منذ عام 1974 تاريخ صدور أيها الطاعن في الموت، أولى مجموعاته الشعرية، يواصل بول شاوول تشريع كتابته على التجريب والاختبار، منقِّباً عن الكنوز والينابيع والغيوم والأمطار العالية، كاشفاً الآفاق، مغامراً، على ثقافة، متابعاً مهمة الشاعر المطلقة في ارتياد الحرية والمجهول، معلِّياً الجسور التي تقرِّب بين الثقافات وجوانب المعرفة. في هذه المجموعة الصادرة حديثاً عن دار الريس للكتب والنشر تحت عنوان كشهر طويل من العشق، يواصل شاوول طرق باب التجريب، فاتحاً الضوء والعتمة على آخرهما. ههنا حوار معه.
***
ما هي الإضافات التي أدخلتها على تجربتك من خلال المجموعة الجديدة؟
الشاعر لا يعرف عادة ما هي الإضافات الحقيقية التي يمكن أن يكون أضافها؛ ذلك أن الإضافة ليست قراراً مسبقاً، وليست نظرية، ولا حتى هي محاولة انقلاب للشاعر على نفسه. في وجه يسقط ولا يصل، مثلاً، كان هناك قاطع كبير بين هذه المجموعة والقصيدة التي سبقتها “بوصلة الدم”، أو المجموعة التي سبقت هذه الأخيرة، وهي أيها الطاعن في الموت. في وجه يسقط ولا يصل كتبت ما سُمِّي آنذاك “قصيدة البياض”، أي القصيدة المفتوحة المكثفة التي تترك كثيراً من الظلال في ما يسمَّى “المعنى الناقص” أو “الإيحاء الناقص”. وقد بدأت في هذه القصيدة بكتابة قصيدة من سطرين أو ثلاثة أسطر؛ وهذا كان جديداً على الشعر العربي، انتشر بعدها وما زال منتشراً.
الهواء الشاغر كانت محاولة إيصال القصيدة إلى أقصاها، إلى تطرُّفها، حيث إن الكلام التبس مع فراغ الصفحة، فصار كلٌّ منهما امتداداً للآخر. أي أن البياض لم يكن تزيينياً ولا تجميلياً، بل كان جزءاً عضوياً من بنية القصيدة. طبعاً هذه الصيغة الجديدة استدعتْ نوعاً من الالتباس مع كثير من الشعراء، لا سيما الستينيين منهم. وأذكر أن بعضهم قال: ماذا يكتب بول شاوول؟ أيجعل من كلمتين قصيدة؟ ولماذا هذا التدمير البنيوي لجسم القصيدة وتواصل عناصرها الظاهرية؟
في موت نرسيس لعبت اللعبة المضادة، الغنائية المتدفقة، حيث إن الجسد وحالاته كانت محور ذلك النص. لكني عدت في أوراق الغائب لأجمع بين مختلف الكتابات السابقة في قصيدة طويلة مبنية على المقاطع، لتتصل في جَوَّانيتها وتشكِّل المناخ العام. لعبت لعبة التدفق الملجوم، والغنائية المحجبة، ولعبة البياض الإيحائي، كأن هذه التجربة قد اختزلت ربع قرن من الشعر. بعد أوراق الغائب كتبتُ نصوصاً كثيرة – وكنت في قبرص آنئذ – فصُبَّت كلُّها في أوراق الغائب. عند ذاك خفت من التكرار؛ فالتكرار أحياناً يعني الطريق المسدود؛ أي أن الشاعر يصير صدى نفسه. فكما لعبت في موت نرسيس اللعبة المضادة لـالهواء الشاغر، قلت: عليَّ، لأتخلص من أوراق الغائب، أن ألعب اللعبة المضادة، أي محاولة كتابة نص ناثر ملموس، شهواني، مشهدي، تكون اللغة فيه آتية من مكان آخر. كتبت أول مقطع من “نساء” وقلت: لا بأس بهذه البداية – أي هي لغة ملموسة تستنفر التراث القديم من دون أن تقع في متحفيَّته – وكتبتُ حوالى سبعين مقطعاً على هذا المنوال، استبقيت منها ثلاثين. وعلى هذا المنوال كتبت كشهر طويل من العشق بين عامي 1995 و 1996، ونُشِر في ملحق جريدة السفير الثقافي حيث كنت أعمل مدير تحرير للقسم الثقافي.
