إذا كانت بلاد ميزوبوتاميا عامةً قد أنتجت الظاهرة والممارسات الدينية في إطارها الطقسيّ, فإن بلاد فارس والميديين هي التي أعطت لتلك الممارسات والطقوس معنىً تأمليّاً وفلسفيّاً
نايف جبيرو
تشكّل دراسة الظاهرة الدينيّة في حياة الشعوب إحدى المداخل الرئيسة والأساسية لمعرفة حياتها الروحيّة وطبيعة نمّوها ونضوج حضاراتها وأسباب سقوطها واندثارها, فأول صرخة تضرّع أطلقها الإنسان للقوى الإلهية؛ لم تكن صرخة عابد يطلب خلاص الروح, بل صرخة جائع يطلب حفظ الحياة في الجسد, فالظاهرة الدينية إذاً قديمة قدم الإنسان نفسه, ويخطأ من يعتقد بأنّ البشرية منذ أن وجدت والكون منذ أن خلقت هي قائمة على الثقافة الذكوريّة البطريركية, والإله الواحد, كثقافة وكمعتقد للبشرية. إذْ تشير الأبحاث والدراسات التاريخية، الأركيولوجية (علم الآثار والحفريات)، الأنثروبولوجيا (علم الإنسان), ودراسات الباليونتولوجيا (علم حياة ما قبل التاريخ) أنّ حقبة العصر الحجري تشكل ما يزيد عن 99% من تاريخ الإنسان.
لهذا ولكي نفهم حقيقة الظاهرة الدّينية وتأثيراتها بشكلها الواسع, لا بد وقبل كل شيء من استيعاب وفهم أول حضارة بشرية ناضجة بعد اكتشاف الكتابة وتدوين التاريخ.
الحضارة السومريّة التي ظهرت في الألفية الرابعة قبل الميلاد من خلال ظهور المستوطنات الأولى التي تحولت إلى مدنٍ مثل (أوروك وآيزيدي، كيش، لارسا، أور، أريدو وآداب وغيرها), والتي يمكن متابعة آثارها وبصماتها في حضارة شعوب وادي الرافدين ومعتقداتها الدينية في الفترات اللاحقة للعهد السومري وفي كافة مجالاتها, فعلاوة على أساطير الخلق والتكوين وأصول الأشياء والملاحم الدينية, والتراتيل والطقوس والأدعية والصلوات, ظهرت جداول بأسماء الآلهة ومهامها والأرواح الخيّرة والشريرة, نصوص الفأل وقراءة الطالع والنصوص السحرية وطلاسمها, تعاليم إقامة الشعائر وتقديم النذر والقرابين وإقامة الطقوس الدينية. جداول بأنواع الاحتفالات والأعياد الدينية, الرقى والتعاويذ الطقسية, جداول بالمخلفات الدينية منها المعابد والزاقورات, والتماثيل والنصب والألواح الجدارية, والأختام الاسطوانية والأواني الفخارية. تلك الآثار التي لا يمكن إغفالها أيضاً في مجالات القصص والأساطير والملاحم الأدبية, إضافة إلى تلمّس تلك الآثار في مجال القانون والقضاء والفلك والطب وتسيير وترتيب أسس النظام العائلي.
ولعلّه من الأمور الملفتة في ديانات وادي الرافدين تلك كثرة عدد الآلهة التي تتراوح حسب بعض النصوص اللاهوتية بين /2000- و 3000/ آلهة وقد تمثّلت صلة الإنسان بتلك الآلهة كصلته ببقية الناس, لكنّ الإنسان -ومنذ تلك الفترات التاريخية- قد صنّف تلك الآلهة إلى مستويات متباينة من حيث الأهمية والقدرة والمنزلة في العبادة والتقديس, ولهذا كان الفرد من عامة الناس مهتماً بعدد محدود من الآلهة التي تساعده في حياته اليومية سواءً بالعلاقة مع حقله أو حمايته من هجمات الأرواح الشريرة كالشياطين والعفاريت, أو تحذّره من الأخطار المحدقة به أو تحقق توسلاته وتضرّعه.
