يعد كتاب كريستيان كوتس ألريكسين «الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط» المذهل من أفضل كتب التاريخ العسكري لهذه «الساحة الجانبية» في الشرق الأوسط. يقدم الكتاب للقارئ العالم الداخلي للمخططين الاستراتيجيين العسكريين والقادة السياسيين الذي كانوا يديرون عمليات الحرب وحاولوا تشكيل النتائج في أعقابها. وفي هذا الإطار، يصحح أيضا الكاتب بعضا من المفاهيم الخاطئة لدى الغربيين بشأن كيفية اندلاع الحرب في الشرق الأوسط وسببها ونتائجها الجيوسياسية.
مثل الحروب الأخرى، خضعت الحرب العالمية الأولى لكثير من الروايات التي تبدو متناقضة في كثير من الأحيان. ولكن لا يبعث ذلك على الدهشة لأنه كما يقول المثل الشهير، أول ضحية للحرب هي الحقيقة. كما أن واقع الحياة يشير إلى أن المنتصرين دائما ما يكتبون التاريخ في النهاية بينما يتحمل المنهزمون كربهم في صمت.
وحتى قبل أن تسكت أصوات المدافع، تسببت الحرب العالمية الأولى في انتشار عدد من الخرافات، يستمر ترديد بعضها حتى اليوم بعدة صور متناقضة. كانت بعض من تلك الخرافات على مدار عقود ذات تأثير كبير على تشكيل الرأي العام والسياسات في كثير من الدول، ولا سيما في الشرق الأوسط.
كانت إحدى تلك الخرافات تتعلق بعالم جديد يتكون من دول قومية تعيش في سلام وانسجام في إطار نظام الحكم العالمي. اخترع هذه الخرافة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الذي حوّل مصطلح «تقرير المصير» إلى قيمة مطلقة في الحياة الدولية. ولكن لو كانت رؤيته الرومانسية تحققت، لانتهت الحرب بظهور ما يزيد على 100 دولة قومية جديدة.
بيد أن العملية استغرقت أكثر من نصف قرن آخر اندلعت فيه نزاعات أخرى لا تحصى ناهيك عن الحرب العالمية الثانية.
عندما سكتت المدافع، تباهى ويلسون بأن «في النهاية يرى العالم أميركا كمنقذ للعالم!» وكان وعده بمساعدة «الشعوب» على بناء حياة جديدة على أنقاض الإمبراطوريات الاستعمارية التي انهارت. وفي الشرق الأوسط، بدأ الكثير من الأقليات في تسمية أبنائهم حديثي الولادة باسم «ويلسون» احتفاء بالزعيم الأميركي ووعده بإقامة «دول لجميع الشعوب».
ولكن سريعا ما سقط ويلسون ضحية للسياسة الداخلية الأميركية وخرج من سيناريو الأحداث. كذلك لم توقع الولايات المتحدة حتى على معاهدة فرساي. واستغرق الأميركيون فترة من الوقت حتى يدركوا أن الإمبراطوريات لا تنسحب من التاريخ بتلك سهولة. هذا ما قاله إدوارد ماندل هاوسن الحليف السياسي لويلسون قبل أن يغادر متجها إلى واشنطن: «سوف أغادر باريس بعد ثمانية أشهر مصيرية، ولدي مشاعر مختلطة. إذا نظرت إلى مؤتمر (فرساي) بأثر رجعي، أجد الكثير الذي يمكن الموافقة عليه، ولكن هناك الكثير أيضا الذي يمكن الندم عليه. من السهل أن نقول ما كان يجب فعله، ولكن من الصعب العثور على وسيلة للقيام به. لا يمكن أن تنهار الإمبراطوريات وتنشأ دول جديدة على أنقاضها من دون حدوث اضطرابات. إن إنشاء حدود جديدة يعني خلق مشكلات جديدة».
تأتي الخرافة الأخرى التي تتعلق بصورة مباشرة بالشرق الأوسط تحت ما يسمى باتفاقية «سايكس بيكو». في الواقع في أي مناقشة تختص بشؤون الشرق الأوسط، يجب أن يتطرق المتحدث إلى سايكس بيكو حتى يظهر بصورة المُطّلع الأنيق. تشير تلك إلى مسودة اتفاقية وقعت عليها كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا، لجعل الإمبراطورية العثمانية، بعدما وقفت إلى جانب ألمانيا والنمسا، في صف الطرف المنهزم في الحرب العالمية الأولى. ونشر ليون تروتسكي، مفوض الشؤون الخارجية في حكومة ما بعد الثورة في روسيا، نص المعاهدة السرية، التي جرى استخدامها لدعم دعاية النظام البلشفي الجديد المعادية للإمبريالية.
ولكن في الواقع، لم يجر التصديق على اتفاقية سايكس بيكو رسميا على الإطلاق من جهة أي من الموقعين عليها، ناهيك عن تنفيذها كما يدعي من يروج لمعارضة الغرب على مدار القرن الماضي. وبدلا من ذلك، تقرر مصير الشرق الأوسط أثناء تمشية جانبية قام بها رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمانصو ونظيره البريطاني ديفيد لويد جورج على هامش مؤتمر فرساي.
نتيجة لذلك، تحولت أراضي الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط التي جرى تقسيمها إلى ما هو أسوأ مما كانت تتصوره اتفاقية سايكس بيكو.
