طه خليل
تصلني على الواتس اب بين الحين والآخر من الأصدقاء مقاطع صوتية أو فيديوهات تم تسجيلها على الأرجح بدون علم ” أبطالها ” مقاطع صوتيه، لا تتجاوز بضع دقائق وأحيانا ثوان معدودة، وكذلك الرسائل المصورة، الملفت في تلك المواد الفكاهة، والنباهة، وأحيانا كثيرة البساطة.
ومما وصلني منذ أيام:
صوت امرأة كردية من روجآفايي كردستان يبدو أنها مهاجرة إلى جنوبها، تخاطب إحدى معارفها وتدعى أسمهان بعد أحداث كركوك: ” أسمهانى أن الدنيا داخلة ببعضها يا أسمهانى.. أسمهانى لم يبق لنا في هذه الأراضي ( تقصد جنوب كردستان ) لا خبزا ولا ماء أسمهانى… اليوم كنا في مظاهرة أسمهانى.. ومن كثرة ما هتفنا بُحّ صوتي أسمهانى… سوف أعود إلى سوري ( تقصد روجافايي كردستان ) نعم أسمهاني سوف أعود حتى لو متت من الجوع، أو قـُتلت.. آاااااخ أسمهانى.”
بالطبع زعل المتصلة وغضبها على ما حدث محل تقدير، لكن الملفت لم يكن هناك ردّة فعل صوتية من أسمهانى.. يبدو أنها هي الأخرى تبكي أو عقد الحزن لسانها، فتركت المتصلة على سجيتها، والمتصلة تبكي وتتأوه ( والله أعلم ) وربما لأنها تشعر أن لا خبز ولا ماء قد بقي لها هناك، وعلى الارجح أنها عندما كانت هنا، كان لديها بيتا، في قرية ما، وقطعة أرض، وبضعة دجاجات، وعدة نعاج تحلبها لتحضر لأطفالها قوت صباحهم، لكنها كما غيرها من الآلاف شدّت الرحال نحو الجنوب هرباً من آساييش الـ “بي واي دي”، الذين يعتقلون الشباب والنساء والطيور والأفاعي والعجول والأكباش، والإوز والحمام معا ويسوقونهم إلى الخدمة العسكرية، ولعل السبب وراء صمت أسمهانى وعدم ردها على المتصلة هو حذرها من آساييش “ب ي د” الذي يراقب الاتصالات والهواء والأقمار والأسمهانات ليزجّ بالجميع في السجون، لهذا كانت المتصلة تعرف أنها إن عادت إما أن تقتل أو ستموت من الجوع، فنحن هنا في روجآفا لا خيار لنا إلا هذين الاحتمالين الموت جوعا أو القتل على أيدي آساييش “بي واي دي”، أما موضوع الاستفتاء وقضايا الاستقلال وعدم ترشح الكاك مسعود للرئاسة فتلك مسائل عصيّة على ذهن المتصلة، وإلا كان عليها أن تشتم الولايات المتحدة الامريكية وتلعن ميليشيات إيران، والميت التركي وكل القوى التي شجًعت مرتزقة الشيعة والتركمان لتدنيس أرض كر دستان، إلا أن المتصلة اكتفت ببعض البكاء والتهديد بالعودة إلى ” سوريا ” احتجاجا على ما حدث في كركوك وشنغال وبقية المناطق المتنازع عليها، والتي يقينا لا تعرف عنها شيئا.
صوت آخر لفتاة تتحدث عن أختها وتقول : ” لقد أجرت أختي عملية تجميل لأنفها، وبعد عدة أيام اكتشفت أنهم شوهوا أنفها فراجعت المشفى وهي ممرضة وتشتغل فيه ودون أن تخبر أمها، لتصحيح الخطأ الجراحي، لكنهم هذه المرة قد قصو قطعة من أذنها ” .. ثم تخفض صوتها وتهمس بخبث: ” جيد أنهم لم يقصوا قطعة من (……….؟!! ) ” .ثم تضحك.
يبدو أن مصيبة التجميل تلاحق حتى المهاجرات اللاجئات، وبدلاً من تصحيح وضعها الانساني والاركيولوجي تعمل سنوات لتجمع النقود من أجل إجراء عملية تجميل لأنف على الأرجح لم يشم إلا رائحة الدولار، وقلق المستقبل، لكنها تذهب للمكان الغلط، فيقصون عمدا أو خطأ قطعة من إذنها، ولم يمروا على غامضها ليقصوا منه شيئا، ويخففوا من وهج الجمر.
استمع إلى تلك المقاطع، ثم أمسحها على الفور، مخافة أن أموت فجأة ويراها الناس في تلفوني فيقولون في جلساتهم : ” لم يكن صاحبنا مؤدبا,”
أمسح كل شيء، وحدها وحشة الرسولة تظل مثبتة في الروح، ولا يصلني منها صوت، وفي لحظة تمنيت لو كنت أنا أسمهانى وهي المتصلة، حتى لو كانت تحدثني باكية على كركوك، فملايين المساحات في قلبي قد مرّت عليها جحافل الغزاة، وسارت عليها سنابك خيول المحتلين، ولم تتزحزح رسولتي.
نشر هذا المقال في العدد /69/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/11/2017