وسط نصوص يغلب على معظمها التشابه كان يجب على الشاعر أن يفكر في تفرّد تجربته واستلهامها من مناخات جديدة، لم يسبق لأحد التفكير فيها، والعمل على اجتراح عوالمها الوليدة. الشاعرة البحرينية جنان العود أحد الأصوات الشعرية الشبابية المسكونة بالبحث الجاد عن الشعر ونصوصه وفردانيته وتفرده في عالم لم يعد يتقن فهم نفسه. “العرب” كان لها مع الشاعرة هذا الحوار حول تجربتها الشعرية الأخيرة، وبعض القضايا الثقافية الأخرى.
صدرت مؤخراً عن دار مسعى في البحرين المجموعة الشعرية الثانية للشاعرة البحرينية جنان العود حاملة عنوان “فيزياء الفراغ الأبيض بين لوحتين”. وتأتي هذه المجموعة بعد مجموعتها “كونشرتو نحو جهة مأهولة بالسلام” الصادرة عام 2012. وهي تفكر حاليا في كتابة رواية قصيرة مكثفة لكن هذا الأمر ما زال قيد الانتظار.
الشعر كالفيزياء
في زمن الحرب وصراعات الهوية ترى جنان العود أن الشعر مهما تبدل الزمن وتغيرت الأحوال سيظل ضميراً للعالم كله، فهو نعمة هائلة تمكنك من استيعاب وتفكيك بعض مجريات الحياة، مؤكدةً على أن الشعر يحتاج إلى مناخات معينة لينمو ويتطور، كما أنه يحتاج إلى الكثير من الجدية والتتبع والاشتغال بعيدا عن ترهات الإلهام الذي يحضر الشعراء.
تقول الشاعرة “لكل قصيدة زمنها الذي يساهم في خلقها وتشكيلها، لكن الشعر الجيد يجب أن يتناسب مع كل الأزمنة تماما كالكلام المقدس. الخلاص ليس وظيفة أحد. ولا توجد وصفة سحرية لتحقيق الخلاص. الشعر لم يكن يوما طريقا للخلاص، لذلك علينا أن نكتب كثيراً لنفهم فقط. الشعر محاولتنا للفهم، للكشف عن هذا الوجود الهائل، للابتكار؛ الابتكار في اللغة وفي الحس وفي التعبير عما يجب قوله”.
بداية تحدثنا شاعرتنا عن مناخات “فيزياء الفراغ الأبيض بين لوحتين” قائلة “هو محاولة لابتكار هندسة جديدة للحياة، والنفس البشرية بكل ما يحيطها من مؤثرات خارجية برؤية فيزيائية. القصائد نثرية، تشكلت ضمن توليفة يندمج فيها جَمْع من عناصر الفيزياء والحياة والشعر. الفيزياء التي لو قرأتها وتأملت ظواهرها لوجدت أنها تشبه الشعر إلى حد كبير حتى تكاد تكون هي الشعر ذاته؛ من حيث الفن والعمق والغموض والأسرار الساحرة التي لا يمكن تفسيرها بشكل حتمي أبداً.
كما أن هنالك وجه شبه كبير بين الإنسان والفيزياء، فهي تشبهه في تحركاته وتحولاته المزاجية والنفسية العاطفية والعقلانية، حتى أنها تتقاطع معه في الأسئلة التي يطرحها باستمرار خلال مراحل حياته المختلفة. المثير للسخرية أنني لم أكن أحب الفيزياء يوماً، وكنت أكرهها كمادة دراسية، لكن حدث ما حدث الآن، فقد تنامى لدي شغف شديد بالفيزياء عندما تيقنت من مستوى الإغواء الشعري فيها”.
ما بين تجربة “كونشرتو نحو جهة مأهولة بالسلام” و”فيزياء الفراغ الأبيض بين لوحتين” تخلص العود بتجربتها إلى مجموعة ركائز، من ضمنها أهمية التركيز على ضرورة تفرد الشعر النسوي، كيف يغدو أكثر انفتاحا وتوهجاً؟.
نسألها هنا كيف يجب على الشعر النسوي أن ينهض؟ وكيف للمرأة الشاعرة أن تكتب قصيدة تتجرد فيها من تبعيتها للرجل وأن تتفرد بكيانها وبهويتها؟ وترى الشاعرة أنها وجدت قصيدة النثر -بعد التأمل فيها- كأنها قد خُلقت للمرأة، فهي تستطيع التعبير بشكل أخاذ يتسم بالحرية ضمن هذا النوع الأدبي، معتمدةً في ذلك كله على مكون أساسي ومدروس تبنى عليه القصائد بانسيابية تتكامل في كل نص مع مراعاة الحفاظ على مستوى الإيقاع، والتوقيت في خلق الدهشة والحيوية اللازمة.
وضمن هذه الرؤية ترى أنه يجب نسف القصائد الفضفاضة التي تشبه الثرثرة والتي تفاقمت بعد ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، تلك التي تتداخل فيها عدة مواضيع إذا اجتمعت معاً قد تدمر بنية النثر والشعر”.
