في التاسع عشر من آب/أغسطس 2014 غيّب الموت الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، الذي ارتبطت أشعاره بالقضية الفلسطينية، وبذاكرة أجيال في المشرق العربي. رحل القاسم دون أن يعبأ بأضواء الشهرة، سعيداً بمكانته في فلسطين والشعر العربي المُعاصر. كصديقه ورفيق الدرب محمود درويش، اشتغل القاسم في الصحافة، اشتغل في السياسة وهجرها، امتهن الشعر ورحل في آب، وهذا آخر حوار أجري معه قبل أن يغيبه الموت :
■ في سيرة الشعر والشعراء، هل من يخلف، يكمل الطريق شعراء المقاومة؟
ـ «لا خلافة في الشعر. وأنا ضد مقولة صراع بين الأجيال في الثقافة بل تكامل. من جهتي نعم أنا مطمئن للجيل القادم، لكن هناك ظاهرة خطيرة لدينا تتمثل بسرعة النشر والانتشار التي توهم الشاعر المُبتدئ أنه صار مشهوراً وهذا مطبٌ خطير. المشكلة الأخرى هي عدم التثقيف الذاتي. كنا نقرأ أكثر مما نكتب بكثير، لكن شعراءنا اليوم يعتقدون أنهم بلغوا القمة ولا أحد يبلغ القمة. إذ لا توجد قمم بل مواهب قابلة للتطور اذا ما نجت بنفيها من فخ الـ»فيسبوك» و»التويتر» والشهرة السهلة. كتابة الشعر موهبة ربانية وتكوين فسيولوجي سيكولوجي خاص، وتحتاج لتثقيف ذاتي وتحاشي الوهم. يقولون: إن قلت لي أنت في القمة، فأقول: الله يخليك أنا في الوادي تحت وأجرّب أن أصعد».
■ أين يكتب سميح القاسم قصيدته؟ أين يزورك شيطون الشعر؟
ـ «يميل الشعراء للحديث عن طقوس الكتابة وهذه ليست عندي، لكن هناك ظرفاً مريحا للكتابة يبدأ بعد منتصف الليل بعد نوم الجميع. وأفضل الكتابة في المطبخ حيث أحس بالألفة قريباً من الغاز وغلاية القهوة وسجائري معي. أخي محمود كان يستيقظ في الصباح ويستحم ويرتدي ملابسه ويجلس للكتابة. حبيبنا نزار كان يقول: لا أستطيع الكتابة إلاّ إلى ورق ملون. وأنا لا أستطيع الكتابة على ورقة فيها خطوط، تشلّني وتزعجني، كما أحب الكتابة بحبر سائل لأنني أسمعه وهو يلتقي بالورق واستنشق رائحة الحبر. ويذكرني بالقديم. لا حداثة حقيقية بلا أصالة حقيقية.
الاستحداث ضروري لكن هناك حداثة وهناك استحداث، والحداثة تنبع من ذاتك ومن تراثك وأصالتك ولذا قلت: «حينما تكون قصيدتي تكون الحداثة العربية». مع احترامي لأشقائي في سوريا ولبنان ممّن يعتبرون رموزا حداثيين لكنهم ليسوا كذلك بالنسبة لي.
■ أنت قلق على اللغة العربية في الداخل؟
ـ أنا قلق جداً على اللغة العربية من مؤامرة لتغليب اللهجات المحلية لضرب اللغة الفصحى أداة وحدة العرب. شكراً للقرآن الكريم مرة أخرى الذي يحفظ ماء وجه اللغة العربية وأخشى أن يتم التخلي عنها أمام غلبة العامية في مجتمعاتنا.
■ الثقافة العربية ما زالت الحصن الأخير؟
ـ طبعاًّ لأننّا مُشتتين بالسياسة، بالاقتصاد، واجتماعياً حيث تلعب الطائفية والقبلية دوراً قذراً. مفهوم العروبة الأمميّة التقدمية يحميها المثقفون فقط وأخشى سقوط هؤلاء في أوحال الإقليمية الطائفية والعشائرية.
■ سيرتك الذاتية خلت من قضايا معينة؟
ـ « طبعا ولذا أسميتها « الجزء قبل الأخير». هناك أمور لا تنشر. مثلاً علاقتي بالرؤساء العرب حيث يصعب دخولها لأنّ الوضع العام يتداخل مع الخاص، ومنهم اصدقاء لي ومن غير اللائق أن ننشر معلومات تضايقهم.
