خاص – Buyer
التقيته صدفة في إحدى خيم العزاء, قدّم إلي فنجان القهوة بعد إن قرأنا الفاتحة، لم تكن ملامحه غريبة عليّ، سألت أحد المعزّين، وكان الجواب أنه الشخص الذي توقّعت.
كانت السنون قد رسمت على محياه الكثير من التجاعيد, وجحظت عيناه، بينما هزل جسده، وفقد نشاطه وحيويّته المعتادة، ذقن طويلة بشعر أبيض، يعتمر قبعة شتوية من الصوف وسترة صفراء بلون فاتح, لاكتها السنون، وأتى عليها الاستعمال، بنطال مخمل بهت لونه البني، ويده التي تغصّ بالفناجين البلاستيكية الصغيرة لا تفارق زناره العريض، يرفعه كل مرة.
هو الفنان محمد سليم تمو من مواليد 1957، من قرية معمرلي، جنوب مدينة عامودا والذي بدأ مشواره الفني منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة كما يقول, حيث بدأ العزف على آلة الطمبور في الخامسة عشرة من عمره، وتتلمذ هو وأخوه محمد أمين تمو على يد والدهم الفنان المعروف “تمي أمينو”.
حضر وعزف خلال مسيرته الفنيّة الكثير من الحفلات في قرى صباحية وقره تبه وسنجق ودوكر ومركبة وعامودا ورأس العين, وسيمتك والكثير الكثير غيرها.
يستذكر تمّو أول حفلة أحياها في عامودا منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة ويقول:” كانت الحفلة عرس سعد مكو في عامودا، كانوا يسكنون في قرية نجاري, وأحييتها مجانا دون مقابل, لأنه كان من العائلة والمعارف, أما أول حفلة مأجورة أقمتها فكانت بحوالي ألف وخمسمائة ليرة، والآن بعد إن أصبح الفنان يقبض الكثير الكثير عن كل حفلة, مرضتُ, وما عدت قادرا على فعل شيء”.
أما آخر حفلة أقامها فكانت في قرية “الصباحية “منذ حوالي العشر سنين، ومن يومها ترك العزف والحفلات, لأن مضخم الصوت وجهازه تعطّلا أثناء الحفل، وما عاد بالإمكان تصليحه، لضيق ذات اليد, ولأن تصليحه حسب ما طلب منه المصلح في قامشلو يكلّف حوالي نصف ثمن الجهاز، وقد لا يفي الجهاز بالغرض بعد تصليحه.
مرّت الأيام والشهور, وساءت الأحوال الماديّة أكثر فأكثر، وداهم المرض جسده، فاضطر لبيع آلة الطمبور، رفيقة دربه – على حدّ تعبيره – وليصرف ثمنها على علاجه وأدويته, بعد إن أصيب بداء السكري في الآونة الأخيرة.
يتحدّث الفنان محمد سليم، وقد اتخّذنا لنفسيْنا ركنا في زاوية خيمة العزاء، بينما عيونه لا تفارق باب الخيمة كي لا يضيّع أثر الضيوف الوافدين, وليقدم لهم ما تيسّر من قهوة:” تضاعف المرض، وكثرت مصاريف العائلة، ولم يبق من ثمن الطمبور الذي بعته شيء، ولم أجد عملاً، واضطررت للعمل بتوزيع القهوة تحت خيم العزاء، فهو عمل خفيف ولا يحتاج لجهد عضلي, وأنا لا أراه معيباً, العيب أن تمدّ يدك للغير”.
ثمن الطمبور الآن يعادل عشرة َأضعاف البيع حينها، وما عاد باستطاعته شراء واحدة جديدة، لذا ترك العمل مجبراً.
كما يتحّدث تمّو عن شهرته حينما بدأ مشواره، وكيف أنه أخذ المهنة عن والده الذي امتهن هذا العمل لخمسين سنة, إذ كان يقيم الحفلات, وكان يعلق طمبوره على صدره ويحيي الحفلة بدون جهاز كهربائي ومضخّمات, بل كان يحييها بالذهاب والمجيء بين المدعوين وهو يصدح بأجمل الأغاني الفلكلوريّة:” وأنا أيضاً مارست هذا النوع من الفن, قبل أن أشتري الجهاز. لقد كان نوعا من الفن الاصيل”.
لـ” تمـّو” كاسيتات كثيرة مسجّلة, أغلبها حصرية لدى محلّ زكي عبدو بعامودا, وهي رقص كردي قديم, وأغاني فلكلورية قديمة من التراث الكردي حسبما يصف.
يعود بوجنتين متورّدتين, وشفاه باسمة وجيب أكثر حرارة. يجلس ويملأ فنجان قهوة متابعاً: ” لي الآن ابنان في كردستان, لم يتعلما العزف على آلة الطمبور بحجة أنه عار ومنقصة, وغير محبب, فقلت لهم: لمَ تقولون ذلك؟ ألم يكن الفنان الكبير محمد شيخو من عائلة محلمية معروفة, والفنان عادل حزني من الشيخان, وسعيد كاباري وهو أصله من عشيرة الكاربارا، ألم يكن كل هؤلاء يعزفون الموسيقى ويحيون الحفلات؟ أولادي نادمون الآن لأنهم لم يتعلموا العزف، والموسيقى، لكني أرى الأمر عكس ذلك, الفن تاريخ وتراث وأمة، ولا عيب من ممارسته.”.
يتأسف الفنان محمد سليم تمّو على وضع الفنان الكردي، وعلى ما آل إليه وضعه، قائلاً: ” عملت لفترة عشر سنين طباخا في المواسم الزراعية مع إحدى الحصادات، رغم صعوبة العمل إلا أني كنت مضطراً، لأعيل أسرتي، وحتى هذه أيضاً ما عاد بمقدوري القيام بها الآن، فكما ترون ان وضعي الصحّي متردّي، ومصاب بداء السكري منذ فترة، ولا يمكنني القيام بأي عمل “.
ويختتم الفنان محمد سليم تمّو حديثه بمناشدة اتحاد فناني الجزيرة للوقوف على وضعه الصحّي والفني:” للأسف لم يسأل عليّ وعلى وضعي أي حزب أو مسؤول كردي, لكن بعض زملائي انضموا إلى النقابة التي أسسوها في قامشلو، أناشدهم عن طريق جريدتكم ضمّي لهذه النقابة, انتشالي من هذا الوضع، مدّ يد العون العاجل ومساعدتي لشراء جهاز جديد لأعود لحياتي الفنية، لأني أؤمن بأن الفن لا يقف عند المرض والإعاقة”.