت أن يحيط بي الشعر كسور، لأحتمي به، ولأختبئ خلفه، ولو كان سوراً من الوهم. في أحد صوره الشعر حجاب، قناع نخفي به صورتنا.. حتى إننا قد نستبدل به وجوهنا : ( قناع يشبهني أكثر مني )
عباس – في هذا الدفق من الكتابة أين تجد فسحة للتجريب؟ أين تجد فسحة للتخلص من أسلوبك والإبتداء بجملة جديدة؟
منذر- أظن الشعر العربي الآن يشبه ( حبك الراكد في الصحن ) لا شيء جديد، جميعنا نقوم بعملية تراكم لا أكثر. واحدنا يتراكم فوق نفسه، والجدد منا يتراكمون فوق السابقين منا.. في ندوة صغيرة أقامتها جريدة الدستور في الأردن عن التحدي الذي يواجهه الشعر الآن، وجدتني أقول: ( لا يبدولي أن هناك جهداً ملحوظاً يبذل في الشعر العربي الحديث الآن.. ) لا أحد يجرب لا أحد يأتي بجديد.. هناك من يتململ، من يريد الخروج من هذا الصحن.. ولكن كل ما يقوم به هو تجريب أدوات آخرين، سابقين أو مجايلين، وكأن المخيلة الشعرية العربية قاصرة على اكتشاف ما هو جديد حقاً.. خذ مثلاً العودة للسردية في نتاج أهم الأسماء الشعرية. تلك التي كان يعاب على النثارين استخدامها في قصائدهم. بالنسبة لي، لطالما رددت وآمنت بقول بريخت: ( جديد سيء أفضل من قديم جيد ).. وقد شعرت بالسقم من أسلوبي حتى كتبت ( تباً لي بات لدي أسلوب ) لذا كثيراً ما وجدت نفسي متورطاً في تجربة ما، من الصعب أن تنال رضا الآخرين بالقدر الذي من الصعب أن تنال رضاي.. ليس فقط الطريقة التي دخلت بها، بل أيضاً في المجموعة المشتركة التي ذكرتها سابقاً ( أنذرتك بحمامة بيضاء ) ثم تلك القصائد التي تنبثق من عناوينها، ومجوعتي ( دعوة خاصة للجميع ) و( دعوة عامة لشخص واحد ) ثم مجموعة جديدة من القصائد التي أصوغها من سطور في مذكراتي أو من ( رجل أقوال ) وهي مخطوطة من أفكار، وخواطر، وأحداث، ومشاهد، وأحلام، أكتبها على هامش مذكراتي، منذ 1973… وكذلك طريقة إلقائي لشعري، مترافقاً مع رسومي.. والتي بقد ما يثني عليها البعض، البعض الآخر يعتبرها بجاحة. وأظن الكثيرين من متتبعي كتابتي، وهؤلاء الكثيرون ليسوا إلا قلة، طبعاً، لا حظوا أن كتاباتي الأخيرة مثل قصائد( أحتاجك كغصن لا يؤلم ) و( قمر نهاري يذوب في ضوء قوي ) وتصادف أني كنت جناحاً من الحنان ) يوجد بها ما يمكن أن تصفه بالجملة الجديدة.. أعتقد.
عباس – أنت تكتب عن كل شيء لكن السياسة تبدو قليلة الحظ في شعرك الذي لا يستنكف كما قلت عن أي شيء!
منذر- تعلم.. أغلب شعري غير منشور، لدي قصائد مثل ( لمن العالم ) و( لم يستطع أن يقول هذا حسن للنهاية ) يمكن اعتبارها سياسية ولكن ليس بصورة مباشرة. حقاً لم أكتب قصائد عن الوضع السياسي في سوريا أو عن حزب البعث أو احتلال العراق، كما لم أكتب عن فلسطين أبداً سوى يوم كتبت عن صديقي أخ غسان كنفاني، نعمان كنفاني ( فلسطيني وسوداني والثالث مغربي ) والتي ختمتها بجملة فظيعة عن فلسطين وهي ( لأنه لا وطن له حقاً ! ) وذلك بدل أن أقول ك ( وكأنه لا وطن له حقاً ).. ربما لأني لست سياسياً مع أني أحد جوقة موقعي البيانات في سوريا منذ بيان ال ( 99 ) لبيان المثقفين السوريين واللبنانيين.. وأكتب مقالات سياسية من حين لآخر.. الأمر الذي تطلب مني أنت ومصطفى وزوجتي أن أكف عنه !!
