انتهاك المقدّس في الرواية

يختار الراوي فكرته من صميم واقع يحتال عليه بطريقة، أو بأخرى فيقدمها برؤية جديدة، وشكل آخر؛ لمعرفته برفض تلك الفكرة من قبل المجتمع، لكنه يغامر، ويمضي في الطريق المخالف، ضارباً بعادات وتقاليد المجتمع عبر الحائط، وليجعل المجتمع يرضى بفكرته ويدفعهم إلى الإقبال على نصه، لابد أن يعتمد وسائل تساعد على تحقيق النجاح في المغامرة التي أقبل عليها، وإلا وقع وذهب ضحية لسخط وتذمر أبناء المجتمع، بل ومحاربة عمله.

انتهك الروائي الروسي تولستوي في روايته (آنا كارنينا)، الصورة المقدسة للحب، ودفع بالقارئ إلى الرغبة الشديدة في قراءتها، لأنه رفض العادات والتقاليد والدين؛ فهي ليست إلا عوائق تمنع من بلوغ النهاية السعيدة، التي يسعى إليها الحبيبان في تلك الرواية.

لكنه يوضح لنا صورة الحب بالشكل المعتاد عليه في أوروبا؛ حيث لا قصة حب سعيدة تحوز الانتشار، وتلاقي الرواج والشهرة، وتلقى ذلك القبول الكبير.

وعلى مبدأ قصص الحب في أغلب دول العالم، تستحق الرواية المؤلمة الاستماع إليها، ويولّد الحرمان والحزن الرغبة في تداولها؛ فالحنين والشوق ولوعة الفراق هو الذي يغري بذلك، وما هذا إلا لأجل استمرار الرواية، وإلا فإن النهاية السعيدة تولد السأم والملل، وتبعث على الضجر، وتموت كما ولدت ميتة.

ولأن قصص الحب المأساوية أبقى على الدوام، اقتحم تولستوي هذا الطريق، على الرغم من معرفته، وفهمه العميق لطبيعة المجتمع الروسي، والأوروبي بشكل عام، الذي ينكر مثل هذا النوع من الحب، لمعارضته لمبادئ الكنيسة حتى؛ فهو ينتهك حرمة الزواج المقدس، ولا ينقل الفكرة فحسب، بل يجعل القارئ يشارك معه هموم الحب، ليؤكد على أحقية هذا الحب، وضرورة انتصاره في النهاية، فما يهم هو الحب ذاته، على مبدأ القديس أوغسطين، الذي يقول: “أحب أن أحب”. يقول على لسان آنا بطلة الرواية: “يقولون إن النساء يحببن في الرجال حتى رذائلهم، وأنا أكره فيه فضائله، لا أستطيع أن أعيش معه، لكن ماذا أفعل؟! لقد كنت شقية، وكنت أعتقد أن الإنسان لا يمكن أن يكون أكثر شقاء مما كنت. لكن الحالة الفظيعة التي أجتازها الآن تفوق كل ما تصورت، أتُصدِّقُ أني أكرهه، برغم علمي بأنه رجل طيب، بل رجل رائع، وأني لا أساوي إصبعاً من أصابعه”.

فعلى الرغم من أن زوجها رجل طيب، ونبيل، لكنها تعشق الضابط الفارس فرونسكي، وتطلب من زوجها الطلاق، متحدية قوانين المجتمع الروسي، وتقاليده الصارمة.

فتولستوي يدرك تمام الإدراك المعادلة بشكل جيد، ويعرف لماذا يفضل القارئ قصة على أخرى، وخاصة قصة الحب الممنوع؛ ذلك لأن الإنسان يحب الحرقة، والشعور العميق في نفسه بما يحترق فيه.

ومهما كان الحب واضحاً ومتقداً وقوياً، لكن العائق هو الذي يدفعه إلى التجمل، وإلى نجاح فكرة النص الروائي، وهو الحب الذي يتعلق بالعائق الذي يبتكره الروائي بدوره؛ من أجل نجاح، وقبول نصه الروائي، وهو يعلم أن هذا الأمر يتعلق بجزء كبير من سيكولوجيتنا؛ فبدون عوائق أمام الحب، لا توجد قصة إذن، ونحن نحب النص، أي الشعور بالغرام، واتقاده، وتحولاته، وتأخراته، وصعوده إلى نقطة الكارثة، ولا نحب توهجه السريع، ولا تهزنا إلا سعادة العشاق وهم ينتظرون الشقاء الذي يترصدهم، ويرقبهم، وحبهم الذي يتطلع إلى تحقيق نهاية منشودة، مرفوضة معرفياً وعقلياً واجتماعياً، والتي تجعل هذا الحب حباً متبادلاً شقياً. وهو ما يسمى برابطة متواطئة بين الحب والموت، التي يرى القارئ فيها لذته، ونشوته المفقودة.