الشاعر مدرسة ذاته
تبرز اللغة في المجموعة كأداة رافعة للنبرة الشعرية. كيف تقرأ في ذلك؟
اللغة ليست مجرد أداة فقط، وليست فقط مجرد تعبير عن حالة ما، أو مشهد، أو فكرة، إلخ. اللغة أحياناً تجعل الأفكار والعواطف أداة لها إذا عرف الشاعر كيف يستخدمها إلى أقصى درجاتها وأبسط طاقاتها، من دون أن يقع في الشكلانية. وهذا لا يعني أن اللغة هي هدف أو أن الابتكارات اللغوية هي هدف أيضاً. هناك جدل وهناك حوار خصب بين الشاعر وحالاته وبين اللغة؛ أحياناً ينتصر هو عليها، وأحياناً تنتصر هي عليه. وأظن أن على الشاعر، عندما يكتب القصيدة، أن يحاول أن ينتصر على اللغة كتدفق أول، أو كطاقة، أو كمخزون تاريخي. هذه المسألة لم تُحسَم بعد: فبين أن يكون الشاعر هو صانع القصيدة، وأن تكون القصيدة هي صانعة نفسها، هنالك فرق كبير ما زال قائماً. الرومنطيقيون، مثلاً، كانوا يعتقدون أن القصيدة تهبط على الشاعر، كالمعجزة، في شكلها النهائي، وما على الشاعر سوى أن ينقل هذه التجربة من دون أن يتدخل. ولهذا كان هناك كلام على الوحي، وعلى ربة الشعر، وعلى الإلهام، إلخ. المدرسة البرناسية، والرمزية من بعدُ، وخصوصاً من خلال مالارميه وفاليري، جعلت من الشاعر سيد اللغة وصانعها، وليس صنيعاً لها. في الأربعينات، مثلاً، احتدم هذا الصراع في لبنان بين اتجاهات رمزية تنفي العفوية وتجعل من الشاعر كالنحات الذي يحوِّل الحجر عبر الحذف من اللاشكل إلى الشكل، عبر وعي حادٍّ لعمله. مثَّل سعيد عقل هذا الاتجاه في “قدموس” و”بنت يفتاح” و”المجدلية” إلخ. الاتجاه الرومنطيقي الذي تكلَّمنا عنه مثَّله الياس أبو شبكة الذي كان يعتبر أن القصيدة لا تحتاج لمن يصنعها. ويومها وصف الياس أبو شبكة سعيد عقل بـ”النجار”، وردَّ سعيد عقل، متَّهماً الشعراء الرومنطيقيين بالميوعة. ثم جاء السرياليون في الغرب، ونقلوا سيادة الوحي من فوق إلى اللاوعي، إلى الذاكرة، إلى الطفولة، إلى كتابة لا تخضع لرقابة العقل والوعي. بالطبع نذكِّر هنا بأن السريالية طلعت من الدادائية وزعيمها تريستان تسارا. السرياليون سرقوا التجربة الدادائية، وانفصل بروتون عن الدادائية وأسَّس السريالية مع رونيه شار وبول إيلوار وأراغون. السريالية هي اللعبة الرومنطيقية المقلوبة: أي في كلتا الحالتين، يخضع الشاعر إما للوحي، وإما لطغيان اللاوعي. في الستينات، عندنا، أفُلتْ الرومنطيقية والرمزية، لتفسح في المجال أمام التأثيرات السريالية التي ظهرت عبر بعض شعراء مجلة شعر عندنا، وبعض الشعراء في مصر، كجورج حنين. واليوم، بعد زوال هذه المدارس وقوانينها وإلزاماتها، تحولت إلى مفردات؛ أي أن الشاعر يستطيع أن يستفيد من السريالية والرمزية ومن الاتجاهات اللغوية استفادة فردية خارج طغيان المدارس؛ صار كل شاعر هو مدرسة ذاته. وأنا شخصياً استفدت من كل هذه المدارس، ولكن ملتُ، وأميل، إلى أن الشعر هو صانع القصيدة.
الشعر لمن سيأتي
تحدثت عن استفادة شاعر من آخر؛ هل تمت هذه الاستفادة بين الشعراء اللبنانيين أنفسهم؟
في الواقع لقد تمَّت إلى حد كبير بين شعراء الأربعينات والستينات حتى الثمانينات، وأتمنى أن تكون قائمة أيضاً مع شعراء التسعينات. مثلاً خليل حاوي تأثر بالياس أبو شبكة وكذلك بدر شاكر السياب، ويوسف الخال وأدونيس تأثرا بسعيد عقل، على الأقل في البدايات، وشوقي أبو شقرا استفاد من لغة أمين نخلة إلى حد ما ومن السريالية.