■ أحلام تحققت؟
ـ « هناك أحلام شخصية غير مهمة للشعب كالزواج وتزويج الأبناء والأحفاد. لكن للأسف الأحلام الكبرى لم تتحقق. حلمي الأول كان الوحدة العربية ولم يتحقق كما حلم تحرير فلسطين، ومناطق عربية أخرى عديدة.
■ أنت تغلب العامل الذاتي على المتعلق بالصهيونية والاستعمار ؟
ـ طبعا هذه ذريعة أصبحت مُعيبة. الاستعمار يُريدك عبداً فأين إرادتك أن تكون حُرّاً، والصهيونية تريدك قنّاً فأين إرادتك أن تكون سيداً؟ تعليق عيوبنا على الآخرين فيه شيء من الجبن وخيانة الذات والجهل والضعف والتخلف.
■ علاقتنا نحن بإسرائيل التي انتقلت من الاحتواء للاستعداء مُجدداً كيف تقيّم أدائنا نحن؟
ـ قادة إسرائيليون كُثر تحدثوا عن مُخطط تهجير العرب الفلسطينيون، «غولدا مائير» كانت تقول: (لا انام كلما سمعت عن ميلاد طفل عربي جديد في إسرائيل). وقتها علّقت عليها بالقول: لن تنامي.
إسرائيل شاءا أم أبت هي دولة ثنائية القومية اليوم وغداً. وإن لم يرضوا ويُقرّوا ويتعاملوا بحكمة وبعقل مع حقيقة وجودنا بوطننا ووطن أجدادنا الشرعي فقريباً أم بعيداً ستقوم دولة القدس العربية وعاصمتها فلسطين.
■ هل نحن نمارس السياسة كما يجب أم نصب الماء على طاحونة إسرائيل؟
ـ لا أحيانا نخدمهم بالمزاودات غير المسؤولة. العرب في إسرائيل أثبتوا عبقرية نادرة وهم أكبر فرقة مسرح في العالم. منذ النكبة نقوم بدور مسرحي رائع ويمكن لمسرح شكسبير أن يتعلم من فلسطينيي الداخل كيف بقينا في وطننا بذكاء وحنكة سياسية وللأسف يخرج من بيننا من لا يفكر من منطلق مصلحة شعبه، بل يفكر بنفسه بالدعاية والإعلام وبالعالم العربي وكأننا مدينين له. العالم العربي مدين لنا فهو أهملنا وضيعنا وهو الأم التي تركت طفلها بالسرير وهربت. ما حدا يزاود علينا من المحيط للخليج أو «يحملنا جميلة».
■ دورنا ينبغي أن يكون دور المشاغب؟
ـ العبقرية أننا لم ننم بل مارسنا حقنا في النضال وليس بقوانين اللعبة الإسرائيلية، ويوم الأرض يشهد، وهبّة القدس والأقصة تشهد، وفضح مجزرة كفر قاسم وإدخالها للوعي العالمي بل الوعي الإسرائيلي بقوانينا، والهدف البقاء في وطنك بكرامة رُغم مخططات الترحيل.
■ كيف نرد اليوم على الهستيريا العنصرية بالمواجهة أم بالانحناء أمام العاصفة؟
ـ لم نلعب يوماً قطف الرأس ولن يمارسها أبناؤنا. المقصود ليس انحناء أمام العاصفة بل التحصن الذاتي أمام العاصفة والتصعيد الإسرائيلي ليس من اليوم بل من 1948. نحن الفلسطينيون اليوم نحو 20 % من المواطنين ونضع الشوك بعيونهم.
■ ما رأيك بالقول إنه علينا عدم التلويح بمنديل أحمر؟
ـ إسرائيل تتعامل معنا كطوائف لا تعترف بنا كأقلية قومية، ودورنا المسرحي مستمر. جوهر المسرحية: هم نقيضنا ونحن نقيضهم وفرض علينا أن يكونوا هنا والعكس صحيح. الممثل البارع يمسك الشارع والرأي العام العالمي فالانتفاضة صارت كلمة عالمية ويوم الأرض معروف دولياً. الصهيونية تنتصر علينا إذا حولتنا لعنصريين.
■ كيف تنتهي المسرحية؟
ـ «لا يغير الله بقوم حتى ما يغيروا بأنفسهم»، فإذا غّيروا هم نُغيّر نحن. لم نكن مرة عنصريين ولم نرفض اليهود أو الأرمن أو اليونانيين بل حضنا كل الشعوب المحيطة بنا.
