أكرم البني
بلا شك، ثمة مرحلة قاسية سوف يعيشها الشعب السوري المنكوب في ظل انسداد أفق مفاوضات جنيف والتغيرات الحاصلة في المشهد بعد معركتي حلب والرقة، واندحار قوات داعش، واتساع مناطق خفض التوتر، الأمر الذي يضع المعارضة أمام خيارات جديدة لحماية التضحيات الثمينة التي قدمها السوريون على طريق حريتهم وكرامتهم، ولمراكمة الجهود لتعديل توازنات القوى أو على الأقل وقف التدهور الحاصل بما يحافظ على مطلب التغيير السياسي ويحاصر فرص تمكين النظام وحلفائه.
أولاً، الانفتاح الجدي على الشعب الكردي ومختلف قواه السياسية والمدنية، والامتناع عن وضع الاشتراطات المسبقة لضمان ولائهم الوطني، وضمناً على قوات سورية الديموقراطية وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، ربطاً بالتخلص من المواقف العدائية المسبقة تجاههما والكف عن نهج التشكيك والاتهام، من دون غض النظر، ولو للحظة، عن تجاوزاتهما القمعية والتمييزية.
هذا الخيار بات ملحاً ليس فقط لأن قوات سورية الديموقراطية باتت تسيطر عسكرياً على ربع مساحة البلاد ولم يعد يصح إهمال دورها السياسي أو تجاوزه، أو لأنها الطرف الوحيد الذي تدعمه الولايات المتحدة ويشكل ركيزتها على الأرض في مقاربة الصراع السوري، والذي تمكن من دحر داعش وضم بعض أبناء العشائر العربية إلى صفوفه وفق شعارات مدنية وديموقراطية، ثم بدأ يقارع النظام وينافسه للسيطرة على مناطق مفيدة اقتصادياً في شمال شرقي البلاد، وإنما أيضاً لأن درس التجربة العراقية وما يتعرض له الاجتهاد الكردي هناك لا يزال طازجاً، ولأن هذا الخيار يحض المعارضة على التنطح لمسؤوليتها في تقديم رؤية مبدئية واضحة، طال انتظارها، تلبي طموحات الأكراد وحقوقهم القومية من دون انتقاص، بما في ذلك حق تقرير المصير والفيديرالية، ما يساعد على تقليل فرص تحول القضية الكردية حقلاً لاستثمارات السلطة السورية وللتجاذبات الإقليمية والدولية، والأهم لإظهار الوجه الحقيقي لثورة السوريين، باعتبارها ثورة ضد الاستبداد والتمييز بكل أشكالهما، ومن أجل مجتمع المواطنة والديموقراطية.
هي مسؤولية وطنية وأخلاقية إعادة بناء الثقة بين الأكراد والعرب السوريين على قاعدة معاناتهم المشتركة من القهر والتمييز، وحاجتهم الطبيعية للعيش بحرية وكرامة، حتى لا نقف مرة أخرى كالبلهاء نتحسر على خسارة وطنية لم نسع لتداركها، ونبرئ أنفسنا من أسبابها، موجهيـن اللوم للأكراد على أنهم توسلوا اللحظات العصيـبـة التي تمر بها البلاد للتشجيع على التقسيم والتقاسم، ولدفع مشروعهم القومي إلى حده الأقصى! مثلما يحاول بعض المعارضة تبرئة نفسه من الغطاء الذي منحه لجبهة النصرة بحجة أولوية مواجهة النظام، بعدما عاثت تشويهاً وتخريباً في بنية الثورة ومسار التغيير الديموقراطي.