جيل السبعينات تعدَّدت تأثُّراته. فهناك من تأثر ببدر شاكر السياب والبياتي وبلغة سعيد عقل، من دون أن ينأسر بها، كمحمد علي شمس الدين وجودت فخر الدين وشوقي بزيع. وهناك البعض الآخر تأثر بمناخات مجلة شعر وقصيدة النثر والسريالية والرمزية معاً. أنا شخصياً استفدتُ من لغة سعيد عقل، وكذلك من قلق القصيدة الجديدة آنئذٍ التي كان يمثلها أنسي الحاج، أدونيس، الماغوط، إلخ.
جيل الستينات كان محظوظاً لأن الجيل الذي أعقبه تواصل معه وقدَّمه نقدياً أيضاً بطريقة لائقة وجديدة. نحن جيل السبعينات كنا محظوظين، إلى حد ما، وقد جاء بعدنا بعض الشعراء المثقفين الذين ساهموا في تقديم تجربتنا وساهمنا في تقديم تجربتهم.
الحرب التي ضربت البنية التحتية الثقافية كأنما أوجدت هوة قد لا تكون عميقة بين جيل السبعينات والثمانينات وجيل التسعينات؛ لكن هذه الهوة غير محسومة لأن البعض من هذا الجيل تواصل معنا بوتائر مختلفة. ما أريد أن أقوله في هذا السياق أن الشاعر لا يكتب عادة لمن سبقه ولكن لمن سيأتي. أنا أيأس إذا شعرت أن الجيل الجديد اليوم لا يبني عدَّته الشعرية والثقافية بناء متيناً، أي لا يكوِّن شعرية خصبة وعقلاً نقدياً متنوراً. وأظن، أو أحلم، أن تكون الأجيال التي تأتي بعدي، أو بعد الشعراء الذين أنتمي إليهم، أكثر ثقافة منا؛ أي أن يستفيدوا من كل التراث العربي والأجنبي ومن كل تجاربنا وأن يتجاوزونا. هذا حلم أتمنى أن يتحقق لأن هذه الأجيال، إذا كانت هشة الثقافة اللغوية والشعرية والنقدية، فهذا يصيب كل مخزون الشعر العربي. التراث يموت عندما لا نجد من يقابلُه مقابلة الندِّ للند، أي معرفته ومعرفة التراثات الأخرى كي نتمكن من الاستفادة منها. أخاف أن أقول إن بعض من جاء بعدنا، لا سيما اليوم، مبتور عن الماضي الشعري المتراكم ومحصور ببعض الشعراء الحديثين والجدد؛ وهذا محزن، وأتمنى أن لا أكون مصيباً في تخوُّفي. فعلى هذا الجيل أن يقرأ، وإذا لم يكن على معرفة بلغة أجنبية، فعليه على الأقل أن يتعلَّمها، وأن يقرأ التراث القديم بنثره وموزونه، والشعر الحديث والشعر العالمي. فعلى الشاعر اليوم ألا يستسهل الشعر وألا يهمل ثقافته الشعرية. عليه أن يكوِّن ذائقته الشعرية الصعبة قراءة أو كتابة.
يُكتَب في هذه الأيام عن “جدوى” الشعر وما إلى ذلك؟
حول جدوى الشعر أكتب منذ خمسة وعشرين عاماً. كانوا يقولون إن الشعر عليه أن يحمل هموم المجتمع وأن يكون جزءاً من المؤسسات الحزبية والتربوية، أي أن يكون ملتزماً، ذا وظيفة ما، إيديولوجية أو سياسية. أنا شخصياً لا أرى للشعر أية وظيفة. الشاعر يبشر بالشعر فقط؛ فلا هو داعية اجتماعي ولا إيديولوجي. والمقولات التي كانت تتردد بأن الشاعر يجب أن يغيِّر العالم والناس والمجتمعات بدا اليوم أنها هي التي تغيرت. أجمل ما في الشعر اليوم أنه صار بلا جدوى. بعد انهيار الإيديولوجيات والأحزاب والأفكار الجاهزة صار الشعر حرية ذاته، تحرَّر من هذه القيود ونفض جناحيه في فضاء بلا حدود، أي في فضاء شعري خاص، أي في لا جدواه، أي في مجَّانيته الخصبة.
*** *** ***
عن النهار