حوار مع الشاعر البحريني : قاسم حداد

 

 

 

 

 

 

من الصعب أن يتعرف المرء على كل أعمال الأديب البحريني قاسم حداد لأنه لا يمكن مقارنته بشجرة واحدة مثمرة فهو غابة نخيل لا تكف عن العطاء. أعماله الأدبية لعديدة ومتنوعة. من كتابه الأخير ‘مكابدات الأمل’ إلى ‘طرفة بن الوردة’ فضلا عن اشرافه على موقع ‘جهة الشعر’ (www.Jehat.com ) .
أين يبدأ القارئ وأين ينتهي؟ ومن الذي يتوفر لديه كل هذا الوقت، فهو كما يبدو يكاد لا يتوقف عن الكتابة، بالإضافة إلى أنه يستعين في بعض أعماله، التي من الممكن مشاهدتها في الإنترنت، بابنه الموسيقار محمد وابنته المصورة الفوتغرافية طفول.
وجدت نفسي أمام معضلة الغوص في هذا البحر واخترت الطريق الأسهل، فأجريت معه مقابلة إذ أنه حاليا ضيف في البيت الريفي للأديب الألماني ‘هاينرش بول’ حيث يعيش لمدة ستة أشهر في عزلته الكتابية في قرية ألمانية في منتصف منطقة خضراء تبعد حوالى الستين كم عن كولن. كدت أعتذر له مازحا على الهاتف لعدم توقف المطر في عز صيف ألمانيا ولكنه أكد لي أنه على العكس يتمتع بالمطر لندرته في البحرين.
في بداية حديثنا في ‘عزلته الملكية’ ـ كما يسميها ـ تحدثنا مطولا عن هذا البيت الذي تحول إلى اقامة أدبية في درجة ‘الصومعة’ للكتاب والأدباء من شتى أنحاء العالم ويتنوع حسب فنون الابداع، فهم يتفرغون تماما للكتابة بعيداً عن الأعمام والخالات وبقية العائلة والجيران وهموم الحياة اليومية وإيقاعها السريع. هذه العزلة لا تستهوي كل الضيوف.
قاسم حداد كان من أول الأدباء العرب الذين اكتشفوا الإمكانيات المعلوماتية التي يخزنها الكمبيوتر، بالاضافة الى كونه وسيلة سريعة للاتصال والتبادل الثقافي والحوار الحضاري. زوجته موزة (أي اللؤلؤة) التي ترافقه، لا تتوقف على سبيل المثال عن قراءة الكتب العربية والعالمية الكترونيا بجهاز صغير بحجم الكتاب. وكان أن أسس الأديب مجلة ‘جهة الشعر’ الإلكترونية، عام 1996، التي أصبحت ملتقى ومنتدى للأدباء العرب وغير العرب، ففيها يجد القارئ أعمالاً أدبية بست لغات منها الإنجليزية والألمانية والإسبانبة والخ، بجانب اللغة العربية. هذا الموقع يعبر عن رغبة قاسم حداد في الحوار والعطاء الانساني المشترك. ولعل أصوله البحرينية حيث ترعرع برفقة البحر’ في جو تسوده الروح الجماعية كما قرأت في كتابه ‘ورشة الأمل’ عن بلدة ‘المحرق’ التي سماها ‘مدينة الأبواب المفتوحة’، هذه الروح الجماعية ساهمت بالتأكيد في ولادة الشعر و’جهة الشعر’.

أزمة الثقافة العربية تعود إلى غياب المؤسسة الحضارية وما ينجم عنها من انسداد ‘شهوة القراءة’