ثانياً، حجب الثقة المطلقة التي لا تزال تمنحها المعارضة السورية للحكومة التركية، والمسارعة لإعلان موقف نقدي جريء من سياسة أنقرة تجاه الصراع السوري وتأثيراتها السلبية على مستقبل التغيير، خصوصا أنها لم تقم اعتباراً لأحد، حين اندفعت غير عابئة خلف موسكو وسلمتها، باستهتار مريب، مفاتيح معارك حلب والشمال السوري، والقصد بذل جهود سياسية وإعلامية صريحة لمحاصرة التحولات المتواترة في المواقف التركية التي باتت تصب الحب في طاحونة استمرار النظام وتحجيم قوى التغيير، بما في ذلك كشف الدوافع الأنانية وحسابات المصالح التي تحدد سلوك حزب العدالة والتنمية من محنتنا، إن لجهة استثمار الصراع السوري وبعض الجماعات المعارضة لزيادة نفوذه المشرقي ولدعم مشروعه الإسلاموي والأهم لوأد الدور الكردي في شمال البلاد والمحاصصة على مستقبل مدينة إدلب، وإن لجهة استغلال وجود ملايين اللاجئين على الأرض التركية، وتوظيفهم، بصورة مؤسفة، كأداة للضغط سياسياً على الغرب الأوروبي ولاستجرار المزيد من المساعدات الأممية.
ثالثاً، آن الأوان لوضع مفاوضات جنيف في سياقها وحجمها الحقيقيين والاعتراف بلا جدواها في إحداث التغيير السياسي المنشود، ومساندتها بخيار من نوع مختلف، جوهره توجيه الجهود لتثبيت الموقف الغربي الرافض للمشاركة في إعادة إعمار البلاد من دون إجراء تغيير سياسي جدي في السلطة والمجتمع… خيار يتعدى الإشادة بهذا الاشتراط وقيمته الكبيرة على مصير البلاد، ليشمل خوض نشاطات سياسية وإعلامية وديبلوماسية، تحذر من تجاوزه أو الالتفاف عليه، تحدوها إثارة كل القضايا الإنسانية التي تكشف ما ارتكبه النظام وتأليب المجتمع الدولي ضد استمراره في الحكم، وأيضاً العمل الدؤوب لتشكيل رأي عام يساند محاسبة المرتكبين على ما سببه عنفهم المفرط من خراب وضحايا ومعتقلين ومغيبين قسرياً ومشردين، بما في ذلك عرض النتائج السلبية العميقة على الشعب السوري وشعوب المنطقة عموماً في حال أغفل هذا الاشتراط، وسوق التجربة العراقية كمثال، وكيف وظفت عملية إعادة الإعمار لقهر الشعب العراقي ونشر الفساد من دون أن تعود بالفوائد المرجوة على الدول الغربية نفسها، والغرض محاصرة مصالح أوروبية لا يهمها سوى الاستثمار والربح، بدأت تطل برأسها للتنصل من هذا الاشتراط، مرة بذريعة أولوية مواجهة التطرف الجهادي، ومرة ثانية بإثارة أفكار تشاؤمية عن خسائر مضافة يتكبدها الشعب السوري، إن هي انكفأت!.
قد يقال أن هذه الخيارات تحرف المعارضة عن هدفها الرئيس بإسقاط النظام وإنهاء سلطة الاستبداد والفساد، لكن «الطرق إلى روما كثيرة» وليس ثمة ميزة أو دور، بعد المتغيرات الحاصلة، لمعارضة تشعر بأنها مكتفية ما دامت تتمسك بشعار إسقاط النظام ولا تعير اهتماماً لأي عمل تراكمي على هذه الطريق، ولنقل لا تتقدم نحو مهام أقل شاناً تتطلب الكثير من المثابرة والدأب كي تصل إلى الهدف المنشود، أولها استعادة ثقة السوريين بها، كمعارضة تمثلهم وطنياً وتنتصر لمستقبلهم الديموقراطي وتحنو على مختلف وجوه معاناتهم، وتسعى، بعيداً عن المبالغة والتطرف، لتفعيل دورها في الحقلين السياسي والمدني استعداداً للتعاطي مع متغيرات لا بد آتية، ربطاً باحتمال تفاقم التعارضات الإقليمية والدولية، وبعمق أسباب ثورة السوريين وحتمية استمرارها بأشكال ووجوه مختلفة.
المصدر: الحياة