بيكاسو الشاب الغريب والفقير متسكعاً في شارع مونمارتر

 

 

 

 

 

 

 

 

 

على رغم مرور أكثر من أربعين عاماً على وفاة الفنان بابلو بيكاسو، إلا أن حضوره لا يزال طاغياً في المشهد الفني العالمي. وباستمرار تقام المعارض التي تستعيد أعماله، والمتحف الذي يحمل اسمه في باريس خضع في السنوات الماضية لأعمال ترميم واسعة، ومن المقرر أن يفتتح نهاية تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. أما اليوم فيقام في «متحف مونمارتر» معرض جديد حول بيكاسو بعنوان «بيكاسو في مونمارتر»، وهو معرض طريف وفريد في نوعه لأنه يضم صفحات من رواية الرسوم المصورة التي أنجزتها الكاتبة جولي بيرمان مع الرسام والنحات كليمان أوبروري. وتأتي هذه الرواية المصوّرة التي صدرت أيضاً في كتاب يحمل عنوان «بابلو»، ضمن سلسلة كتب عن حياة بيكاسو عندما كان في العشرين من عمره وارتبط بعلاقة عاطفية مع صبية تدعى فرناند أوليفييه استمرت من عام 1904 حتى عام 1912.

كان بيكاسو حينذاك فناناً مجهولاً يعيش في عزلة ويعاني ضائقة مالية. أما فرناند أوليفييه فلعبت دوراً مهماً في حياته وكانت حاضرة كموديل في عديد الرسوم واللوحات التي تندرج في مرحلة بحثه عن أسلوبه الخاص ومنها لوحته الشهيرة «آنسات أفينيون» التي أنجزها عام 1907 وتعدّ محطة بارزة في مسيرة الفن الأوروبي الحديث، وهي تمثّل خمس نساء، أربع منهنّ واقفات والخامسة جالسة أمام طاولة صغيرة. في هذه اللوحة تجاوز بيكاسو الرسم الكلاسيكي ممهّداً للتكعيبية وكان هو أحد ممثليها مع الفنان الفرنسي جورج براك.

في روايتها سنوات شباب بيكاسو في حيّ «مونمارتر» في باريس اعتمدت الكاتبة جولي بيرمان على المذكرات الشخصية لحبيبة بيكاسو التي سردت فيها بصراحة وبشيء من المرح، وبعد أربعين عاماً على فراقهما، سنوات الحياة البوهيمية التي عرفتها مع الفنان الاسباني وأصدقائه معتبرة إياها أجمل سنوات حياتها. وإلى ذلك، عكست المذكّرات أحوال حي «مونمارتر» في تلك الحقبة، يوم كان لا يزال يحتفظ بطابعه الريفي والقديم، بينما هبّت، في تلك المرحلة، رياح أخرى تبدّت في الكثير من معالم المدينة وشوارعها وصروحها وواجهات محالّها، وبالأخص في دوائرها الفخمة التي تتميّز بعمارتها الحجرية الأنيقة والفخمة.

وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ حيّ «مونمارتر» الذي يقع اليوم في الدائرة الثامنة عشرة في باريس، ضُمّ الى العاصمة عام 1860 في زمن البارون أوسمان الذي أنجز مجموعة من المشاريع المعمارية الكبرى التي غيّرت ملامح باريس وأعطتها وجهاً حديثاً لا تزال تحافظ عليه حتى اليوم، وعزّزت لقبها بصفتها عاصمة للأنوار. عمل البارون أوسمان محافظاً للمدينة خلال السنوات الممتدة بين عامي 1853 و 1870، وقام خلال تلك الفترة بإنشاء الجادات الفخمة ومن أشهرها جادة الشانزيليزيه، مركّزاً على بناء الأرصفة الواسعة المزينة بالأشجار والمضاءة في الليل. وعمد كذلك إلى هدم الأحياء الفقيرة التي كانت حفلت بالكثير من الثورات الاجتماعية.

كان حي «مونمارتر» في القرن التاسع عشر ينتمي الى الأحياء الشعبية التي يسكنها العمال والفئات غير الميسورة، وقد لعب هذا الحيّ دوراً أساسياً في ثورة عام 1871 الشعبية التي استمرت حوالى شهرين وعكست، في تلك المرحلة، الصراع الطبقي في المدينة، بين أغنيائها وفقرائها.

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، استوطن فنانون حيّ «مونمارتر» ومنهم بيكاسو، كما أشرنا، وهم منحوا هذا الحي شهرته العالمية وطابعه التاريخي. كذلك اشتهر حيّ «مونمارتر» بحاناته ومسارحه ومنها «المولان روج» أو «الطاحونة الحمراء» المخصص للاستعراضات الغنائية الراقصة. وكان الفنانون يرتادون هذه الأماكن، ومنهم الفنان الفرنسي تولوز لوتريك الذي خلّد مسرح «المولان روج» في لوحاته. وقد تحوّل عالم هذا المسرح الى فيلم سينمائي قامت ببطولته الممثلة نيكول كيدمان واستعاد أجواء ملاهي تلك المرحلة.

سعى معرض «بيكاسو في مونمارتر» الى إحياء هذا الجانب التوثيقي في تاريخ الحيّ وركّز على طابعه الريفي في تلك المرحلة، وعلى احتضانه محترفات فنية أنجز فيها الفنانون أعمالاً طليعية في زمانها وصارت محطات مهمة في مسيرة الفن الأوروبي الحديث. ومن أشهر هذه المحترفات، محترف «الباتو لا فوار» الذي أقام فيه بيكاسو من عام 1904 حتى عام 1909. وفي حيّ «مونمارتر»، أنجز بيكاسو أيضاً عدداً من أعماله التي أطلقته كفنان رائد في باريس ومنها ما ارتبط بمرحلته الزرقاء ومرحلته الوردية ثم التكعيبية.

معرض «بيكاسو في مونمارتر» شهادة جميلة عن زمن مضى وهو يعيد الى الواجهة سيرة فرناند أوليفييه مبيناً أن هذه المرأة التي صارت في عداد المنسيين على رغم قصة الحب العاصفة التي جمعتها ببيكاسو بين عامي 1900 و1908، كان لها حضورها الأكيد في الكثير من لوحاته المعروفة. كما أن المعرض يكشف بالشهادات والوثائق والرسوم عن الكثير من العلاقات الأخرى التي جمعت بيكاسو بشخصيات معروفة ومنها الشاعر غيّوم أبولينير والكاتب ماكس جاكوب الذي التقى به عام 1901.

ويؤكد المعرض ان أحداث الحرب العالمية الأولى كان لها تأثيرها العميق في حياة هؤلاء المبدعين، ومن مظاهرها أنهم تركوا حيّ «مونمارتر» وانتقلوا الى حيّ «مونبارنس» في الدائرة الرابعة عشرة في باريس… وهكذا تحوّل هذا الحي، في تلك المرحلة، الى ملاذ آخر للفنانين المجدّدين.

عن الحياة