عباس – ما هذا الميل الشديد لذكر الأسماء، أسماء أشخاص وأماكن. هل هو نوع من الطللية الحديثة، هل هؤلاء الأشخاص وهذه الأماكن أطلالك الخاصة؟
منذر- أظنني حقاً كذلك، أنت تقول، أنا شاعر أطلال، شاعر طللي، هذا يثبت أني أكتب قصيدة لها جذورها العربية أليس كذلك! وأطلالي هذه، قديمة أم حديثة، خاصة أم عامة، لا يهمني لأنه ليس بيدي أن أحدد، شيء ما جعلني هكذا، الذكريات وحدها ما يبقيني حياً، فإنا أشعر بأني لا أستطيع أن أموت بسببها.. ليس فقط الذكريات التي مضت بل الذكريات التي ستأتي أيضاً.. التي لا هم لي إلا أن أصنع المزيد منها.
عباس – الحب موضوع دائم لديك، رغم قلة الحب في الشعر الحديث، وفي قصيدة النثر خصوصاً، لكنك لا تقدم مديحاً للحب، بل مفارقاته وهوامشه. هل تجد أن الشعر العربي الحديث فقير بما هو غريزي وشهواني، هل تجده فقيراً بالرغبة.
منذر- تقول لدي، هل تقصد في حياتي أم في شعري، رغم ادعائي السابق أني أمزجهما معاً في كأس واحدة وأقوم بكرع المزيج بيضاء القعر! ولكن في ( آمال شاقة ) و ( بشر وتواريخ وأمكنة ) لا يوجد قصيدة حب واحدة! الأمر الذي تنبه له رياض صالح الحسين عندما كتب عني، وقال كأن منذر لا يعرف الحب.. فبسبب فكرة كنت أجد أنه من الجيد أن آخذها في اعتباري، وهي أنه لا يجب على الشاعر خلط كل شيء بكل شيء، لذلك عندما نشرت قصائد الحب التي لم أتوقف عن كتابتها قط، اخترت أن تكون بين قصائد مرام ومحمد في ( أنذرتك… ) ثم جمعت كل شعر الحب لعقدين من السنين في مجموعة خاصة ( كن رقيقي ) !! إضافة لفكرة أخرى لا تقل عن الفكرة الأولى التي ذكرت بلاهة، أنه لا يمكن أن تكتب قصيدة جدية هامة موضوعها الحب.. لكن هذا من جملة تلك الأفكار والأحكام التي تركت، أو ربما هي تركتني، فمنذ أواسط التسعينات وجدت نفسي أحاول أن أبقي رأسي طافياً في تيار قوي من المتغيرات في لغتي ومواضيعي وفي أفكاري وكل شيء.. ولكن يبقى أني في عامي 1978-1979 كتبت ( بولينيزات ) ولا أعرف في الشعر العربي الحديث ما يعادلها تركيزاً على محور الجنس والغريزة، وكذلك قصيدة ( ساقا الشهوة ) التي لم تنشرها مجلة الآداب في عددها عن الرقابة في سوريا لأنها برأي رئيس تحريرها قصيدة بورنو.. أما ما أجد الشعر العربي الحديث فقيراً به، فهو الامتاع، ليس فقط بما يتعلق بالغريزة والشهوة.. بل في كل شيء.
عباس – في ( الشاي ليس بطيئاً ) ديوانك الصادر مؤخراً يظهر الجدل ويحضر التفكير، أنت هذه المرة توثق لأفكار أكثر مما توثق مشاهد وأحداث. ما الذي أخذك لهذا المنعطف، هل هو النضج، هل هو السن؟؟
منذر- في شعري القديم والجديد.. أجادل وأفكر.. الشعر فن جدلي لطالما صدقت ذلك وعملت به، ومنذ البداية كان للتفكير دور في كتابتي، ألم أقل أيضاً أن الشعر فن المعنى.. ولكني على نحو ما، أجد أنك محق في انتباهك لشيء مختلف في ( الشاي… ) إلا انه ليس الجدل والتفكير بل العكس… العاطفة.. وربما بسبب ما تقول عنه النضج والسن، صرت، عكس مفكر ومتأمل، عاطفياً، عاطفياً أكثر من ساخرٍ ومحايدٍ.. ما عدت أصدق ( حبي لك.. نظرة بحار ) التي كتبتها منذ ربع قرن، صرت ( ذهبت إليك وعدت ولم أعرف مصيري ) وهذا ما علقت عليه أثناء قراءتي لها في عرضي التشكيلي الشعري في كل من مهرجان الملاجة وجبلة.. إن كنت تذكر.. ذلك أني لا أشعر بذلك النضج على الإطلاق، بل بالعكس اشعر بأني بت أكتب قصائد فجة بالأدوات والأسلوب، يرافقها عاطفة وألوان حارة في الصور والمعاني، حتى في قصائد مثل ( صدق حيوانيتي ) و( اطعنه ولا أريد قتله ) تجدني عاشقاً يرتع في الخيبات والخسائر.. عاشقاً يسوق كل شيء للأذى والندم.. قالت لي امرأة بيروتية لم أكن أعلم أنها تعرفني : ( يبدو وكأنك لا تعرف أن تفعل شيئاً سوى أن تزداد رقة ) من هذا يأتي المعنى والشعور الذي أجده في عنوان كتابي ( كن رقيقي ).. عباس أقول لك.. بغض النظر إن كان هذا يتعلق بسؤالك أم لا : ( لا شيء يعادل اللطف ). أتذكر قصيدة بريخت التي يعتذر بها عن عدم لطفنا في هذا الزمن الذي يكاد يكون الحديث عن الأشجار فيه، جريمة.. إلا أني لا أقبل اعتذاره، وأجد اللطف صفة لا يجب أن نفقدها مهما كان حالنا..