للحوار فصول كثيرة، فقد نقلنا الحديث إلى عالم الثقافة والكتب وقلة انتشارها في بلادنا، فالناس لا يقرأون في العالم العربي كما هو الحال في روسيا وفرنسا وألمانيا، فدواوين الشعراء العرب الكبار، لم تبلغ مبيعات أي منها أكثر من ثلاثة آلاف نسخة، بينما للمقارنة وصلت أول طبعة من رواية غونتر غراس الألماني ‘حقل بعيد’ (هذا التعبير يعني بالألمانية أن الأمر قصة طويلة ومعقدة) مئة ألف نسخة. هنا أكد قاسم حداد أن ذلك لا يعود إلى تقاعس دور النشر والمطابع وإنما إلى عدم انتشار الثقافة كسلوك اجتماعي ومنظومة معرفية، بالتالي غياب ‘شهوة القراءة’- على حد تعبيره حيث الضعف الثقافي في البنية العربية الاجتماعية.
فهمت منه ما معناه أننا نعلم طلاب المدارس القراءة والكتابة ليتخرجوا كأطباء ومهندسين، ولكننا لا نعلمهم حب القراءة كمصدر مهم لمعرفة العالم والحياة في متغيراتها، كما يدل على ذلك عدد النسخ التي تباع في الأسواق، ‘فالثلاثة آلاف نسخة التي يبيعها شاعر عربي كبير تكاد تكون رقما قياسيا، لأن المعدل المعتمد للطباعة لدى دور النشر لا يتجاوز عادة الألف نسخة، إلا في الحالات النادرة التي لا تشكل أي مخاطرة لدور النشر’. وأضاف: ‘تخيل هذا العدد الصغير بالمقارنة مع عدد سكان البلاد العربية’. المشكلة إذا هي في الأساس عدم انتشار القرأءة كمكون انساني. قول قاسم حداد هذا ذكرني بما قاله أحد الحكماء: ‘إذا أردت أن يبني الناس السفن، فلا تعلمهم أولا فن بنائها، علمهم الحنين للبحر وعشقه’.
الأمور مترابطة، فمن القراءة عرّجنا على حركة الترجمة في بلادنا، ففي ألمانيا مثلا يُترجم الكتاب الذي يستحق بعد صدوره بالإنجليزية أو الفرنسية بنصف عام أو عام، بينما رائعة ‘العطر’ للروائي الألماني ‘زيسكند’، على سبيل المثال، ترجمت الى العربية بعد صدورها بأكثر من عشرة أعوام. وفي هذا السياق أشار قاسم حداد إلى أن هناك جهودا فردية للترجمة تستحق كل الاحترام، ولكن مع كل التقدير ‘لا يجوز أن يكون هذا العمل فردياً، فهو عمل مؤسسات واعية، لأنه يحتاج إلى دعم موضوعي حقيقي. وللأسف تترجم بعض الروايات فقط بعد اشتهارها سينمائياً، إذا أخذنا رواية ‘العطر’ كمثال. السينما تعتبر من مكونات الثقافة الحديثة المهمة، ولكنها تأتي متأخرة. باختصار: الثقافة العربية تفتقد المؤسسة الناشطة حضاريا والمتصلة بالثقافة العالمية’.
ومن العام إلى الخاص، وإلى الشاعر الضيف ومدى حضور البحرين، كجزيرة صغيرة أو مجموعة جزر تزيد مساحتها قليلاً على السبعمئة كيلومتر مربع، أي اكبر بعض الشيء من مساحة طوكيو، في أعماله وتأثيرها على أعماله الأدبية. سألته : هل تشعر بضيق المكان، أم تنظر من خلاله عبر البحار إلى العالم؟
قال: ‘كتبت ذات نص: ‘لسنا جزيرة إلا لمن يرى إلينا من بعيد’. منذ بداية كتاباتي الأدبية لم أصدر من احساس المكان الصغير. كنت أشعر بأن المكان أفق رحب مفتوح، بالإضافة إلى أن جغرافية الجزيرة والساحل هي طبيعة حضارية منفتحة، وعلى الصعيد الشخصي أشعر باتصالي بهذا الأفق المفتوح ثقافيا وإنسانيا وشعريا. لم أشعر لحظة بالحجم الجغرافي للمكان. أنا جزء من هذا الكون وليس من هذه الجزيرة فقط. أشعر أنني أمتلك الكون شعريا وأستطيع أن أعبر عنه شعريا دون أن أخضع لوهم الزنزانة’.

