إن الواقع العربي بما يعرفه حاليا من أزمات وانقسام وتدهور، وما يعانيه من تدمير ذاتي، وعلى المستويات كافة، ومن حروب طائفية وسياسية، لا يمكنه إلا أن يكون مثيرا للحزن والألم، ويدعو إلى الرثاء والتشاؤم، ولا سيما وأن الآفاق تبدو مسدودة، وكل الحلول المحتملة بعيدة كل البعد عن التحقيق. بل يبدو أنه، حتى لو تم إيقاف النزيف الدموي الذي لا ينقطع عن الجريان، في غزة، وسوريا والعراق واليمن وليبيا، فإن استعادة الوطن العربي لوضعه الطبيعي، وتكيف الإنسان معه، يتطلب عقودا لا سنوات. كما أن الأجيال المقبلة ستكون مطالبة بتحمل تبعات كل ما جرى، وما يجري الآن، وما سيتولد عنها من آثار فظيعة ، لآجال غير معروفة، ولآماد غير قابلة للإدراك.
يتأكد لنا ذلك بجلاء، من خلال معاناة الإنسان العربي من آثار الاستعمار. فعلى الرغم من انصرام أزيد من نصف قرن، ما تزال مضاعفاته متواصلة إلى اليوم. فماذا يمكن القول عن حروب الاستنزاف التي تخاض بين الإخوة ـ الأعداء، وهل يمكن تجاوز مخلفاتها في بضعة عقود؟
إن كل الحروب التي نقرأ عنها في تاريخ القبائل العربية قبل الإسلام، وكل المعارك التي خيضت دفاعا عن الحرية والاستقرار والأوطان مع التتار والصليبيين.. وكل المعاناة مع ظلم الحكام، ومحاكم التفتيش في الأندلس، ومع الاستعمار لا يمكن أن تقاس بما نعاينه اليوم في الفضائيات، وما نسمعه في الإذاعات، وما نشاهده من صور في شبكات التواصل الاجتماعي . لا يتعلق الأمر بالفرق بين المقروء والمعيش. ولكنه أيضا وأيضا، فرق بين السلاح الذي طوره الإنسان لقتل الإنسان، ورفعه في وجهه باسم الديموقراطية، والإرهاب، والخلافة، والإقصاء والإلغاء..
هذا السلاح الفتاك جعل الإنسان يحارب من خلال الشاشة، فلا يرى سوى مواقع وأهداف لا يهمه من يتوارى خلفها من أطفال أو نساء أو شيوخ. بل لا يعنيه أن يكون مسجدا أو مدرسة. هذا السلاح صار يبرمج من خلال طائرات بلا إنسان، وتلك البراميل المتفجرة العمياء صارت تلقى على المدنيين، فتكون الضحايا بالعشرات، يتم من خلالها استئصال أسر وعائلات بكاملها من الوجود؟ ناهيك عن تسوية البيوت بالأرض، وإلحاق المزيد من الدمار بالبيئة بالقضاء على الأشجار والنبات، وزرع المتفجرات..
الفرق شاسع بين حروب الأمس واليوم، وأسلحة كل منهما، وآثار كل ذلك على البلاد والعباد. لذلك لاغرو أن نقول إن من يتابع ما يجري لا يمكنه إلا أن يتأثر بشكل سلبي بما يجري، وينتظر فجوة في ما يتابع ، لعله يسمع أو يرى ما يوقف هذا النزيف المأساوي. لكن هذا الوضع لا يمكنه، مع ذلك، أن يكون سببا في التشاؤم أو التفكير السوداوي الذي يمكن أن يدفع بالمرء إلى الكفر بكل القيم الإنسانية، وبالمستقبل.
لقد ساهمت الحربان العالميتان في القرن العشرين في دمار كبير، وفي ملايين الضحايا سواء في أوروبا أو اليابان. لكن التفاعلات التي حصلت فيما بعد الحرب الثانية، جعلت العلوم تتطور بشكل لم يسبق له مثيل. كما أن ألمانيا واليابان خرجتا منها بآثار قوية، ولكنهما معا، استطاعتا الاستفادة من الحرب، فجعلت كلا منهما يعمل من أجل اللحاق بالركب، والتميز على المستوى العالمي.
لا مجال للمقايسة بين التجربتين الألمانية واليابانية والتجارب العربية العديدة في العصر الحديث. والسبب في ذلك ، ليس كامنا في التأخر التاريخي، ولكن في التأخر بالوعي التاريخي الذي يمكن أن يسمح لنا بقراءته قراءة واعية تتيح لنا إمكانية التطور. ولعل أهم الأسئلة التي يمكن استفادتها من التجارب المتطورة التي عانت من الكوارث، هو كيف يمكننا تحويل الوضع المتردي إلى وضع أحسن، وفي أقرب الآجال، وبخسائر محدودة، وبنتائج مضمونة. هذا هو الإشكال الذي لا نفكر فيه، ولا نتهم بطرحه، ونحن نعيش بلا بوصلة ولا نموذج معرفي أو ثقافي نهتدي به في واقعنا ومآلنا.
لا يمكن أن يتأتى لنا ذلك بدون بناء نموذج ثقافي، وأقصد به أن تكون هذه الحروب مدعاة للتفكير فيما بعدها، بهدف تحقيق الانتصار لا الانهيار. وبناء النموذج يستحيل بدون مشاركة الجميع في فهم ما جرى وتفسيره بالشكل الملائم الذي ينجم عنه التغيير، عن طريق الاستفادة من التجارب التي نجحت في التحول، وهي كثيرة ومتعددة. إن النهضات والتحولات الاجتماعية الكبرى خرجت من رحم تجارب مريرة عاشتها الشعوب والأمم، عن طريق بناء نماذج ثقافية تشارك فيها كل الفعاليات الاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية، بهدف التحول.
فهل يبدو، من خلال ما يجري الآن، أننا قادرون على بناء هذا النموذج؟ عندما نرى أن إعدام صدام، والقذافي، وإخراج عبد الله صالح لم يؤد إلى الخروج من النفق، ولكن إلى إعادة بناء نموذج يتطابق مع تلك الشخصيات، من خلال زعامات وهمية، يريد كل منها التماهي مع صورة الزعيم كما هي المتخيل الجماعي؟ فما الفرق بين «الخليفة» والدكتاتور، وزعيم الطائفة أو الميليشيا، أو رئيس وزراء جديد عندما يكون استنساخا لنموذج بائد؟
حين يفقد المجتمع نموذجه الثقافي، يكون بلا بوصلة، فلا يستفيد من الكوارث، ولكنه يعيد إنتاجها. وهنا نلح على دور المثقفين والفاعلين في مختلف المجالات والتخصصات للاضطلاع بدورهم في بناء هذا النموذج، وإلا فلا مناص من سيادة التشاؤم والسوداوية، وإعادة إنتاج التجارب المريرة والأزمات التي تعيدنا عقودا كثيرة إلى الوراء.
سعيد يقطين / عن القدس العربي