أدب متحفظ
تسكن جنان العود كشاعرة من مواليد 1985 الكثير من الأسئلة المتفرقة في عدة ميادين، وكل سؤال يطرح نفسه عليها بإلحاح، بل ويجرّ سؤالاً آخر. ولا تظن أن ثمة أجوبة شافية عن هذه الأسئلة، تقول “علي الاعتراف بأن هذا القلق مثمر، ويساهم في إنعاش الفضول وازدهار النص. على رأس الأسئلة يحضرني الآن ‘إلى أين ستصحبنا التفاهة التي صنعتها التكنولوجيا وأدواتها؟‘.
فنحن جيل الثمانينات من القرن الماضي استطعنا اللحاق بما تبقى من الزمن البطيء قبل غزو الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا وقد شهدنا العديد من الأيام البطيئة التي منحتنا الوقت الكثير لتأمل وتفكيك العديد من الصدمات الدينية، والسياسية، والثقافية الإعلامية. حينها لم تكن المعلومات سريعة كما الآن، ولم تكن الصورة تافهة ومستهلكة كما الآن، وكم كان الوقت في متناولنا”.
وتتابع في الشأن نفسه “لعل من أكثر المشاهد حضورا في ذاكرتي كابنة الثمانينات منظر جدار المعلبات والمؤن الغذائية التي حرص والدي على تخزينها وصفها بإحكام في غرفة قد أوصدت نوافذها بشريط أبيض لاصق، كنا ننام فيها جميعا كورق العنب المتراص، بينما يدوي صوت صفارة الإنذار خلال حرب الخليج، ويبدأ برنامج ‘لاري كنغ’ في بث مباشرعلى قناة ‘سي إن إن‘، والتي قد تختفي أحياناً إذا لم يحالفك الحظ مع لاقط القنوات الحديدي. ثم مررنا بأحداث التسعينات التي حفرت بكياني الكثير من الصمت والخوف اللذين أسهما بشكل ما في خلق حالة فهم مبكر للمجتمع الذي أنتمي إليه”.
لا تعتقد شاعرتنا أن هنالك ملامح ثقافية عميقة بعد الربيع العربي في طريقها إلى التغيّر والتبدّل خلال المرحلة القادمة، فهي ترى أن “الطابع الغالب على الأدب العربي أنه متحفظ وفيه الكثير من الجمود.
كما أنه محكوم بتابوهات كثيرة، ويشتمل على جرعة لا بأس بها من البكائيات، والإكليشيهات حول الحب والعلاقات الاجتماعية، والصراعات الإقليمية والقضايا السياسية المتجذرة، وما يتبعها من مبادئ عروبة وولاء للدين، وللسلطة أو الأرض وما شابه”.
وتضيف “التغيير الذي طرأ هو زيادة جرعة عنصر الثورة وما يتبعها من نتائج أو خسائر بشرية ومادية. فتجد الكثير من الأعمال التلفزيونية، والروايات والداووين الشعرية التي تزامن إصدارها مع الربيع العربي صارت تطفح بمؤثرات الحرب والدماء والتضحيات بين مؤيد وداعم للتغيير، وساخر يلعن الربيع العربي برمته.
لكن لا ننكر أيضا أن الربيع العربي أنتج تغييراً بسيطاً في الثقافة السائدة، بحيث ولدت بعض الأعمال الأدبية الجيدة وإن كانت ضمن نسق مماثل، لكن يمكن اعتبارها بناءة، سيما تلك التي تلامس القضايا الإنسانية وما تصنعه الثورات بالناس.
كما أنه استحدث عناوين مهمة ذات صلة بالفرد، والجماعة، والبقاء، والتوغل، والتعايش في خضم هذه الفوضى. لكن أظن أنه يجب الحذر لأن الاستغراق والمبالغة في استخدام موضوع الربيع العربي قد يتحولان بمرور الزمن إلى أمر مبتذل أو مستهلك”.
وإثر سؤال عن قراءتها للمشهد الشعري البحريني المعاصر لا سيما الشبابي، تجيب ضيفتنا “لدينا طاقات شعرية غنية وإبداعية، لكنها قليلة نسبيا إذا قيست على مستوى الجيل الشاب، سيما الأصوات النسائية.
تجد عادة الأسماء ذاتها تتكرر. الأمر اللافت أن أغلبهم يأخذون على عاتقهم مسألة كتابة الشعر بجدية من حيث تنويع تقنيات الكتابة والاشتغال على خلق قصيدة مختلفة في كل إصدار.
لكن من جانب آخر، هنالك فئة قد تغيب ببساطة، فلا تستمر في مشروعها الشعري، لعل ذلك يرجع إلى أسباب عديدة منها: عدم توافر أرضية ثقافية مريحة ومُشجعة، غياب الحركة النقدية المُسخرة للاهتمام بالمنجزات الشعرية وتحليلها، وهنالك طبعا الأسباب الاجتماعية الشخصية التي تخص كل شاعر، أو الاقتصادية كتلك التي تعيقه عن الاستغراق في الكتابة لعدم تفرغه من العمل، ومنها عدم توافر المادة الكافية واللازمة لطباعة المنجزات الأدبية”.