يترك الماضي بصمته في الذاكرة التي تبقى تستحث الخيال والعقل، لتعيد صاحبها إلى تلك اللحظات التي مرت به يوماً ما، ووضعته في تلك المواقف، وجعلته يتصرف على ذاك النحو، ليلقي باللوم على نفسه مرة، وعلى الزمن مرة ثانية، ويتمنى لو يعود ليعيش اللحظة نفسها، هل سيكون تصرفه نفس التصرف القديم؟ أم أنه سيغير موقفه، ويتصرف على نحو مخالف لما جرى؟.
لكن السؤال المهم هنا، هل تزرع تلك الذكريات الندم بداخلنا؟! هل يعتبر العمل الذي قمنا به سبباً في تحديد المسار للأحداث التي قادتنا بالطبع إلى تلك النهاية المحتومة؟
يتساءل الروائي الإنكليزي جوليان بارنز 1946، في روايته (الإحساس بالنهاية) – التي حازت على جائزة (مان بوكر)، أكتوبر2011، والتي اكتسبته شهرة عالمية واسعة؛ لأنها تتحدث للإنسانية في القرن الواحد والعشرين- على لسان أنتوني، بعد أن ابتعد عن فيرونيكا، وتزوج من مارغريت، وعاش حياة هادئة مع زوجته، أكان هو السبب في انتحار أدريان بعد زواجه من فيرونيكا، التي كان أنتوني قد تركها، ونساها كل تلك المدة، ونسي حتى أنه أرسل إليها رسالة.. “محتواها من القبح، بحيث أنه فقد إنسانيته، لأنه تمنى لهما العيش في جحيم وحياة لا تطاق، وتكون ثمرة ارتباطهما مع بعضهما طفل من صلبيهما، يصبح لعنة عليهما”.
الشعور بالذنب
حين تعيد فيرونيكا الرسالة إلى أنتوني ينتابه الشعور بالذنب؛ لأنه ربما كان بالفعل وراء حادثة الانتحار، فيبدأ يستحث الخيال والذاكرة، ويحفر في ثناياها عميقاً، ليعيد تفاصيل الوقائع كلها، منذ أن بدأ بحب فيرونيكا، ولحظة دخوله معها إلى المنزل، وخروجه هو منه لسوء فهمه، لمعاملتها معه بطريقة خلقت الوهم لديه بأنها لم تقدّره، وتستقبله بالطريقة المناسبة، فحقد عليها، وتركها، وانسحب من حياتها، واختار حياة أخرى بعيداً عنها، ومنع نفسه من التفكير بها.
لكن تلك الرسالة كانت بمثابة السيف الذي فتح جرحاً عميقا في ذاكرته التائهة عن كل شيء يتعلق بتلك الحادثة، ليعود، ويخوض صراعاً بين الماضي المنسي، الذي يعود، ويسيطر على الحاضر بكل تفاصيله، وبين الحاضر الذي يعيش الآن فيه، بهدوء، وراحة تامة، ويندم بالفعل على ما مضى، فالذكريات تتداعى، ويصبح الندم على الماضي مؤلماً متحكماً في سيرته الحياتية الجديدة، فالندم كما يقول عنه: “شعور أكثر تعقيداً، متخثر، وبدائي، شعور سمته الرئيسة أنه لا يمكن فعل شيء حياله، زمن طويل جداً مضى، ودمار كبير جداً وقع، إلى درجة لا يمكن معها إصلاحه”.
تأخذنا الرواية في رحلة عبر عوالم متنوعة بين الماضي والحاضر، لكل منهما صفاته، ومميزاته الخاصة به، وتركز على الذاكرة، وتداعيات الأحداث في اللاوعي، وعلى ضرورة الاعتماد على العقل والذاكرة في تأريخ الموقف واللحظة، من أجل التوثيق؛ لأن هناك بالفعل، كما يقول: “معضلة رئيسة في التاريخ، وهي إحدى المشكلات الرئيسة في التاريخ، مسألة التفسير الشخصي ضد التفسير الموضوعي، حقيقة إننا نحتاج إلى أن نعرف تاريخ المؤرخ؛ حتى نفهم النسخة التاريخية المعروضة أمامنا”..
ويقصد بذلك القول استعادة الحدث عبر ذاكرته المنسية بعد أربعين عاماً، ويكون التداعي بشكل صحيح، هو الوثيقة الأولى والأخيرة لأرشفته بكل جزئياته.
فتتدفّقُ الأفكار بعد كل تلك المدة بشكل واضح، والذاكرة هي التي تقوم باستدعائها لحظة إثر أخرى، في ترابط مستمر، ويفصح في نهاية عمره الذي يحس بها، والتي يختصرها في اسم الرواية (الإحساس بالنهاية)، عن ندمه؛ لعدم تصرفه بالشكل الصحيح فيما مضى، بعد مضي كل ذلك الزمن.
روائي كردي من سوريا
نشرت هذه المادة في العدد /69/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/11/2017