طفولة الفقير مع آلاف الفقراء في الخليج

قلت له إن العالم منفتح أيضا على الخليج والبحرين، خاصة على نفطه وأسواقه، وخلافا لمعظم البلدان العربية الأخرى يعيش الخليجيون في رفاهية يُحسدون عليها، فما هو مدى صحة هذه المقولة، وسألته بالتحديد فيما إذا جرب الفقر بما فيه من دوافع للشاعر، فأجاب:
‘لقد عشت مع آلاف العائلات من جيلي في عائلة فقيرة. كان عمي وأبي يذهبان كعمال للغوص في البحر. وبعد البحر عمل والدي حدادا حتى توفي، وكنت أعمل معه في دكانة الحدادة. كما أنني عملت في مهنة فاعل البناء وغيرها من المهن اليدوية في العطل الصيفية، كانت حاجة العائلة تفرض علينا العمل لمساعدة أهلنا على الحياة’. وعندما أضفت سؤالي عن مدى انعكاس هذه التجربة على أعماله الأدبية أجاب ضاحكا: ‘أرجو أن يكون ذلك قد تحقق’. ‘ليس صحيحيا’ كما أكد الأديب البحريني ‘أن كل منطقة الخليج مترفة، فهناك فئات اجتماعية عريضة ما زالت تعاني من الفقر والحاجة، وهذه هي طبيعة المجتمع المتخلف والأنظمة الفاسدة وغياب العدالة الاجتماعية وضياع الثروات ونهبها، وأينما يكون هناك الثراء الفاحش يقابله الفقر الفاحش، وسوف ينطبق هذا على البحرين، والبحرين هي أكثر مناطق الخليج عرضة للفقر والظلم والمشاكل الإجتماعية، بسبب شحة موارد النفط بالإضافة إلى تركيبة المجتمع الاقطاعي الذي لم يفتح الباب لشعب البحرين أن يتمتع بثرواته الوطنية، وقد أدى هذا إلى تاريخ سياسي عنيف، في حين أن البحرين بلد منفتح على العالم ويتميز بنضوج الكثير من مكوناته الاجتماعية وحيوية حركاته السياسية’

الطائفية تقتلنا روحيا

قبل أن التقي الشاعر قلتُ له هاتفياً إننا سنتحدث بطبيعة الحال خاصة في ظل ‘الربيع العربي’ عن القضايا السياسية الساخنة في المنطقة، فأوضح بلطف أنه لا يفضل الحديث في السياسة اليومية، ولكنه رحب بسؤالي عن خطر الطائفية واستفحالها في المنطقة، وفي هذا الإطار قال: ‘ظاهرة تعدد الطائفية والمذاهب ليست ظاهرة جديدة في الحياة العربية. الجديد هو التوظيف السياسي لهذه الظاهرة وتطرف الإجتهادات، وهو جديد طارئ وخطر. في البحرين مثلاً، منذ وعينا الحياة والتاريخ، كان هناك سنة وشيعة، دون أن يتكلم أحد عن هذه التعددية بالمعنى الصدامي أو بالمعنى السياسي. بيد أن تحويل هذه الظواهر بعد الانفجارات الدينية الى أداة تحريض، والشحن الايديولوجي لهذه الأفكار والمتاجرة بها، هو جهل حقيقي لمآرب لا يمكن وصفها بالوطنية. بفعل تفاقم الجرح الطائفي قد تغيرت الأمور رأسا على عقب، لكن لابد أن تظل هذه الظواهر طارئة بوصفها قائمة على مصالح سياسية متغيرة. لكن ما يحدث الآن لا نستطيع أن نصفه بأنه تطور تاريخي، فهو ليس أكثر من أحداث سياسية ليست جذرية لانعدام شموليتها وتحقق وعيها الاجتماعي’. وأضاف والألم يشع من عينيه: ‘الإجتهاد الديني استطاع، هذه المرة، أن يذهب إلى (الشياطين) ليحقق مكاسب سياسية وبآلية مذهبية بالغة التخلف والوحشة. إن المجتمع العربي يتضرر، ليس مادياً فحسب، بل وروحياً، ومن السهل مواجهة أضرار الخراب المادي لكن الأصعب هو ترميم أرواحنا. لستُ متشائما ولكنني لست ممن يصدقون ما يحدث كما لو أنه الحقيقة، فالواقع ليس هو الحقيقة دائماً. ولست مع تقليل خطورة ما يحدث. انهم يصفون ما يحدث بالربيع، ولم أعرف ربيعا دمويا بهذا الشكل’.
وأشرت إلى أن الربيع العربي أسقط أنظمة دكتاتورية مخزية وفاسدة في مصر وتونس واليمن وليبيا وفي سورية ما زالت رحى الحرب دائرة. سألته: ألا ترى أنه ما زال الوقت مبكرا لإعطاء أحكام نهائية على الربيع؟ قال: ‘جيلي فشل حتى الآن في تحقيق أحلامه التي شاركتُ في النضال من أجلها. هذه الأحلام لم تمت، بالطبع نحن نصبو الى التغيير الحقيقي وليس فقط لتغيير الأنظمة والقيادات. نريد تغييراً جذريا اجتماعيا وثقافيا يأخذنا الى المستقبل ولا يرجعنا الى الماضي. العلامات التي نراها الآن تشير إلى التراجع وأن (الماضي قادم)، فثمة رؤية واحدة محافظة دينية تعمل على فرض نظام لاهوتي في المنطقة.
والحق أن المجتمع العربي، في جوهره الحضاري، ليس دينيا، فهو مثل بقية المجتمعات الانسانية لدية أحلام حضارية وتغييرية تقدمية. لذلك فان قلق جيلي يصدر من احساسنا بأن ما يحدث يرجعنا إلى الخلف. الغرب، أوربا خصوصا، منذ اكثر من قرنين قد حلت مشكلاتها مع الدين في المجتمع، وأبعدت سطوته عن الحياة السياسية في سبيل المجتمع المدني الحديث، ولكنهم الآن يعملون على دعم من يذهبون بالمجتمعات العربية إلى القرون الوسطى، أي ضمير حضاري يبرر للأوربيين دعم أفكار التخلف بمزاعم تسند مصالحهم الاقتصادية والسياسية، كيف يستطيعون الذهاب الى النوم بعد ذلك’.