كان من المفترض أن يضفى على التقسيم الجديد صبغة قانونية من خلال مجموعة من المعاهدات من بينها سيفر ومونترو ولوزان، التي لم يصل بعضها إلى المرحلة النهاية من إقرار البرلمانات المعنية. ومن جانبها، وقعت تركيا، الدولة الجديدة الناشئة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، على معاهدة سلام منفصلة مع روسيا البلشفية في برست ليوفسك.
تقوم خرافة أخرى تتعلق بالشرق الأوسط على ما يسمى بوعد بلفور. وهذا التصريح عبارة عن رسالة قصيرة كتبها وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور إلى اللورد روتشايلد، زعيم الجالية اليهودية البريطانية في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917. ورد فيها: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر».
لم تتم مناقشة الرسالة في مجلس الوزراء البريطاني، ناهيك عن إقرارها. وتم إدخالها لاحقا في معاهدة سيفر التي جرى توقيعها مع الإمبراطورية العثمانية.
ولكن على النقيض من الفكرة السائدة في الشرق الأوسط، لم يفسر البريطانيون تصريح بلفور بأنه وثيقة تلزمهم بإقامة دولة يهودية في فلسطين. في الواقع، بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية عندما طرحت فكرة قيام دولة يهودية في مؤتمر تشارك فيه دول عربية وبريطانيا والولايات المتحدة، وصف البريطانيون وعد بلفور بأنه «بلا أهمية».
ووفقا لبارتلي كرام، مبعوث الرئيس هاري ترومان في المؤتمر، اعتقد البريطانيون أن ما رفع عنه الانتداب في فلسطين يجب أن يمثل دولة عربية معلنة. (وكانت هناك أراض مخصصة لإقامة إمارة شرق الأردن).
وكتب كرام أن هارولد بيلي، رجل الخارجية البريطانية وكبير الخبراء البريطانيين في شؤون الشرق الأوسط، كان «مدافعا صريحا ومباشرا عن العرب». واستطرد كرام قائلا: «قال بيلي إنه يجب النظر إلى قضية فلسطين في إطار التوسع السوفياتي القوي.. وسوف يكون من الجيد أن تنضم الولايات المتحدة إلى بريطانيا في عملية إنشاء طوق صحي يتكون من الدول العربية. إذا جرى إعلان فلسطين دولة عربية، سوف تكون حلقة قوية في هذا الطوق».
وكانت نتيجة معارضة لندن لإقامة الدولة اليهودية حرب عصابات مريرة شنتها جماعات يهودية مسلحة ضد القوات البريطانية في فلسطين.
وفي مفارقة، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يدعمان إقامة دولة يهودية على عكس المخططات البريطانية.
وكما لم تؤد اتفاقية سايكس بيكو إلى قيام دولتي العراق وسوريا، لم تنشأ إسرائيل بسبب وعد بلفور ولكن بسبب الأمم المتحدة.
تدور خرافة أخرى أيضا تتعلق بالشرق الأوسط حول خرافة تي إي لورنس، أو من يطلق عليه لورنس العرب، التي تشير إلى أن رحالة بريطانيا قاد عدة مئات من المقاتلين العرب، وهزم الإمبراطورية العثمانية وأنشأ «الشرق الأوسط الجديد».
منذ المراحل الأولى في الحرب، تناول البريطانيون فكرة التحريض على قيام ثورة مسلمة ضد العثمانيين وحلفائهم الألمان في الشرق الأوسط. وفي عام 1915، ألف الدبلوماسي والكاتب جون بوشان روايته «العباءة الخضراء» التي تتحدث عن أحد النبلاء البريطانيين الذي كان يعمل مع جهاز الاستخبارات ويتنكر في زي رجل دين ليقود ثورة إسلامية ضد الخليفة العثماني. (نشر الكتاب في عام 1916).
عندما ظهرت رواية «العباءة الخضراء»، كانت بريطانيا تعد أكبر إمبراطورية «إسلامية» في العالم من حيث تعداد السكان المسلمين، وذلك لأنها كانت تحكم الهند ومصر ومناطق في شبه الجزيرة العربية.
كذلك كان الألمان لديهم خيالات خاصة بهم تجاه الإسلاميين. لقد نشروا شائعات بأن القيصر فلهلم اعتنق الإسلام ونشر صورا لزيارته إلى القدس قبل اندلاع الحرب حيث حرص على الوصول إليها على قدميه ومن دون الحراس المسلحين من حوله. كان لدى الألمان أيضا روايتهم بشأن لورنس العرب ممثلة في صورة الكولونيل غوستاف واسموس، ضابط الاستخبارات الذي جرى إرساله إلى إيران لتشكيل عصابات معارضة للبريطانيين تعمل على قطع إمدادات النفط التي تصل إلى القوات البحرية الملكية.
ونشر الألمان نسختهم الخاصة من رواية «العباءة الخضراء» تحت اسم «الفجر الأحمر»، التي يحمل جزء منها سيرة شخصية وجزء آخر خيالي عن تحالف جرى بين الألمان والمسلمين بهدف تدمير الإمبراطورية البريطانية وتحرير الهند وإقامة خلافة إسلامية عالمية.
حسنا، تستمر الخرافات في الوجود بصورها المختلفة نظرا لأن الواقع الذي عزز ظهورها لا يزال يؤثر على حياة أعداد كبيرة جدا من البشر في مناطق كثيرة حول العالم، وأبرزها الشرق الأوسط.
عن الشرق الأوسط / الطبعة الدولية