في الغالب، يكون حكمنا على أي تجربة أو حدث يمر في حياتنا قاصرا بسبب ضيق نظرتنا إلى الأمور، قد تبدو أحداث حياتنا جيدة في لحظة ما وسيئة في اللحظة التي تليها، وما نراه نعمة في بعض الأمور ربما يتحوّل إلى نقمة، وهكذا، لا نستطيع أن نقيم أي تجربة في حياتنا بعزلها عن سياقها العام، كما لا يمكننا أن نتنبأ بنتائجها بعيدة الأمد قبل أن نعي ما ستؤول إليه الأمور في قادم الأيام.
الأفق الضيق لا يتسع لاحتواء الصورة الكبيرة التي تضم بين أطرها كل الأشياء. لعل معرفة هذه الحقيقة ستجنبنا الكثير من تقلبات مزاجنا بين حزن وأمل وبين فرح وخيبة أمل مرتبطة بمدى نجاحنا أو فشلنا في تحقيقنا لرغباتنا.
وهذا لا يعني أننا يجب أن نتجاهل الشعور بالسعادة أو الخيبة لنتائج تجربتنا، لكن المطلوب ألا ننجرف وراء هذه المشاعر بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي لم يتضح لنا فيه الحجم الحقيقي للصورة كاملة.
تؤكد ليندا بلوم، وهي باحثة وخبيرة في فن العلاقات، أننا جميعا محاصرون بطريقة أو بأخرى بما ستؤول إليه أحداث حياتنا، ولهذا نبالغ في بذل الجهد والتركيز والسعي الحثيث إلى تحقيق النتائج التي نرجو بلوغها، أحيانا بشق الأنفس، فيما نقضي الوقت في الانتظار تحت رحمة ضغوط نفسية فظيعة، وكأننا نستطيع أن نسيّر الأمور كما نشتهي، أو أننا نمتلك معرفة الغيب.
وقد لا ينفعنا بشيء إذا علمنا أن أصدقاءنا أو معارفنا أو حتى الناس الغرباء الذين نصادفهم في الشارع، يشاطروننا انفعالاتنا هذه، بعضنا يعتقد بأنه يمتلك الأدلة على أن الأمور ستؤول إلى نتيجة غير سعيدة، بعض أصدقائنا قد يضعون آمالهم في المستقبل القريب الذي سيكون أفضل من وجهة نظرهم، أما غيرهم فيتملّكهم اليأس على الدوام، وجميعهم يبدون واثقين من تقديرهم للأمور.
وفي كل الحالات، فإن المحصلة لا تكون سوى بالمزيد من الانفعالات والضغوط النفسية، قلق وتوتر، اكتئاب وشعور مبهم بخيبة الأمل.
وتعمل ليندا بالتعاون مع زوجها تشارلي بلوم مستشارين وباحثين في العلاقات الاجتماعية وسبق لهما المشاركة في المؤتمرات في الجامعات ومؤسسات التعليم الأخرى في الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلال خبرتهما الطويلة في هذا المجال، يؤكد الثنائي بلوم أن الخطة الناجحة طويلة الأمد تتطلب معها أن نضع خطة
أخرى موازية، تستبق احتمالات الإخفاق والخسارة المتوقعة ويتوجب معها محاولة فهم الأسباب ومواطن الخلل والاستعداد الكامل لتحمّل هذه الخسارة ومداواة جروحها النفسية.
كما أن النجاح بدورة يتطلب التعامل معه بطريقة ضبط النفس ومقاومة الاستجابة للحظة الراهنة بصورة مبالغة، كما لو أن هذا النجاح سيبقى مستمرا إلى ما لا نهاية؛ فالنجاح مثل الفشل يتطلب معرفة الأسباب والتحصن ضد الظروف المتقلبة أو بمعنى أدق، محاولة رؤية الصورة الكاملة.
من جانبه، يرى الدكتور شاهرام حشمت، أستاذ في الاقتصاد الإداري في جامعة إلينوي الأميركية وهو متخصص في معالجة السمنة والإدمان، أن ضبط النفس يتطلب في المقام الأول تجاهل جاذبية الإغراءات قصيرة المدى من أجل تحقيق أهداف طويلة المدى.
فالأشخاص الذين تغريهم النجاحات أو المكافآت الفورية لا يمتلكون القدرة على اتخاذ القرارات التي تعزز نجاحاتهم، وهذا ما يسميه علماء النفس بـ”المسافة النفسية”، التي تتطلب انفصالا نفسيا عن الواقع الفوري والمباشر والابتعاد قليلا في محاولة لرؤية الصورة الكبيرة، وهذا يشبه كثيرا طريقة رؤيتنا إلى الأشياء المادية والزاوية والمسافة التي نراها من خلالها.
فالمنظور البعيد يعني رؤيتنا إلى الغابة والمنظور القريب يعني رؤيتنا إلى الأشجار والتفاصيل الأصغر، حيث يؤثر الاختلاف في المنظور على طريقة حكمنا على الأشياء وعلى تفسيراتنا للأحداث، ثم يأتي القرار الأكثر صوابا عندما نقف على مسافة أبعد مما يحدث، إذ تتلاشى التفاصيل والمشتتات وتبقى الصورة كاملة وواضحة.
ويعرض حشمت في كتابه “استراتيجيات السلوك الاقتصادي”، الذي يبحث في عمليات القرار الكامنة وراء سلوك الإدمان وطريقة إدارة عملية فقدان الوزن، حقيقة بأن معظم الناس يفضلون الحصول على نتائج سريعة على شكل مكافآت لجهود مبذولة في وقت قصير، على أن ينتظروا نتائج قد تحدث في المستقبل أو قد لا تحدث بفعل مجهودات شخصية ومثابرة وصبر طويل الأمد.
ويتضح هذا السلوك في عملية فقدان الوزن تحديدا، إذ أن الحفاظ على أسلوب حياة صحّية هو عملية بطيئة قد تستغرق وقتا طويلا، لكن نتائجها أكثر استقرارا على المدى البعيد، في حين أن محاولة خسارة الوقت بغير تخطيط والتركيز على الحصول على نتائج آنية وسريعة، قد تعزز مشاعر الرضا وهي المكافأة السريعة والمباشرة، إلا أنها لا تعني بالضرورة نجاحا مستمرا وضمانا أكيدا، حيث أنه وبمجرد تقليل التركيز على برنامج إنقاص الوزن ومحاولة “خرق” بعض المحظورات بتناول وجبات غنية أو التكاسل في ممارسة الرياضة اليومية، قد تؤدي بنا إلى العودة إلى نقطة البداية.
ويورد حشمت في هذا الإطار مقولة نيتشه “من يعرف السبب الذي يعيش من أجله، يستطيع تحمّل العيش بأي طريقة”، وهذا هو مفهوم النظر إلى الصورة الكاملة، إذ أن سؤالنا لأنفسنا عن ماهية الأسباب الكامنة وراء سعينا إلى هدف ما، هو الذي يمنحنا القوة للتجمّل بالصبر في تحقيق هذا الهدف وعدم الاكتفاء بالنتائج الآنية، وهو الذي يمنحنا القوة لتحمل المشقة ويبث الأمل في نفوسنا مهما كان حجم المصاعب التي تواجهنا وقسوتها.
باختصار شديد، عندما يكون تركيز نظرنا في بقعة ضيقة، فإننا نضيّع على أنفسنا فرصة التمتع بالصورة الكبيرة.
المصدر: العرب اللندنية