*محمد شيخي
لعبت الكثير من المعارك التاريخية دوراً فاعلاً ومؤثراً في مجرى التاريخ وتحويره نحو الهدف والمبتغى لمصلحة الجماهير الشعبيّة، ومدى قدرتها للارتقاء نحو التقدم الاجتماعي، وبعد النجاح في التخلُّص من الطغيان والاستبداد من براثن قوى تسعى للهيمنة والاستحواذ على طاقات الشعوب واحتكارها.
تعّد معركة “ستالينغراد” من أكثر المعارك التاريخية تأثيراً في القرن المنصرم، لا من حيث ضراوتها وعدد ضحاياها وحجم الدمار الذي لحق بها، والأسلوب التكتيكيّ للمعارك- التي امتدت أحداثها ما يقارب الستة أشهر على أعقاب الحرب العالميّة الثانية وحسب-بل من حيث تشبُّث مقاتلي الجيش الأحمر بأرض المعركة الدائرة وببسالة والروح المعنوية العالية التي تمتعوا بها والنّابعة من عدالة القضية وقناعاتهم التي دافعوا عنها، كونها كانت قضية مفصلية هامّة، قضية وجود أولا وجود، لذا استطاعت أن تغّير في مجرى الحرب والتاريخ معاً، وذلك من خلال تحويل التّراجع والاستسلام إلى انتصار وكسر معنويات العدو وهزيمته وتقهقره واستسلامه، وإنهاء حقبة زمنية مليئة بالأحداث الدراماتيكيّة قادتها الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، تشكلت على أثرها منظومة جديدة من العلاقات الدولية مع انفتاح الأفق أمام شعوب العالم قاطبة لتسير نحو الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية.
وبما أن تطور حركة التاريخ متصاعدة أفقياً وعمودياً، والتاريخ يعيد إنتاج ذاته بأدوات وعوامل جديدة أكثر تقدماً و رقياً؛ نجدها الآن تتكرر بذات الزخم الملحميّ في معركة حامي الوطيس تشهد رحاها مقاطعة عفرين بين نظام متغطرس غازي وبين شعب يأبى الخنوع والاستسلام، مدركاً متطلبات المرحلة واستحقاقاتها، بقيادة قواه العسكريّة والسياسيّة، التي تمتلك التجربة الثورية الرائدة في مجابهة الاستبداد والعنصريّة وكل المشاريع الاستثنائية والشوفينية وعلى مدى عقودٍ من الزمن، وبمؤازرة جماهيرية منقطعة النظير؛ مدركة تماماً روح المرحلة الحاليّة وحجم المسؤوليّة والحدث والتغييرات الهائلة التي ستتم أحداثها تحت وطأة الحتمية التاريخية، بعد أن بلغ حجم الاستبداد والظلم الممنهج من قبل الأنظمة الدكتاتورية والفاشية إلى أوجه، وانفتاح الأفق أمام القوى الثوريّة لتعبر عن ذاتها وعنفوانها وتمرّدها على تلك السياسات وقدرتها في دحر الإرهاب والفاشيين الجُدد الذين تم زجّهم في معارك بالوكالة من قبل القوى الرأسماليّة والرجعيّة الإقليميّة التي اعُتبرت أخطر وأشرس عدو واجهته الشّعوب وحركاتها الوطنيّة والديمقراطيّة، ناهيك عن قدرتها في طرح مشاريع ورؤى سياسيّة لإنهاء الأزمة المستعصية التي تعصف بالبلاد، والتي تمَّ تجسيدها على الواقع الملموس من خلال الإدارة الذاتية الديمقراطيّة؛ التي لعبت دوراً رياديّاً في تنظيم المجتمع وارتقاءه إلى أعلى مستويات الدّفاع عن ذاته وكينونته وقدرته في إدارة نفسه وصولاً إلى بناء مجتمع حر ديمقراطيّ من خلال الفيدرالية الديمقراطيّة في شمال سوريا، كحل ناجع لإنهاء تلك الأزمة، وتأسيس دولة سوريّة ديمقراطية تتمتع جميع مكوّناتها بحقوقهم المشروعة بعيداً عن المركزية وعن كل حالات الإقصاء والتهميش والشموليّة والانقسام أسوة بالكثير من الدّول التي تنعم بالأمن والاستقرار والتقدم الاجتماعي في ظل أنظمة ديمقراطية فيدرالية.