عباس – ولكن مع الكبر يغدو الشعر أكثر صعوبة وأقل سيولة..
منذر- عباس… يكفيك كلاماً عن السن والكبر.. الشعراء يحيون في زمن غير زمن الآخرين، للآخرين زمن ولنا زمن.. هذا ما كان يردده لي محمد خير علاء الدين، أحد أهم من عرفت من الشعراء في حياتي.. ولم تسمح له الظروف بنشر مجموعة واحدة، إسأل عنه أدونيس. مرة نشر لكما معاً في أحد أعداد ( مواقف ) إن كنت تذكر، بالتأكيد لا.. فأنت سيد من سادة النسيان.. ولكني أنا أذكر أنها كانت قصيدة رائعة لحد ذرف الدموع! كما أني أريد أن أقول لك، كثيراً ما توقفت عن الكتابة بسبب أن رحت أشعر بسهولة فيها ( وحدي أكره السهولة فيك ) وأول سطر من ( آمال شاقة ) كان : ( أشد ما أكرهه في الياس… سهولته ) أما عن السيولة، فإنها إذا غدت أقل.. فلصالحي.. لأني لسنين أحاول صد اتهامات الآخرين لي بها، ومنذ ساعة أصد اتهامك أنت بالذات.. لكنه صحيح، مع الكبر تقل السيولة، لأنه يكون هناك أِشياء كثيرة سبق وقلتها، أو قلت ما يشبهها، ولأنك سئمت ترداد الأشياء ذاتها ولو بكلمات أخرى، أي ذلك الشعور بأنك قلت ما عندك. أو ربما بسبب ضعف في قوة الغرائز التي تدفعنا لكتابة الشعر، وهذا يذكرني بتعريف لي من بين تعاريف كثيرة وجدت نفسي أعرف الشعر بها: ( الشعر غريزة ) ولا أدري إن كان مثله مثل تلك الغرائز التي يفتقدها عامة الناس عندما يكبرون.
عباس – تعود تورايخ قصائد ( الشاي ليس بطيئاً ) إلى نهاية تسعينات القرن الماضي، ماذا فعلت بعدها في السنين الأخيرة، هل تابعت الخط نفسه أم هناك تغيرات في أعمالك اللاحقة ؟
منذر- ذكرت في سؤال سابق الجدل.. وقلت لك إني شاعر جدلي. إذا سمحت لنفسي بتكرار هذه الصفة.. ولكن غايتي منها الآن أن أقول بأني نظرت إلى شعري دائما، باعتباره حقلا للجدل.. كل قصيدة معادلة جدلية من العاطفة والعقل، العفوية والإفتعال، الخاص والعام، المعنى والشكل… وهكذا كل قصيدة تحتوي على معادلة علي أيجاد حل لها بين أن تكون تشبه غيرها من قصائدي وفي ذات الوقت قصيدة جديدة، أي أن تبقى على ذات الخط وأن تتغير بذات الوقت، وفي كل مرة، لكي تغدو عملاً جيداً وجديداً، يجب أن يكون حلاً جيداً وجديداً.. لا يهم لمصلحة من.. ففث رسوم المرحلة الزرقاء لبيكاسو كان شق العاطفة يغلب كثيرا شق الأسلوب..أما في لوحات فان كوخ فإن العاطفة هي التي تمسك الفرشاة وتقوم بكل شيء.. وأنا أرى أن العالم، البشر قد انتصروا في النهاية للعاطفة. لذا بالتأكيد هناك تغيير في أشعاري التي كتبتها لاحقاُ، وقد نشرت مؤخراً في جريدة السفير وملحق النهار والقدس العربي.. بعضها.. وأظن أن بها تغييرات جلية.. التغيير يقول أنسي ( حق أكيد ).