وفي حالات الطوارئ الخطيرة يمكن التماس عون الآلهة الكبيرة بواسطة الكاهن الذي كان يُعتبر الوسيط بين الإله وبقية العباد, أو بشكلٍ مباشر من خلال الإله الشخصي الذي يتواجد دائماً كالملاك الحارس إلى جانب المتعبِّد, لكن من الملفت أنه لم يكن كثرة عدد الآلهة وتنوع أعمالها ومهامها محصوراً بشعبٍ دون آخر, فقد عُرِفتْ الآلهة نفسها عند شعوبٍ أخرى مجاورة بأسماءٍ أخرى ولكن بنفس المهام والوظائف, فالإله السومري “آنو” إله السماء, و”كي” إلهة الأرض, ومن تزاوج الإثنين ولد إله الهواء “أنليل” الذي خلّف جيلاً من الآلهة, فابنه إله القمر سماه السومريون “نانار” وأطلق عليه الأكاديون اسم “سين” الذي خلّف بدوره ولدين أحدهما “أوتو” إله الشمس عند السومريين و “شمش” عند الأكاديين, وميثرا لدى الهندو آريين والثاني إلهة الخصب “إنانا” عند السومريين و”عشتار” عند الأكاديين, وأناهيتا لدى الهندو آريين والملاحظ في أسماء الآلهة, أنها جميعاً ارتبطت بالقوى الطبيعية المحيطة التي أثارت خيال الإنسان الرافدي القديم ومخاوفه وآماله, الذي أرجع جميع التغيرات والتحولات والكوارث الطبيعية إلى الإرادة السماوية أو إرادة الآلهة، ممّا كان من شأنه أن أحدث في وقتها من تحولات كبيرة في حياة الإنسان وخاصة في مجال الزراعة كظهور المحراث السومري الذي زاد في كمية المساحات المزروعة, مما أدى إلى زيادة الانتاج فتحقق بنتيجتها الرخاء الذي كان له الأثر في التحولات الاجتماعية وهذا ما ترك أثره واضحاً في البنى الفكرية السومرية ومن ثم الأكادية, والشعوب والأقوام الأخرى فأنتجت أساطير وآلهة ذات علاقة بالرعي والزراعة وتربية الحيوان, فالإله “لاخار” هو إله الغنم والماعز وأخته الإلهة “أشنان” هي التي بذرت أول حبة في الأرض, إلى جانب أسطورة موت وبعث آلهة الخصب “عشتار” وزوجها “تموز” الذي بهما تتبدل فصول السنة من شتاء وربيع وتنمو الحبوب المزروعة.
لقد اعتبرت شعوب الرافدين وشمال موزوبوتاميا القديمة, الكوارث الطبيعية الضارة بهم على أنها من صنع الآلهة الغاضبة والمستاءة من الأعمال الشريرة التي يقوم بها البشر, واعتبروها عقاباً للبشر, وبرز هذا الاعتبار واضحاً من خلال أسطورة الطوفان السومرية أو إينوما إيليش البابلية الرافدية, التي استهدفت من خلال السياق الاسطوري الفناء البشري, لكنها في الحقيقة جاءت كنتاج لواقع البيئة المعاشة نتيجة فيضانات الأنهار التي كانت تغمر مساحات واسعة, ظنّ سكان المنطقة أنها تشمل العالم بأسره.
قصة الطوفان الذي ينقذ فيها “زيوسودرا” بطل الأسطورة السومرية, و”أوتنابشتيم” بطل الأسطورة البابلية, و”نوح” بطل الأسطورة التوراتيّة من خلال السفينة, الجنس البشري من الفناء وبإيحاءٍ من الآلهة أنفسهم والتي تتكرر الشخصية بقصتها وبمسمياتها المختلفة في فكر وأديان المنطقة من سماوية وغير سماوية وبما فيها الديانة الإيزيدية, والتي وظّفها كلّ دينٍ بالشكل الذي يناسبه حسب بيئته الفكرية والاجتماعية.
“فقد ورد في المصادر التاريخية أنّ شعوب جبال زاغروس وطوروس والهضبة الإيرانية، هي أولى الشّعوب التي عبدت آلهة كثيرة ومتعدّدة, واعتبرت الآلهة العنصر الأساسي والرئيسي لصياغة الأساطير ولعبت دور البطولة وكرّست لتلك الآلهة طقوساً للعبادة والتقديس“
أسطورة صراع الإله الآشوري الشاب مردوخ ابن إله الحكمة “إيا” مع الأم الكونية الكبرى تيامات وفرض جميع شروطه على مجمع آلهة بابل وحيازته لقوة تقرير المصائر وقوة الكلمة الخالقة واستلائه على ألواح الأقدار وتعليقها على صدره, وأسطورة زيوس كبير آلهة الألمب الإغريقية، وأسطورة عناة وبعل الأوغاريتية, ثم أسطورة هبوط الإلهة إنانا إلى العالم السفلي مع تلك المراثي السومرية والأمثال الشعبية والأدعية والنصوص الدينية والشّعر الغنائي, التي تماثلها أسطورة عشتار وتموز البابلي, وأسطورة هاديس وبيرسفوني الإغريقية, وملحمة “إينوما إيليش” البابليّة الشعريّة الجميلة عن نشأة آلهتهم ووظائفها وعلاقاتها تعطي الصورة الواضحة من التمازج والتداخل بين ثقافات الشعوب لمعالجة قضايا روحية وفكرية متشابهة.
