الأهم من أن نحكي تفاصيلنا للآخر، وهي تفاصيل قد لا نجرؤ حتى على الحديث بها لأنفسنا، هو أن نثق أننا نضعها بين أيد أمينة، تعرف قيمة الاعتراف وتمجده.
تصلني رسائل واستشارات مختلفة كل يوم، لكن ما دعاني للكتابة عن هذه الرسالة تحديدا، هو معرفتي بأن الأمر يكاد يشبه الخيانة الفكرية والأدبية لمبادئ علاقة تأسست على التفاهم والثقة والتسامح وهو انقلاب على الفكر الذي أسس عليه طرفان علاقتهما، وتعارفا على مبادئها ضمنيا، ولهذا أشعر تماما بما تعانيه صاحبة الرسالة من ألم وخيبة وإحباط.
في رسالتها تشتكي إحدى السيدات من “انقلاب” زوجها عليها بعد فترة من زواجهما بسبب قصص وحكايات عن ماضيها روتها له بنفسها.
تقول هذه السيدة إنها تعرفت على رجل من سنها وأحبته وكانت بينهما ثقة وصراحة كبيرتان، مما دعاها إلى أن تحكي له كل ما مر بها من علاقات وخيبات ومشاكل مع رجال سابقين عبروا حياتها، وكان يبدي تفهما وتسامحا، بل وحاول أن يعالج آثار ومخلفات الماضي داخلها، عبر تحريضها على التسامح والنسيان وبدء حياة جديدة، كما كان حريصا على أن يخرج من داخلها المرارة المترسبة لتصفو روحها وحياتها لتجربة جديدة.
لكن الأمور انقلبت تماما بعد الزواج، وأصبح الرجل الذي سمعها وساعدها واستخرج من داخلها كل أسرارها، يستغل معرفته بأدق تفاصيل حياتها ليذكرها بها كلما جد خلاف بينهما، وقد يصل إلى السخرية والتهكم والاستهتار بمشاعرها ووصفها بنعوت غير لائقة.
النصيحة المتداولة غالبا وتتلقاها كل امرأة تقريبا من أمها وصديقاتها والمقربين منها هي “لا تحكي له كل شيء”، وهو ما يحصل في معظم الحالات تجنبا لمشاكل مجانية لا أحد ينتظرها. وقد يكون هذا حلا عمليا يوفر الكثير من الجهد والمشقة، لكنه لا يؤسس لعلاقة مفتوحة وصريحة ومتينة.
من حق كل طرف أن يعرف كل شيء عن حياة وماضي الطرف الثاني، لأنه في نهاية الأمر يريد أن يقترب من ملامح شخص سيقضي معه حياته، ويلمس روحه، وهذا أمر جيد لا محالة، فدون معرفة بعضنا البعض لا يمكن أن تمتد بيننا مشاعر حقيقية.
الأهم من أن نحكي تفاصيلنا للآخر، وهي تفاصيل قد لا نجرؤ حتى على الحديث بها لأنفسنا، هو أن نثق أننا نضعها بين أيد أمينة، تعرف قيمة الاعتراف وتمجده، وتقدر اختيارنا لها دونا عن باقي البشر لتكون موضع سرنا. اتفاق اليوم هو اتفاق الغد، فلا يجوز “الانقلاب” عليه أو استغلاله لاحقا لأي سبب أو دافع.
الأيام تتغير وسلوك البشر ومشاعرهم تتغير معها، وقد تصل المشاكل والخلافات إلى درجة يفقد فيها البشر حكمتهم وصبرهم وحصافة تفكيرهم، لكن هذه اللحظات الدقيقة، الصعبة، المعقدة هي ما يميز الأشخاص عن بعضهم ويضعهم على محك التجربة الحقيقية ويظهر معدنهم.
الاعتراف سمة العلاقات المتينة، العلاقات التي تنبني على صداقة حقيقية وحب حقيقي واحترام حقيقي، وتقارب فكري وعمق إنساني، وقد يكون من أجمل المراحل التي يمر بها طرفا العلاقة، لأن الذي يحدثك بما في نفسه دون خوف أو تردد أو توجس إنما يقول لك: أنت أنا وأنا أنت.
أي عودة عن هذا التعهد الضمني باحترام الاعتراف ودوافعه وشروطه هي خيانة مؤلمة وقاسية على الطرف الآخر، وأي إخلال بقانون يحكم علاقة ما، هو إخلال بجوهر العلاقة.
قد تكون خيانة الجسد مؤلمة، لكن خيانة الفكر والمبادئ أشد إيلاما، وأكثر أذى، بالأخص لمن يؤمنون بأن الحياة شراكة خالصة وصداقة بين زوجين، ولمن لا يجدون حرجا أو يخجلون من ماضيهم، ولمن يقدرون الخطأ الإنساني ويتعاملون معه على أنه جزء من إنسانية البشر وقيمتهم، ويبحثون عمن يشاركهم هذا الاعتقاد.
العرب اللندنية