عباس – حضرت لك مؤخراً القاءً لبعض قصائدك، أنت ترافق قراءتك بعرض بعض رسومك.. ما غايتك من هذا.. إلا يكفي أن تقف وتلقي قصيديتين أو ثلاث أو أربع قصائد وتهبط عن المنبر ، كما يفعل الجميع؟
منذر- أستطيع أن أجيب على هذا السؤال بألف جواب، وذلك عكس تلك الفكرة المعممة التي تقول، هناك أسئلة أكثر من الأجوبة! فمثلاً أستطيع أن أجيبك: أفعل هذا لأني في الأصل رسام، من الرسم أتيت للشعر، وبما أني لا أرسم كما يجب أن أرسم لأكون رساماً، فأنا أقوم بتعويض هذا عند قراءتي لقصائدي، أو أقول لك لأني مختلف، لأني، عن قصد، أريد أن أكون مختلفاً! لأن على كل شاعر أن يجد طريقته الخاصة في قراءة شعره.. أو لأني أظن أن إلقاء الشعر على المنبر، يلائم الشعر العامودي وقصيدة التفعيلة المقفاة أكثر منه قصيدة النثر. أو أقول إن الناس قد سئمت الطرق القديمة في قراءة الشعر وتريد جديداً .. وهذا سبب انكفائها عن حضور المهرجانات والأمسيات الشعرية.. فأنا بهذا أحرك شيئاً في هذا المشهد الساكن الذي لم يتبدل منذ أيام عكاظ.. نعم أستطيع أن اقول هذا وأكثر، لكن الحقيقة هي أني أجد حاجة لمؤازرة رسمي لشعري، وبالعكس، في حياتي كنت أقيم هذا التحالف، وها أنا أنقله إلى الصورة التي ينظر إليها الآخرون ليروني بها.. ربما أنت تعلم أيضاً حاجة الشاعر لذلك القدر من الطاقة حين يقراً شعره أمام الآخرين، لذلك القدر من تصديق نفسه، وتصديق ما يقرأه! بالنسبة لي لا أستطيع أن أقرا بدون عاطفة قوية في داخلي، من هنا، تجدني أحب قراءة قصائدي الأولى، التي كنت بها شديد الإيمان بنفسي!! أو كما فعلت في الأمسية التي ذكرت، أقرأ قصائد لأختي مرام، ولصديقي محمد سيدة، من شعرهما أستطيع أن أحصل على قدر من هذه الطاقة وهذه العاطفة.
عباس – كتبت كثيراً.. يمكن لذلك السؤال عن مشروعك الشعري، ماذا بقي أمامك لتفعله ؟
منذر- أولا ساقوم بايجاد طريقة لنشر مخطوطاتي كلها، من ( آمال شاقة ) و ( كن رقيقي ) و ( داكن ) و( بولونيزات ) كاملة و( المعلقات ) كتاب القصائد الطويلة، ثم ( الصدى الذي أخطأً ) الذي تضمنت مجموعتي ( مزهرية على هيئة قبضة يد ) أغلب قصائده.. ثم ( دعوة خاصة للجميع ) و ( دعوة عامة لشخص واحد ) التي كتبتها بمعظمها عام 2002.. كما أني أحضر الآن لمجموعتي جديدة من أشعار السنوات الأربع الماضية، نشرت عدد من قصائدها في السفير وملحق النهار والقدس العربي والدستور.. على أنه سيصدر لي قريباً الطبعة الثانية من ( بشر وتواريخ وأمكنة ) فيؤلف عند جمعه مع ( آمال شاقة ) و ( كن رقيقي ) التي كادت أن تصدر لولا أن أغلقت مؤخراً دار البلد للطباعة والنشر.. وربما ايضاً ( داكن ) المشذب، لأن قصيدة ( ساقا الشهوة ) صارت من ضمن قصائد ( بولونيزات ) الذي لا أدري أين يمكن لي نشره.. هذه المجموعات الأربع أقول تصلح لأن تؤلف الجزء الأول من أعمالي الشعرية… أما الجزء الثاني، ف…. وهكذا ترى أني سأستغرق الكثير من الزمن الباقي لي حياً، من مستقبلي في لملمة ماضيي !!، نعم أشعر بحماقة قول كهذا. وأعلم أنه كما فعل سابقاً، سيشغلني عن كتابة الكثير من قصائدي الجديدة، وأنه عمل مضجر ومقيت، أن أشغل نفسي، بأشياء هذرت بها وصارت من مخلفاتي.. ولكن لا مفر لي من أن أفعل ذلك لأنه إن لم أفعله أنا.. لا ولن يستطيع أن يفعله أحد آخر، من كان يكن. وأظنها فكرة جاحدة أن أرمي ما سبق واستغرق مني نصف حياتي في سلة النسيان دون أن ألوي على شيء… إلا إذا مت، أو بتفكير أكثر تفاؤلاً، قطع طريقي حب كبير يخطفني مقتلعاً إياي من جذوري.. فيشغلني بحاضره عن ماضيي وذكرياتي، وكل أولئك الموتى الذين عندما أمرني السيد أن أدعهم يدفنون موتاهم وألحق به.. لحقته مجرجراً موتاي في قلبي.
حاوره : منذر المصري