ثم تأتي الملحمة الأدبية الرافدية الرائعة “ملحمة كلكامش” ملك أوروك, المحشوة بالتأملات الفلسفية والميتافيزيقية حول الموت والحياة والعالم الآخر بجنته وجحيمه, ورحلته الشاقة والطويلة في البحث لإيجاد الدواء والخلود لمعضلة الإنسان الأزلية في الشيخوخة والمرض والموت, ومحاكاته لروح صديقه “أنكيدو” بعد موته بغية معرفة القوى الغيبية التي وجدت لها الطريق في معتقدات شعوب بلاد الرافدين, بل وتعدّتها إلى معظم الفكر الديني في الشرق القديم، بل ونجد آثار ملحمة كلكامش وأسطورة الطوفان وأسطورة آدبة وغيرها في كتاب التوراة كسفر الجامعة وقصة آدم وحواء وأسطورة مار جرجيوس في المعتقد المسيحي وقصة سيدنا الخضر وذو القرنين في الموروث الثقافي الإسلامي بل وتعدى الأمر إلى التأثير في الأساطير الإغريقية في ملحمة الألياذة والأوديسا لهوميروس في معضلة كعب آخيل.
” كما واعتقد الإيرانيون القدامى أنّ للطبيعة قانوناً تتحرك الشمس على أساسه بانتظام وتتبدل الفصول بموجبها, وقد سمّي هذا القانون آنذاك باللغة الفيدية “رتا” وباللغة البهلوية “آرتا” وفي اللغة الأفستية بـ”آشا” والتي تعني (الحقيقة-النظام) “
لقد انتقلت وتمازجت تأثير تلك التأملات الفلسفية, وقصص وأساطير الآلهة في البنى الفكريّة والاجتماعية والاقتصادية مع ما كان لدى الشعوب المجاورة ومنها معتقدات وأساطير شعوب شمال بلاد الرافدين, الكاشيين والعيلاميين والگوتيين والميتانيين والحوريين والحثيين, فالشعوب والقبائل الآرية لم تكن بمعزلٍ عن فكرة تعدد الآلهة وقوى الطبيعة ومهامها المتنوعة, كما أنها لم تكن أيضاً بعيدة عن التأثير والتأثر, فالخصائص الأصلية لهذه الآلهة قد أثّرت وتأثرت بملامح الآلهة السومرية والأكدية والسورية المماثلة لها, كما في حالة آلهة آسيا الصغرى التي اتصفت بتبنيها ملامح الآلهة الحورية المماثلة لها ذات الصفات المشتركة كإله الطقس “تشوب” الحوري وزوجته “هيبات” الذي كان يحتل قمة مجمع الآلهة في بلاد الحوريين بعد أن تمكن من القضاء على أبيه وكبير آلهة الحوريين “كوماربي” المماثل للإله البابلي “مردوخ” والإله “آمون” في مصر الفراعنة, و”بعل” الأوغاريتية, بل وارتقت الأفكار الدينية والتأملات الفلسفيّة في عموم المنطقة بقدوم موجة آرية استقرّت في الهضبة الإيرانية, فارس وميديا, تمثّلت بقيام الدولة الميدية التي دامت ما يزيد عن قرنٍ من الزمان, تهيأت لها الظروف لتكوّن مخزوناً من المعتقدات الآرية ومكاناً متفاعلاً مع كلٍّ من جارتها من الشعوب والأقوام, تلك الفترة التي ظهر فيها زرادشت والديانة الزرادشتية ليحدث ثورة في معتقدات المنطقة والعالم, ولتصبح الأساس الفكري لتلك المعتقدات التي تلتها في المرحلة الزمنية, ولتكون الطريق المُمهِّد إلى ظهور عقيدة التوحيد التي انبثقت منها الديانات الإبراهيمية (السماويّة) الثلاث.
