طه خليل
ليس من طبعي النوم مبكّراً، وقد تعودت على ذلك بعد أن قرأت مقالا علمياً يقول أن قلة النوم يقصر عمر الإنسان.
في بلدتنا، يكاد لا يخلو شارع من البناء، كانت البيوت فيما مضى، تتألف من بعض الغرف المسنودة إلى بعضها، وعلى الأغلب ” بلوك طب ” ثم فسحة تسمى الحوش بباب على الرصيف، ولصق الباب ما يشبه المحرس لقضاء الحاجة، باب صنع على عجل من أكياس الخيش، يسمونه “التواليت” طبعا حتى الآن لا أعرف لماذا يبنون ” تواليتاتهم ” لصق الباب الخارجي للمنزل، فيكون في وجه الزائر فور دخوله، هناك من يقول لأن ذلك المكان قريب من المجرى المائي أو المواسير، وهناك من يقول كي يكون بعيدا عن الغرف المسكونة، والله أعلم.
في السنوات الأخيرة جاء مموّلون ومتعهدو بناء، فخربوا معظم تلك البيوت والأحواش، وبنوا طوابق عديدة، مقابل إعطاء صاحب الحوش والتواليت التاريخي شقتين أو أكثر، يختار المتعهد لصاحب البيت جيرانا جدد، وغرباء لا يتعرفون على بعضهم، ويتأفف الآباء والأمهات القرويات من صعود الأدراج والطوابق، فتراهم في عيادات الأطباء يشمرون عن ركبهم ليشرحوا للطبيب عن مكان الألم.
ومن طبعي كذلك أن أنام على السطح، لأخبر النجوم كل ليلة عن النقص في عددها، وأنام بعد ذلك، حالما بساعات هدوء. إلا أن عمال البناء ومنذ ساعات الفجر يأتون إلى تلك الأحواش المتبقية ليهدوها، بزنودهم المفتولة، يحملون بأيديهم المطارق والرفوش، ويبدؤون بالطرق على الاسمنت، ومع كل طرقة تتردد صداها في البلدة، يستيقظ الصغار والعصافير، وتعوي الكلاب، ويهتز سريري، فاستيقظ متجهّما، أقابل صباح الخير بلعنة، وإنْ صدف وعطّل عمال البناء يوما، فتجيء سيارة البلدية فجراً تلمّ نفايات البيوت ” الزبالة ” فيطلق السائق زموراً، شبيها بصوت صفارات الإنذار وقت الحروب، فأجلس على سريري وعيني لا تنفتح من شدة النعس، أنتظر سيارة الزبالة لتنهي مهمتها، لكن شارعنا طويل، ولا ينتهي قبل أن يجرب السائق اثنين وأربعين زموراً، وبعد ذلك يطير النوم مع سيارته، أخرج إلى الشارع، أتلفت حولي، أتفحص سيارتي وإذ بأولاد الجيران قد رسموا قلوبهم وأسماء حبيباتهم على بلورها، وحفروا على أبواب السيارة بالمسامير، رسائل غرامية لمن يعشقون ” اموتو كل يوم ولا انساكي” ابعدوكي عني وما يعرفو ان خيالوكي مزروعن في قلبي “ فأتجهم، وأعود إلى المطبخ لغلي القهوة، أترك الركوة على النار وأخرج إلى حديقتي الصغيرة، أنشغل بحجلي قليلا، وحين أعود إلى المطبخ أرى أن القهوة قد سالت، واحترق أسفل الركوة، فأترك كل شيء على حاله، وأخرج إلى عملي وأحاول أن أشرب قهوتي، في صالة التلفزيون، أرى على قناتنا البرنامج الصباحي وقد استضاف ” شاعرا ” منذ ذلك الصباح الباكر، وهو يقرأ شعرا غزليا، يشبّه حبيبته بالقمر، وتهز له المذيعة رأسها، إعجابا، فتندلق القهوة من يدي، وتمتلىء جيوب بنطالي المارينز بتفل القهوة، فأرجع إلى البيت، وإذا بعمال البناء قد أغلقوا الشارع بأكوام الرمل، أقف محدّقا بهم وبالرمل، فيقترب مني أحدهم: ” لا تواخذنا ماموستا ما فكرناك ترجع، لو كنا نعلم كنا سننقل الرمل بجيوبنا كي لا نزعجك.” طبعا يقول لي ذلك مستهزءاً، فلا أردّ عليه، يرنّ تلفوني الصامت، وإذا برسولة الضوء تسألني: ” لماذا لا تردّ على تلفونك.؟ يا اخي قللي انك مشغول، قل لي أي شيء ولا تجعلني أنتظر .”
صباح الخير يا عمال البناء، يا سائق سيارة الزبالة، يا متعهد البنايات، يا كيس الخيش وهو يتدلى على باب ” التواليت ” صباح الخير للمطرقة وهي تدق المسامير فجراً في خشب نجار البيتون، صباح الخير أيها الشاعر الفلتة في البرنامج الصباحي في تلفزيوننا المصون، صباح الخير للمراهقين ومساميرهم، صباح الخير لسيدة الضوء، تركتني لكل هذه المتع، صباح الخير للعمر القصير والموت الذي لا يجيء.
نشرت هذه المادة في العدد (67) من صحيفة Buyerpress
بتاريخ 15/10/2017