جرن الذاكرة
الفيديو، آلة توثق المكان والزمان، بمثابة ذاكرة تاريخية، رأس مال رمزي لحقبة زمنية، عدسة تعكس ثقافة وحضارة الشعوب، حيث أن الحفاظ على الذاكرة الجمعيّة والثقافة المحليّة هو أحد السلوكيات التي تهدف إلى الحفاظ على ماضي الشعوب بالعديد من صوره، حيث تعتبر الذاكرة الجمعيّة علامة مميزة وفارقة لكل شعب.
وعندما كانت جملة العادات والتقاليد والقيم الثقافية والروحية هي إرث معنوي ومادي، ورصيد إنساني، وأساس مهم لهوية الشعوب, كان لابد اللجوء إلى أرشفة تلك الأحداث والعادات للحد من ضياعها وتلاشيها، ولربما يمكن القول أنه وبفضل تقنيات الفيديو السمعية والمرئية باتت ذاكرة الشعوب آمنة من الضياع والاِندثار.
هناك، في مدينة المياه العذبة سري كانيه، ولد “آرا كشيشيان
” في الخامس من شباط 1955، الذي يعود بأصوله إلى قرية باشكو في مدينة دياربكر، حيث في تلك القرية تعرضت عائلته المؤلفة من 70 شخص إلى مجزرة مروعة على يد سلطات الدولة العثمانية على خلفية المذابح التي ارتكبت بحق الشعب الأرمني آنذاك. هذا ما دفع الجد كشيشيان بالتوجه والاستقرار في مدينة سري كانيه عام 1922.
كشيشيان، اعتبر أن أهمية الكاميرا تأتي في تخليدها للذاكرة والتاريخ، وحمايتهما من التلاشي والاندثار، والتي تكون بمثابة شاهد عيان على حقبة زمنية باختلاف طقوسها وعاداتها وتقاليدها وأحداثها. من هنا كان يدرك قيمة الكاميرا ودورها الريادي، ومع ظهور الكاميرات في سوريا زاد اهتمامه وشغفه تجاه الكاميرا أكثر فأكثر.
1983, شارع بارون، مدينة حلب، اقتنى كشيشيان أول كاميرا فيديو بسعر 8000 ليرة سورية، رغم سعرها الباهظ كانت تعتبر كاميرا بدائية يدوية. كان لديه هاجس وتخوف من ردة فعل المجتمع تجاه آلة ستعكس تجاعيد وجوههم، أفراحهم وأتراحهم، طقوسهم ومناسباتهم إلى صور حقيقية تتحرك أمام أعينهم متى شاؤوا في استرجاعها دون التوسل إلى الخيال والذاكرة الشفهية. حتى أنه كان يتوقع الاعتداء عليه من قِبل أبناء المنطقة، وفقاً لجملة عادات وتقاليد سائدة آنذاك كانت ترفض كل شيء دخيل على حياتهم البسيطة، حتى وأن كانت كاميرا فيديو!.
في بداية عمله في مجال التصوير، ووفق الإمكانات المتواضعة البسيطة، كانت تحدث الكثير من العثرات والأخطاء العفوية التي كان يحافظ عليها. تلك اللحظات الفريدة من تدافع الناس تجاه الكاميرا، الخجل الظاهر على جنبات وجوه الفتيات، نسيانه لتحويل التصوير النهاري إلى الليلي, كل ذلك وأكثر كانت لحظات فريدة جميلة، أرشفها على أشرطة الفيديو.
إلى جانب ذلك، كانت تنتابه كل الغبطة أثناء تصوير يوم نوروز المجيد، العيد القومي لدى الشعب الكردي، لمدى معرفته بقيمة تخليد تاريخ قومي لشعب مضطهد، متعة العدسة في الحفاظ على ألوان الربيع، في احتضان الألوان الزاهية للملابس الفلكلورية الكردية، قيمة الدبكات التي تعكس واقع شعب تعرض للظلم والنكران، عذوبة رقة المفردات التي كانت تخرج من الحناجر، تشابك أيادي الشبان والفتيات في حلقات الرقص.
آنذاك، ورغم المضايقات الأمنية، وضعف الموارد الفنية الخاصة بمجال التصوير والإخراج، إلى جانب ضعف الإمكانات المادية، كانت لديه محاولات جادة للعمل في مجال تصوير الأفلام، حيث في عام 1985 قام بتجربته الأولى برفقة عدسته في تصوير فيلم كردي “القهوة المرة” والذي تناول ظلم الأغوات في تلك الفترة، وجراء هذه المبادرة تم اعتقاله وتحويله إلى الجهات الأمنية في مدينة قامشلو، إلى جانب مصادرة الأشرطة. ليتعرض مجدداً في عام 1986، للتدخل الأمني الفظ من قبل فرع أمن الدولة، بسبب محاولته لتصوير فيلم ثاني.
ولأن الكاميرا بدأت تقدم الصورة بشكل فني طازج، حيث قيمتها العظيمة تكتشف كلما أخذ عليها الزمن، ظهرت في أواسط الثمانينيات الدوافع لدى كشيشيان بالتصوير والعمل في مجال “الفيديو كليب”، ووفق الإمكانات آنذاك، كان يستخدم الدوبلاج حيث تطبيق الصوت على الصورة، باستخدام فيديوهات “سوني ت6- ت7” وكانت تجربته الأولى مع الفنان الكردي محمود عزيز شاكر.
وبسبب نشاطاته في مجال التصوير، إلى جانب تأجير الأفلام الوثائقية “قاسملو، البارازاني…” في محله “فيديو رأس العين” الكائن في الشارع العام بوسط المدينة، تعرض لمضايقات أمنية متكررة، مما كان سبباً أساسياً في ابتعاده عن مجال التصوير في عام 1990.
كشيشيان، الذي يحتفظ بأرشيف قيم ومميز عن فترة زمنية مفصلية، يقطن برفقة عائلته في مدينة برشلونة الإسبانية، حيث يرغب بتقديم خبرته الفنية والعملية في مجال التصوير للسينما الكردية، متأملا أن تظهر سينما كردية يكون لها حضورها وشخصيتها الاعتبارية في دور العرض المحلية والإقليمية والعالمية.