فقد ورد في المصادر التاريخية أن شعوب جبال زاغروس وطوروس والهضبة الإيرانية هي أولى الشعوب التي عبدت آلهة كثيرة ومتعدّدة, واعتبرت الآلهة العنصر الأساسي والرئيسي لصياغة الأساطير ولعبت دور البطولة وكرّست لتلك الآلهة طقوساً للعبادة والتقديس, إلى جانب عبادتهم للنار والماء, وقد كان البعض من تلك الآلهة ترمز لظواهر الطبيعة, كآلهة الأرض والسماء الذين سماهم الإيرانيون بـ “آزمان” السماء, و”زام” الأرض, وآلهة الشمس والقمر ” خورشيد” و”ماه” وإلهين للرياح بـ اسم “فاتا” و “فايو” وقد عبد “فاتا” كإلهٍ لنفخ الرياح التي تستقدم الغيوم الماطرة, المماثل لإله العرب القدامى “قزح” كإله للرعد و”حدد” إله الرعد الأوغاريتي أمّا “فايو” فقد اعتبر في “ريگفيدا” روحاً للآلهة وهو في نظر الإيرانيين القدامى نَفَسَ الحياة وروحها, وهو بذلك رحيمٌ عندما يناصرونه, ورهيبٌ عند معصيته.
كما واعتقد الإيرانيون القدامى أنّ للطبيعة قانوناً تتحرك الشمس على أساسه بانتظام وتتبدل الفصول بموجبها, وقد سمّي هذا القانون آنذاك باللغة الفيدية “رتا” وباللغة البهلوية “آرتا” وفي اللغة الأفستية بـ”آشا” والتي تعني (الحقيقة-النظام) وقد كان لمفهوم “آشا” معنىً أخلاقياً كونها تقود تصرفات الناس التي يجب أن تتصف بها كالحقيقة والعدالة والاخلاص, هذا واعتبرت الفضيلة, النظام الطبيعي للأشياء أمّا الخطيئة والشر فاعتبرا خرقاً لذلك النظام. ولهذا فكلمة “آشا” هي النظام عندما كان يدور الحديث عن العالم المادي, وهي الحقيقة والعدالة والاخلاص عندما كان يدور الحديث عن الأخلاق.
وقد سمّي الكذب وتحريف الحقيقة المناقضة لـ”آشا” بـ”الدروژ” باللغة الأفستية, ومن هنا انقسم الناس حسب هذا التصور إلى “آشافان” أي المناصرون لـ”آشا” و”دروژفانت” المناصرون للشر.
“يغمس المتهم في الماء ويمسك برجليه ثم يلفظ هذه الكلمات “فارونا دافع عني بالحقيقة” وفي هذه اللحظة يطلق سهماً, ويجري خلفه أسرع عداء بينهم, فإذا عاد العدّاء وما زال المتهم حيّاً فهذا يعني بأنّ فارونا إله القسم قد رحمه وأثبت براءته, وإذا مات فهذا يعني بأنّه كان مذنباً وقد نال جزاءه”
وقد اهتم سكان سهول ميزوبوتاميا في العصر الحجري بالعلاقات الاجتماعية المنظّمة, وذلك بسبب حاجتهم لعقد اتفاقات تتعلق بشأن حدود المراعي الفاصلة فيما بين مناطقهم, ومن هنا جاءت الحاجة والضرورة لتقديس وعود الإنسان ومنها تقديس القوانين المنظمة للعقود والاتفاقات, وقد جذب هذا الأمر اهتمام الكهنة وكاتبي القوانين كثيراً, كتعبير لتبجيل “آشا” وفي هذا المجال ظهر لديهم نوعين من الواجب, أولها الحلف أو اليمين المقدّس المسمّى بـ فارونا, والتي يعتقد أنها جاءت من الأصل الهندو أوروبي “فير” بمعنى الربط والتي يعتقد بأن الكلمة الكردية mêr”مير” مشتقة منها. وثاني أنواع الواجب كان العقد أو الصلح المسمّى بـ”ميثرا” واعتقد أنه وفي حالتي الواجب تذوب القوة في الاتفاق؛ وهي القوّة الإلهية التي تساند الإنسان الوفي لوعده والمخلص لكلمته, وهي في ذات الوقت القوة التي تعاقب بشدة الكذاب والمناقض لوعده.