تلك المنجزات الثورية التي تحققت بفضل الإرادة الحرة والسلوك الثوريّ في مناطق روجآفاي كردستان وشمال سوريا أثارت من حفيظة الأنظمة الرجعيّة، وفي مقدمتهم النّظام التركي وبقيادة رجب طيب أردوغان؛ الذي يحاول أن يجعل من نفسه سلطاناً عثمانياً دمويّاً من خلال التّهديد والوعيد بدأها من داخل تركيا وقد تجّلى في سلوكه مؤخراً من خلال القضاء على الهامش الديمقراطي الذي كان سائداً، وتعديل الدستور حسب أهوائه وفرض حالة الطوارئ وزجّ الكثير من الشخصيّات الوطنيّة المعارضة في سجونه وتقديم الدّعم والمساندة للقوى الإرهابيّة، متحلياً بامتياز بالثقافة والسلوك المشين للنازي هتلر.
أما على الصعيد الخارجيّ، جعل من ثورة الشعوب نحو الانعتاق من براثن الأنظمة الدكتاتورية هدفاً له سيّما قضية شعبنا الكردستاني التحرريّة في أجزائهِ الأربعة، و محاولات احتلال مقاطعة عفرين إلّا دليلاً على مدى منهجيته المعادية للتجربة الرائدة في مناطق روجآفاي كردستان وقطع أوصال الشّمال السوريّ، مستفيداً من موقع تركيا الجيوسياسي في المنطقة، وخاصة الاستدارة المفاجئة نحو روسيا الاتحاديّة بعد أن فقد الأمل في إقناع أمريكا التعاون معها- فيما تدّعي- بمحاربة الإرهاب وطرد الفاشيين الجدد من بعض المناطق السوريّة وخاصة في تحرير الرقّة والكف عن تزويد قوات سوريا الديمقراطية بالعتاد والسلاح تحت حجج واهية كي يمر مشروعها المُعطَّل والمُعقَّد للوحة السياسيّة في سوريا، و السبب الأبرز في تلك الاستدارة والتي دفعتها بالتدخل المباشر في الشأن السوريّ على مرأى ومسمع العالم الأجمع، ضاربة عرض الحائط كل المواثيق والقوانين الدولية المتعلِّقة بحقوق الإنسان، وحق الشّعوب في تقرير مصيرها والتدخل السافر في شؤون دولة ذات سيادة، إلاَّ أنها اصطدمت بمقاومة شرسة من قبل قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من عموم الشعب في شمال سوريا وبمؤازرتها وكذلك من شعوب العالم التواقة إلى الحرية ،و التي تسجل الآن مآثر بطولية قلَّ نظيرها، خاصة من قوات حماية الشعبية و المرأة والتي سجلت قفزة نوعية لمدى إمكانية المرأة الحرّة في الدفاع والانطلاق نحو فضاء الحرية من خلال تجسيد التضحية الذّاتية في شخصية) بارين كوباني وآفستا خابور)؛ التي جعلت الأرض تهتز تحت أقدام الغزاة، وجعلتها محرقة لكل طاغٍ جبار، كي يدركوا جيداً أي عنفوان يخرج من أرض الزيتون وأي محرقة يزجوّن أنفسهم فيها.
نعم إنّها مقاومة العصر في عفرين، والتي تدل كل المؤشرات الموضوعية مدى حتمية انتصارها، لامتلاكها الوضع الثوريّ المُهيأ تماماً ولتصبح تلك المآثر البطولية قفزة نوعية في تحديد ورسم الكثير من معالم العيش بحرية وطابع العلاقات بين الدول ومدى استئثار الدول المهيمنة على العالم ورسم خارطة جديدة تنعكس إيجاباً على نضالات الشعوب ومدى استقرارها واستقلالها في مختلف الميادين، وترسي لبناء جديد ومُؤثِّر في مجمل الحركة النضاليّة لشعوب المنطقة والعالم قاطبة، تفتح آليات جديدة لبناء علاقات ومصالح اقتصادية متبادلة وعادلة، تضع نهاية للظلم والاضطهاد المستشري والصاعد بعد سقوط التوازن الدّولي في بداية التسعينيات من القرن المنصرم وتؤسس لبناء منظومة جديدة تدير المجتمع الدولي على أسس التوازن والتكافؤ والمصالح المشتركة وتوفر كل مستلزمات الأمن والاستقرار العالمي.
سكرتير حزب اتحاد الشغيلة
نشر هذا المقال في العدد /74/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/2/2018