إلى أين وصل الشعر العربي الحديث ؟

الشعر كان يلازم الحوار مع الأديب قاسم حداد، فأردت أن أعرف منه إلى أين وصل الشعر العربي الآن وما هو مدى تأثيره على المجتمع. ،في هذا الإطار أشرت إلى أن كلمة شعر بالعربية تعني الشعور بالشيء والحدث بينما في الألمانية يطلق على الشاعر إسم (Dichter) أي مكثف الأحداث، فأين نحن الآن وهل تبدلت مفاهيمنا؟ هنا تأسفت لأن الشعر لم يحتل مكان الصدارة كما كان يجب، ولكن الشاعر أجاب على كومة أسئلتي على النحو التالي:
‘أتذكر قصائد الجواهري في العراق عندما كان محرضاً سياسياً يومياً بامتياز، وكانت قصائده تحرك الجماهير، (وقتها لم تكن وسائل الاتصال الحالية متوفرة)، ولكنها في الواقع لم تكن أدباً بل خطابات سياسية، ولا غضاضة في ذلك، ولكن للشعر أبعاداً أخرى. نعم، الشاعر الآن أقرب إلى المكثف وإلى الرائي الذي يستشفّ ما سيحدث في المستقبل. الجميع يشعر بحرارة الحدث ويعيشه ولكن وظيفة الشاعر مختلفة، فهي إبداعية وثقافية وإنسانية. الشعر ليس عملاً إعلامياً وليس خطاباً سياسياً، فهو تجربة بالغة العمق والذاتية. في تونس مثلا يرددون الآن قصيدة أبو القاسم الشابي ‘إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر’. هذا جميل ومؤثر ولكن المرحوم أبو قاسم كتبها قبل عشرات السنين. الشاعر كان رائياً قبل هذه الحشود، وكان يقول للناس تستطيعون إذا أردتم، فلماذا نريد من الشعر أن (يعلق) على ما يحدث’؟
وأخيرا دار حديثي مع الشاعر قاسم حداد عن كتابه الذي صدر مؤخرا عن ‘طرفة بن العبد’ تحت عنوان (طرفة بن الوردة). إنه عمل أدبي شعري يحاور تجربة الشاعر ‘طرفة’ الانسانية وهو الذي ولد في البحرين التاريخية عام 543 ، قبل الإسلام، واشتهرت معلقته، وما زال الكثيرون يحفظون بيته عن ظهر قلب:
( ستبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويأتيك بالأخبار مَنْ لم تزود )
سألته: هل تعني في هذا الكتاب أن الشعر القديم لا يزال قادراً على العطاء، فأجاب:
‘الإبداع في التراث الإنساني ليس محدودا بالمكان و الزمان، انه رؤية عابرة دائمة. وأعتقد ان معلقات الشعر العربي هي من بين هذا التراث الكوني، الذي لا يزال قادراً على الحضور في صعيد الإبداع والرؤى الانسانية وخصوصا في جهة الابداع الفني’.

عن جهات الشعر