■ هناك من يقول إنّ فلسطينيي الداخل سيصبحون مركز الثقل هنا؟
ـ أول مظاهرة بعد النكبة من أجل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني خرجت من الناصرة لا في أي عاصمة عربية. إنّه صراع مكونات ومقوّمات. نحن لا نملك قوة لمواجهة الجيش الإسرائيلي إنّما نملك الحق التاريخي، الوعي، الثقة بالنفس، الإرادة والرؤية. لذا الشعار المناسب في الوقت المناسب هذا هو المفهوم الثوري للشعار الثوري. لا يعقل اليوم أن أرفع الشعار الذي رُفِعَ في الناصرة آنذاك: «تحرير فلسطين من البحر للنهر»، لأننا سنقمع محلياً ونحرّض الديموقراطيين اليهود.
■ هل ابتعدت القيادات عن الناس؟
ـ يبدو أنّ القيادات الجبهوية ابتعدت عن الجمهور بالمعنى السياسي والاجتماعي ولا يكفي أن تقول «أنا على حق وأنا تاريخي معروف»، ولا يعقل أن يصوّت الناس للتاريخ فقط، التاريخ كائن حي متطور.
■ كيف ترى الأمور بين اليوم والأمس؟
ـ للأسف الشديد المقارنة هي لصالح الماضي، لأيام إميل توما إميل حبيبي، محمود درويش، سالم جبران، سميح القاسم، صليبا خميس ومحمد خاص وعصام العباسي. وأرجو أن تستعيد «الاتحاد» عافيتها ومكانتها فهي أكثر من صحيفة بل هي آخر معالم فلسطين الثقافية من قبل النكبة وهي موروث شعبي أكثر ما هي موروث حزبي وعليها أن تبقى معلما شعبيا بتجديد نشاطها وتوسيع اشتراكاتها وتجدد كتابها…حرام والله حرام «.
■ سميح القاسم الشغوف بالحياة.. بأي مدى مسكون بهاجس الموت بعد مرضك؟
ـ لا أريد أن ادعي بطولة غير منطقية. مرض خطير كالسرطان يُهدّد الحياة تهديداً مباشراً لكن لديّ مشاريعي. مشاريع كتابة، أحفاد، بناء وسفر. بدون شك ضايقني المرض لكن بطبيعتي وأنا من برج الثور العنيد جداً قلت بلحظة بدعابة : إشرب.. إشرب فنجان القهوة يا مرض السرطان كي أقرأ بختك بالفنجان ..إشرب «. بعد الفحوصات الطبية لم يصارحني الطبيب العربي فقال مساعده الطبيب اليهودي بعد تردد : نشك أن لديك ورم؟ فقلت يعني: سرطان؟ فأجاب: نشك! عندها قلت: السرطان من ثمار البحر ولا أحب ثمار البحر، أحضر لي سمكة.. ففوجئ وقال: هذه أول مرة أسمع هكذا رد فعل. فقلت: لدي إيمان، فكل نفس ذائقة الموت وسأموت كبقية الناس،هذه قناعة إيمانية منذ طفولتي ورثتها من جدي وأمي ووالدي، وقد خاطبت الموت:
«أنا لا أحبك يا موت لكنني لا أخافك.. وأعلم أنّ سريرك جسمي، وروحي لحافك، وأعلم أني تضيق علي ضفافك. أنا لا أحبك يا موت لكنني لا أخافك».
هذا شعوري الحقيقي فأنا لا أحب الموت لأني أحب أن أعيش ولكن إن جاء فأهلا وسهلا وركبتاي لن ترتجفا هلعاً فساقيي ليستا من قصب.
■ سميح القاسم قلق من قصة تخليده في الذاكرة الفلسطينية؟ يحضرني مسلسل تلفزيوني حول سيرة محمود درويش والذي انتقدته أنت بشدة؟ هل أنت بمأمن من ناحية حضورك في الوعي والتاريخ؟
ـ لا أعوّل المسلسلات ومسلسل محمود إساءة له وللمقاومة ولأدب المقاومة ولفلسطين. أعول على حضوري في عمق هذا الشعب ومن هذه الناحية أنا مطمئن، وكما يقول المثل الشعبي : «حط إيدك على قلبك اللي بتحبه بحبك»، وأنا أحب هذا الشعب ولذا أنا متأكد أنه سيبادني حُبّاً بحُب.
عن القدس العربي