وهذه القوة تظهر بين الناس عندما يعقدون فيما بينهم اتفاقاً ويحدث أن يخالف أحدهم هذا الاتفاق, عندئذٍ يتم اخضاع المخالف لوعده لاختبار بالماء وذلك عندما يدور الحديث عن القسم, أو بالنّار عندما يتعلق الأمر بعقد بين طرفين, هذا ويوصف أحد الاختبارات بالماء في نصٍ سنسكريتي على الشكل التالي: يغمس المتهم في الماء ويمسك برجليه ثم يلفظ هذه الكلمات “فارونا دافع عني بالحقيقة” وفي هذه اللحظة يطلق سهم, ويجري خلفه أسرع عداء بينهم, فإذا عاد العدّاء وما زال المتهم حيّاً فهذا يعني بأنّ فارونا إله القسم قد رحمه وأثبت براءته, وإذا مات فهذا يعني بأنه كان مذنباً وقد نال جزاءه. أما عن الاختبار بالنّار فقد ورد أنه على المتّهم أن يركض في ممرٍّ ضيّق بين نارين مشتعلتين, فإذا بقي حيّاً فهذا يعني بأنّ “ميثرا” إله العقود قد أعلن براءته.
وضمن هذا السياق كانت آلهة الزرادشتية, “أهورا” و”ميثرا” و”أندرا” و”إيزيدا” وقد تعاظمت مكانة البعض من الآلهة المذكورة لتصل إلى مرحلة التفريد في بعض الفترات التاريخية, كما كان الحال بالنسبة مع الإله “ميثرا” إله الشمس في الزرادشتية دون إمكانية إلغاء الآلهة الآرية الأخرى, تلك المكانة التي أعطت القداسة للنار كأحد أشكال النور التي ترمز إلى الإله أهورامزدا إله الخير والنور, الزرادشتية التي كانت إيذاناً بتحولاتٍ دينيّة وفكريّة وفلسفيّة, مجددة لما سبقتها من أفكار وتأملات بل ومحتوية لها, وأول آثاره الأدبية “الكاتات” والتي تدور فكرتها المحوريّة حول التوحيد, من أنّ الله هو العنصر المركزي والاسم المطلق له “أهورامزدا” وهو اعتراف واضح بالحكمة الإلهية الروحي أكثر منها على العنصر الجسدي للوجود.
والنتيجة إذا كانت بلاد ميزوبوتاميا عامةً قد أنتجت الظاهرة والممارسات الدينيّة في إطارها الطقسيّ, فإن بلاد فارس والميديين هي التي أعطت لتلك الممارسات والطقوس معنىً تأملياً وفلسفياً ونحن هنا إذْ أتينا على سرد الظاهرة الدينيّة بصورتها المختصرة وتبيان ظاهرة تمازج الثقافات المختلفة للشعوب والأقوام التي سكنت وأقامت حضارات بأوجه مختلفة عبر التاريخ الطويل لمنطقة الشرق الأدنى القديم, لنظهر جلياً أنّ ليست هناك ثقافة خاصة وبصورة حصرية بقومٍ دون آخر, وإنّما جاءت الثقافات وعبر التاريخ الطويل للبشرية كسلسلة متصلة, ومتواصلة يؤدي فيها أصحاب كلّ حضارة دورهم في إتمام حلقة من حلقات هذه السلسلة لتصل في النهاية إلى ما وصلت إلينا في الوقت الراهن, هذه الحالة التي لا تنفي بالضرورة الدور البارز في بعض المحطات التاريخيّة لبعض الثقافات في تجميع وترتيب وتطوير الحالة الثقافية إلى مستوى أرقى وأكثر فعالية في مختلف المستويات الفكرية والروحية والفلسفيّة, وتلك مما لا يعتبر نقيصة أو إنكاراً للثقافات الأخرى وبالتالي ألا يمكن للشعوب والأقوام التي تعيش الآن على أرض الحضارات، أن تستوعب هذه الحقيقة وتدرك جيداً بأن الجميع شركاء أصلاء في الانتماء للأرض والثقافة والتاريخ ولا مناص إلا أن يتقبّلوا هذه الحقيقة في أن يعيشوا عيشة مشتركة في فضاءٍ يستوعبهم جميعاً كأمّة ديمقراطية وأخوة الشعوب.
نشر هذا التقرير في العدد /75/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 1/3/2018