بودلير وجرح الطفولة الذي لم يندمل

 

 

 

 

 

 

هل تشعرون بالضجر هذا الصيف؟ هل تشعرون بالحاجة للانفصال عن الزمن العربي الحالي أو الهروب منه بأي شكل؟ أنصحكم وأنصح نفسي بأن نفتح الكتب النثرية لشارل بودلير حيث يعبر عن لواعجه وهمومه بشكل مباشر وحي. أنا واثق أنه سيعزيكم كثيرا. في عصر بودلير لم يكن هناك هاتف جوال ولا إيميل ولا إنترنت ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة المنتشرة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المخطوطة باليد والمرسلة بالبريد هي الوسيلة الوحيدة للتواصل مع الآخرين. وكانت تستغرق عدة أيام أو حتى عدة أسابيع لكي تصل. أما الآن فبنقرة واحدة تتواصل مع زوايا العالم الأربع. بل نحن قبل عشر سنوات فقط كنا لا نزال نمارس نفس الشيء. والآن أصبحوا يضحكون عليك إذا ما فكرت بإرسال رسالة بالبريد. أصبحت الرسائل القديمة تبدو كأنها تعود إلى العصر الحجري، إلى عصر ما قبل التاريخ.
ينبغي العلم بأن رسائل بودلير ذات أهمية كبرى. لماذا؟ لأنها تنضح بذاتيته المتوترة وتخبطاته الشخصية وتناقضاته التي لا حل لها اللهم إلا عندما تنفجر بالقصيدة العبقرية. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه الشهير: أزهار الشر. بل إنه موجود فيها بشكل أفضل إذا جاز التعبير: أي بشكل أوضح لأنه متحرر من الوسائطية المعقدة واللامباشرة للفن. إنه موجود أيضا في كتابه الجميل «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية. وقد افتخر به مرة في رسالة إلى أمه قائلا: «أنا الآن بصدد تأليف كتاب سوف يجعل اعترافات جان جاك روسو باهتة»! ومعلوم أن اعترافات روسو رائعة أدبية عقدت كل أدباء فرنسا ومعظمهم حاول تقليدها أو الارتفاع إلى مستواها ولكن هيهات.. وحده شاتو بريان خرج من عملية المحاكاة بشكل مشرف إذ ألف كتابه الشهير: «مذكرات ما وراء القبر». ومع ذلك تبقى اعترافات روسو الخالدة أعظم وأهم.
بعد قراءة رسائل بودلير نخرج بالانطباع التالي: لقد كان شخصا محبطا إلى أقصى الحدود. كان يريد ما لا يستطيع. وربما كان يستطيع ما لا يريد: تدمير نفسه مثلا أو الإغراق في الشرب والمخدرات ثم الندم على ذلك وتبكيت الضمير حيث لا ينفع الندم.. باختصار كان يتمنى لو أنه شخص آخر: أي شخص إيجابي ناجح في الحياة. ولكنه كان ينتكس في كل مرة. كل محاولاته باءت بالفشل الذريع. إنها محاولات سيزيفية بالمعنى الحرفي للكلمة. من هنا ذلك التشاؤم الأسود الذي يطغى على عالمه أو أجوائه النفسية. بودلير شخص محبط، فاشل، مهزوم سلفا. وعن هذا الإحباط والفشل نتج الشعر كأعظم ما يكون! هل يعني ذلك أنه لكي تنجح في الأدب ينبغي أن تفشل في الحياة؟ هذا ما يعتقده جان بول سارتر وربما التحليل النفسي كله. فهو كان يريد أن يشتغل ولكنه لا يجد عملا. ثم على فرض أنه وجده لا يستطيع الدوام في الإدارات قبل الظهر وبعد الظهر كما يفعل معظم الناس. فاضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في الشوارع. هذه هي وظيفته الوحيدة. ولكن هل كان سيصبح شاعرا لولا تلك التسكعات المجانية في شوارع باريس؟ كان بودلير يشعر بالحاجة إلى تبرير نفسه أمام أمه بشكل خاص. وكانت امرأة تقليدية بورجوازية تخجل به أمام الناس لأنه شخص فاشل لم يصل إلى أي مركز مرموق في المجتمع. لقد خيب كل الآمال التي علقتها عليه. لم تكن تعرف من هو. لم تكن تعرف أن ابنها أكبر شاعر في تاريخ فرنسا. أو قل بأنها عرفت ذلك ولكن بعد فوات الأوان. بعد عمره القصير (47 سنة) ووفاته شعرت فجأة بقيمته فبكته دما مرا. وكانت شهرته قد ابتدأت تنطلق وتشق الآفاق.. بودلير لم يشتهر في حياته ولذلك تنطبق عليه كلمة نيتشه: «هناك أناس يولدون بعد موتهم». كان الإحساس بالذنب يلاحق شارل بودلير باستمرار فيئن تحت وطأته. وفي أثناء ذلك كان يكتب أشعاره الخالدة. كان الحظ العاثر يلاحقه باستمرار إلى درجة أنه راح يتماهى مع واحد أتعس منه: إنه الكاتب الأميركي الشهير ادغار آلان بو. ومعلوم أنه أمضى قسما كبيرا من حياته في ترجمة مؤلفاته إلى اللغة الفرنسية وتقديمها والتعليق عليها. بودلير اشتهر كمترجم أولا قبل أن يعرف كشاعر لاحقا. في بعض رسائله كان يقول: «أعتقد أنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء».. فالمعاناة هي كنزهم الوحيد الذي يتمايزون به عن بقية البشر. في الواقع أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب وتتآلب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل مسؤوليته ويقبل قدره ومصيره كإنسان مغلوب ومقهور. بمعنى من المعاني كان بودلير يقول في قرارة نفسه: اللهم اجعلني مظلوما لا ظالما. وذلك لأن المظلوم يتفوق على الظالم في نقطة أساسية: وهي أن ضميره مرتاح. ثم إن أعماقه الإنسانية أغلى من الذهب. ما معنى شخص مفرغ من المشاعر الإنسانية؟ ولذلك فإن بودلير كان يشعر بالانسحاق عندما يرى امرأة فقيرة تقف على أبواب المطاعم وعلى ذراعها طفل صغير جائع. كان يتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته ولا يرى هذا المشهد. كان يتمنى لو أنه غني لكي يعطيها كل فلوسه ويشعر بسعادة ما بعدها سعادة. هنا تكمن أعماق بودلير الحقيقية. كان إنسانا شارل بودلير!

بودلير والأكاديمية الفرنسية!

هل تريدون أن تضحكوا؟ هل تريدون أن تموتوا من الضحك؟ إذن اقرأوا قصة ترشحه للأكاديمية الفرنسية. لا أحد يعرف ما الذي «دعس على ذنبه» ودفعه إلى ترشيح نفسه وحظه يساوي الصفر أو أقل من الصفر! فقط الرغبة في الاستهزاء بأدباء فرنسا الرسميين التافهين في ذلك الزمان وفي كل زمان. بودلير، ككل مبدع كبير، كان يشعر بالخواء العدمي يكتسحه من الداخل اكتساحا. كان يكتب على حافة الهاوية ويعاني معاناة قاتلة. كان يعرف أنه مدان سلفا ولا منفذ ولا نجاة. اللهم إلا القصيدة عندما تنفجر من أعماقك انفجارا.. وهذا شيء لا يعرفه الكتاب الصغار أو أعضاء الأكاديميات الفارغون. ولذا فقد كان يشعر بالحاجة إلى التسلية، إلى الترفيه عن نفسه.. نعم كان يتحول أحيانا إلى شخص عبثي أو ساخر متهكم بالمؤسسات والوجاهات والمقامات. كان يجد متعة كبيرة في الاستهزاء بأولئك الذين يأخذون أنفسهم على محمل الجد وهم ليسوا شيئا في نهاية المطاف. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه إلى الأكاديمية الفرنسية التي لا تضم إلا المستحاثات والديناصورات؟ هناك استثناءات بالطبع. فقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتبا مغمورا وغير معترف به من قبل الأوساط الأكاديمية «المحترمة» بين قوسين. هذا أقل ما يمكن أن يقال. بل إن سمعته كانت «حامضة» إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مدان من قبل محاكم باريس بتهمة «الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الحسنة». وهو مترجم لشاعر أميركي منبوذ مجرد ذكر اسمه يثير القرف والذعر في الأوساط الراقية.. وهو كاتب لا يجد ناشرا إلا بشق النفس. ومع ذلك فإنه يتجرأ على ترشيح نفسه إلى قدس الأقداس: الأكاديمية الفرنسية! في الواقع أنه فعل ذلك على سبيل الاستفزاز والإثارة ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يخبره فيها بهذا الترشيح ويقول له «بأنه ارتكب حماقة جنونية فعلا ولكنه لا يستطيع التراجع عنها». ربما كان يريد أن يثير فضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية. ربما كان يريد تحريك المستنقع الآسن ليس إلا. فالنتيجة معروفة سلفا: الرفض القاطع لشخص مثله يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا هم له إلا التسكع في شوارع العاصمة والتردد على حاناتها ومواخيرها.. ولكن الشيء الذي يذكر هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية نسيت أسماؤهم الآن وكأنهم لم يوجدوا قط. هل سمعتم باسم شخص يدعى آبيل فيلمان؟ أو يوجين سكريب؟ أو جول ساندرو؟ أو إميل أوجيه؟ إلخ.. أتحداكم أن تجدوا لهم ذكرا حتى في أكبر القواميس والموسوعات. إنهم لا شيء، إنهم نكرة أو نكرات. ومع ذلك فهم الذين كانوا يتربعون على عرش الأكاديمية وليس شارل بودلير: مجد الآداب الفرنسية! بالمناسبة من شاء أن يطلع على القصة بحذافيرها ويقضي صيفا ولا أروع فليقرأ تلك الرواية «البوليسية» المكرسة كليا لهذا الموضوع: «كتاب التهريج: بودلير في الأكاديمية الفرنسية». تأليف ألين س. ويس.. منشورات سوي. باريس 2009.
أخيرا هل كان بودلير يريد أن يخسر الحياة، أن يفشل في الحياة، أن ينتحر، أن يجن، لكي يخلص لقضية واحدة هي: قضية الأدب والشعر؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال، بل وينبغي أن نطرحه. فميوله إلى تدمير ذاته واضحة وليست بحاجة إلى برهان. وبهذا الصدد يمكن أن نؤلف كتابا ضخما بعنوان: «بودلير والتدمير الذاتي للذات». ولكنه ينطبق على آخرين. ماذا فعل نيتشه؟ ماذا فعل دوستيوفسكي؟ أو كيركيغارد؟ أو.. أو كافكا؟ إلخ.. يمكن القول بأن بودلير فعل كل شيء لكي يفشل، لكي يصبح مرفوضا ومنبوذا من قبل المجتمع. يقول في رسالة كتبها إلى أمه عام 1848: «الآن عمري ثمانية وعشرون عاما إلا أربعة أشهر. أشعر بأني أمتلك طموحا شعريا هائلا. ولكن في ذات الوقت أشعر بأني منفصل إلى الأبد عن المجتمع، عن العالم (المحترم). تفصلني عنه مذاقاتي ومبادئي ولكن لا يهم.. فأنا أجسد أحلامي الأدبية وبتجسيدي لها أحقق واجبا، أو ما أعتقد أنه واجب، وذلك على حساب تلك الأفكار السوقية المتمثلة بالوجاهات والمقامات والثروة والحظوة إلخ..».
الأمور واضحة إذن منذ البداية بالنسبة لبودلير: إنه لا يستطيع أن يرضي المجتمع من جهة، ثم الأدب والشعر من جهة أخرى. عليه أن يختار. وقد حسم أمره واختار قضية الشعر كأعظم قضية في الوجود. أو قل بأنها هي التي اختارته.

هاشم صالح / عن الشرق الأوسط